ملخص
من نجل خياط بسيط في حي القصبة بالجزائر العاصمة إلى أحد قادة الأسطول العثماني الذي بسط هيمنته على حوض البحر الأبيض المتوسط وتهديد الأوروبيين والأميركيين... ما قصة "رايس حميدو"؟
واحد ممن ركبوا البحر فروضوا أمواجه حتى ذاع صيته خلال فترة حكم العثمانيين للجزائر، ليجري تكريم ذكراه بتمثال شامخ في قلب العاصمة الجزائرية، بعد إرغامه الدول الأوروبية على دفع مقابل عبور سفنها البحر الأبيض المتوسط.
أما التمثال فهو لـ"رايس حميدو"، الذي يزين ساحة الشهداء في الجزائر، ويعد نقطة انطلاق نحو ضاحية في غرب العاصمة تحمل اسمه أيضاً، لكن تكريمات الرجل لم تتوقف عند هذا الحد، بل جرى إطلاق اسمه على إحدى السفن الحربية المهمة في القوات البحرية الجزائرية، والمسلحة بـ16 صاروخاً، ويسيرها 60 ضابطاً وبحاراً.
ولقب "رايس" أو "قبطان رايس" يعود إلى العهد العثماني، إذ كانت تطلق على كل من له صلة بالبحر. و"رايس البحر" كانت أهم فرقة عسكرية بحرية في الجيش الجزائري خلال تلك الفترة تجوب السواحل وتفرض الضرائب على سفن الدول الأخرى مقابل تأمين الحماية لها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم يكن العثمانيون يعلمون أن نجل خياط بسيط في حي القصبة بالجزائر العاصمة، سيتمكن من قيادة الأسطول العثماني الذي بسط هيمنته على حوض البحر الأبيض المتوسط طيلة عقود من الزمن.
شغف البحر
ولد "رايس حميدو"، واسمه الحقيقي محمد بن علي، في حي القصبة سنة 1770 لعائلة جزائرية تتحدر من منطقة يسر (50 كيلومتراً، شرق العاصمة)، كان أبوه خياطاً معروفاً لدى أهل الحي، أمنيته الوحيدة أن يورث حرفته لابنه عندما يشتد عوده، لكن أحلام الطفل "حميدو" – وهو تدليل لاسم محمد - كانت أكبر من أن تنحصر داخل دكان خياطة وكومة قماش، وذات يوم فضحه إعجابه بالقصص والروايات التي يسمعها من رجال "رايس البحر" فباح بشغفه لوالده. وقال "سأصبح رئيساً للبحر عندما أكبر"، وأجابه والده بأنه لن يتمكن من ذلك لأنه جزائري وليس تركياً.
لم تثبط إجابة الوالد من عزيمة "حميدو"، فكان يستغل فترة ذهابه لتعلم الخياطة لدى ورشة أبيه ويهرب إلى ميناء الجزائر لمشاهدة السفن الراسية عليه، ليقرر أن يصبح بحاراً في إحدى سفن البحارة الجزائريين، وهو لم يتجاوز سن 10 سنوات فقط، فكانت وظيفته في سفينة "رايس ميمو" هي "صبي المقصورة" بمهام بسيطة تعلم منها كثيراً، وبعد اجتيازه اختبارات طائفة رايس البحر، أصبح رئيساً للسفينة، وهو في سن الـ25.
وسرعان ما سطع نجم "رايس حميدو"، فعلياً، بعد مشاركته البارزة في حملة أطلقها حاكم منطقة الغرب الجزائري الباي محمد بن عثمان الكبير لتحرير مدينة وهران عام 1792 ميلادي، من قبضة الأسطول الإسباني، واستطاع حميدو تحويل هزيمة وشيكة للأسطول العثماني إلى نصر أدى إلى تحرير وهران، فكافأه الباي بتعيينه رئيساً على كامل البحرية في وهران، اعترافاً منه بدوره في تحريرها.
وتمكن "رايس حميدو" في إحدى معاركه البحرية من الاستيلاء على واحدة من أكبر سفن الأسطول البرتغالي، وهي سفينة "البورتقيزية" التي كانت مزودة بـ44 مدفعاً، وكان على متنها 282 بحاراً، ثم أضاف إليها سفينة أميركية هي "أميركانا"، إضافة إلى سفينته الخاصة، وأصبح أسطوله الخاص يتكون من هذه السفن الثلاث، ومن 44 مدفعاً فرضت سيادتها على البحر لأكثر من ربع قرن.
