ملخص
بيانات مجلس الذهب العالمي تشير إلى أن مصر كانت أكبر مشتر في العالم للمعدن خلال الربع الأول من العام الماضي
لأعوام لجأت البنوك المركزية إلى تحصين أصولها النقدية والذهبية في أقبية وسراديب أرضية، بينما صارت الخزائن الرقمية ببصمات اليد والعين والصوت هي الأكثر شيوعاً وصوناً لهذه الثروات، ويشار اليوم إلى السراديب والأقبية داخل هذه المؤسسات مجازاً كتعبير هو أقرب للصورة الذهنية المرادفة لمفردة خزائن في أدمغة الناس.
ولا يعلم على وجه الدقة حجم ما في سراديب البنك المركزي المصري وخزائنه من الذهب، إلا أن أرقام رسمية من النشرة الإحصائية الشهرية الصادرة عنه تظهر نهماً مصرياً على شراء وتخزين أطنان من الذهب خلال الأعوام الأخيرة.
وبالطبع ليست مصر الأكبر من بين الدول امتلاكاً لاحتياطات الذهب، لكن المؤكد أن سلوكها الشرائي النشط يفوق حجم طلب البلدان الأخرى على المعدن النفيس خلال فترة قصيرة.
وبشهية مفتوحة واصلت مصر تكديس المعدن الأصفر لدى بنكها المركزي، في وقت تعاني البلاد شح النقد الأجنبي وتراجع احتياطاتها من العملة الصعبة إلى مستويات قياسية، مما يثير تساؤلاً حول الغاية من شراء المعدن الأصفر بهذا الحجم، وما إذا كان بنك البلاد المركزي ماض في فلك بنوك مركزية خلعت عباءة الدولار رغبة في تقليص نفوذه، أم أن للأمر أهدافاً أخرى.
وتظهر الأرقام ارتفاعاً في مكون الذهب ضمن الاحتياطات الدولية لدى مصر، مما يشير إلى عمليات شراء واسعة نفذتها القاهرة ضمن مساع لزيادة التعرض للمعدن الأصفر، في وقت ظلت احتياطات البلاد من النقد الأجنبي تنمو بوتيرة أضعف.
وفي أبريل (نيسان) الماضي أعلن البنك المركزي المصري ارتفاع صافي احتياطات البلاد من النقد الأجنبي إلى 34.447 مليار دولار خلال مارس (آذار) 2023، في مقابل 34.352 مليار دولار في فبراير (شباط)، لكن مع العودة لأحدث نشرة إحصائية صادرة عنه تبين أن المبلغ يضم 26.477 مليار دولار عملات أجنبية، و7.950 مليار دولار من الذهب، و22 مليون دولار وحدات حقوق السحب الخاصة.
مئات الأطنان من الذهب
ولا يعرف تحديداً وزن ما تملكه خزائن البلاد من المعدن النفيس، إذ لا تفصح البلاد عن تفاصيل الشراء ومواقيته ومصادره وأسعاره، إلا أنه يمكن القول إن القاهرة تمتلك مئات الأطنان، بالنظر إلى سعر الأوقية بداية العام (1830 دولار)، وقيمة ما تمتلكه من الذهب (7.950 مليار دولار).
وبمراجعة مكون الذهب تحديداً في احتياطات مصر الدولية، يتبين أن لدى القاهرة ذهباً بقيمة 2.7 مليار دولار في يونيو (حزيران) 2018 مقابل 42 مليار دولار عملات أجنبية وحقوق سحب خاصة، ثم زادت من مكون الذهب في العام التالي، أي في يونيو 2019، ليصبح لديها ما قيمته 2.82 مليار دولار، ثم ضاعف البنك المركزي المصري مشتريات الذهب في يونيو 2020 ليصبح لديه ما قيمته 4.076 مليار دولار من المعدن الأصفر.