معركة فاصلة
في عام 1793، خاض "رايس حميدو" واحدة من أهم المعارك البحرية التي أوصلت اسمه إلى الضفة الغربية من المحيط الأطلسي، حين نشبت بينه وبين السفن الأميركية معركة انتهت باستيلائه على إحدى تلك السفن بما تحمله من غنائم وأسرى، وكان هدفه إرغام أميركا على الاعتراف بسيادة الجزائر على الجزء الجنوبي من البحر الأبيض المتوسط وتسديد إتاوة الحماية كباقي الدول الأخرى.
وبلغت أعداد السفن التي تم اغتنامها في فترة تولي "رايس حميدو" قيادة الأسطول الجزائري، خلال 15 سنة، نحو 113 سفينة، وأجبرت تحركاته في الحوض الغربي للمتوسط لأميركا على توقيع معاهدة مع الجزائر عام 1795، جرى من خلالها دفع أميركا مبالغ كبيرة، إضافة إلى ضريبة سنوية تحصل عليها الجزائر على شكل معدات بحرية، من أجل أن يكف "رايس حميدو" عن استهداف السفن الأميركية.
ودفعت هذه الأحداث الكونغرس الأميركي عام 1794 إلى اتخاذ قرار بإنشاء أسطول حربي (قوات المارينز حالياً) لحماية السفن التجارية الأميركية، إذ قام هذا الأسطول بمهاجمة السواحل الليبية عام 1796، إلا أن هذه الهجمات باءت بالفشل.
يذكر المؤرخ جون وولف في كتابه "الجزائر وأوروبا"، أن "السفير الأميركي لدى لندن جون آدامز اقترح على الحكومة الأميركية شراء السلم مع الجزائر، كما فعلت الدول الصغيرة الأخرى، أما توماس جيفرسون الذي كان وزير الخارجية والسفير الأميركي لدى باريس آنذاك، فقد حث على إنشاء أسطول بحري أميركي لفرض احترام الجزائر للعلم الأميركي في المتوسط".
وبمرور السنوات بدأت الضرائب المدفوعة للجزائر تنهك الخزانة الأميركية، فقررت واشنطن التوقف عن الدفع عام 1812م، فردت الجزائر بإعلان الحرب على السفن الأميركية بسبب هذا القرار، وصارت سفنها هدفاً لها.
وتولى "رايس حميدو" مهمة ملاحقة السفن الأميركية العابرة للبحر الأبيض المتوسط، فقامت أميركا بإرسال أسطول عسكري يتكون من تسع سفن حربية، بقيادة الأميرال ستيفن ديكاتور، من أجل حماية سفنها التجارية في "المتوسط".
حصار أميركي
وفي 16 يونيو (حزيران) عام 1815، وبينما كان "رايس حميدو" يقود سفينته "البرتغالية" في عرض البحر الأبيض المتوسط، باغته الأسطول الحربي الأميركي الذي كان يقوده الأدميرال البحري ديكاتور، وقام بمحاصرة سفينته من كل الجهات.
وتقول مصادر تاريخية إن "رايس حميدو" جمع بحارته ومقاتليه قبل أن تندلع المعركة، وألقى فيهم خطاباً تحفيزياً ختمه بوصيته الأخيرة بالقول، "عندما أكون ميتاً، أصدر أوامر بإلقائي في البحر، لا أريد أن يحصلوا على جثتي".
ونشبت معركة بحرية حامية الوطيس بين "رايس حميدو" والأسطول الأميركي، أدت إلى إصابته بقذيفة مدفعية إصابة مباشرة، أدت إلى وفاته، ودفن كما أوصى بالبحر، لتنتهي قصة واحد من أبرز قادة أسطول الجزائر العثمانية حينها.
وعلى رغم أن البحرية الجزائرية استطاعت استرداد سفينته التي كانت أميركا تسعى إلى أخذها، فإن موت "رايس حميدو" تعد بداية لنهاية السطوة الجزائرية البحرية على البحر الأبيض المتوسط حين انهزمت في معركة نافارين الشهيرة عام 1827 التي مهدت لدخول الاحتلال الفرنسي إلى البلاد في عام 1830.