وبلغت مشتريات البنك المركزي المصري خلال يونيو 2021 من الذهب ما قيمته 4.111 مليار دولار، ثم 7.314 مليار دولار ذهباً في يونيو 2022، وصولاً إلى 7.326 مليار دولار من المعدن الأصفر بنهاية عام 2022، وارتفع الرقم إلى 7.773 مليار دولار خلال يناير (كانون الثاني) الماضي، ثم 7.372 مليار دولار في فبراير الماضي، وأخيراً 7.950 مليار دولار من الذهب في مارس الماضي، وهي أحدث حصيلة معلنة رسمياً من جانب البنك المركزي.
تقليص نفوذ الدولار
لكن بمراجعة المكونات الأخرى من احتياطات القاهرة يتبين أن البلاد كانت حريصة على زيادة مشترياتها من الذهب في ظل تراجع رصيد العملات الأجنبية، في مسعى على ما يبدو إلى تقليص نفوذ الدولار ودعم الجنيه المصري عبر التحوط بالمعدن الأصفر.
التراجع الملحوظ في رصيد البلاد من الدولار ينسجم مع بيانات صندوق النقد الدولي، إذ أعلن أن احتياطات البنوك المركزية من الدولار الأميركي تراجعت نهاية العام الماضي إلى 58.36 في المئة، وهو أدنى مستوى منذ عام 1995، في وقت تحرص فيه القاهرة على تنويع إصداراتها من السندات غير المقومة بالدولار الأميركي، ومنها سندات السموراي المقومة بالين الياباني العام الماضي بـ 500 مليون دولار، وسندات الباندا المقومة باليوان الصيني، والمقرر إصدارها بـ 500 مليون دولار في الربع الأول من العام المالي المقبل، حتى إن البلاد صارت أيضاً أكبر مصدر لسندات اليورو في أفريقيا بحسب "بلومبيرغ".
دولار يؤزم الاقتصاد
وتتحمل الأسواق الناشئة ومن بينها مصر عبء الدولار القوي، نظراً إلى ارتباط عملات هذه الأسواق بالدولار الأميركي، وهو ما يتعين معه سداد التزاماتها بالدولار، وبالتالي تزايد ديون هذه الدول ودفع عملاتها المحلية إلى منطقة السقوط الحر.
مجلس الذهب العالمي في أحدث بياناته الدورية يعطي لمحة عن مشتريات البلاد من المعدن الأصفر، فيقول إن مصر صارت أكبر خامس مشتر للمعدن خلال الربع الأول من العام الحالي، بإجمال سبعة أطنان من الذهب، بعد تركيا والصين واليابان وإيران، في حين كان "المركزي المصري" أكبر مشتر في العالم خلال الربع المماثل من العام الماضي، بإجمال 44 طناً.
وتظل عوامل التوترات الجيوسياسية والتضخم وأسعار الفائدة حاضرة في أذهان محافظي البنوك المركزية ممن عبروا في مسح حديث لمجلس الذهب العالمي عن استمرار مخاوفهم في شأن كثير من الأزمات العالمية، مما يرجح أن يكون طلب البنوك المركزية مع هذه المخاوف قوياً على الذهب خلال الفترة المقبلة.
وفي مايو الماضي ارتفع المعدل السنوي للتضخم الأساس ليصل إلى 40.3 في المئة من معدل 38.6 في المئة و39.5 في المئة في أبريل ومارس الماضيين على التوالي، بحسب بيانات البنك المركزي المصري، في حين ارتفع المعدل الشهري للتضخم العام ليصل إلى 2.7 في المئة الشهر الماضي من 1.7 في المئة في الشهر السابق له.
وهبط سعر الجنيه المصري رسمياً أمام الدولار الأميركي من مستوى 15.75 للدولار الواحد في مارس 2022 وصولاً إلى متوسط 30.85 للدولار في يونيو الحالي، في حين احتفظت السوق السوداء بأسعار أكبر للدولار عند مستوى 40 جنيهاً (1.29 دولار بالسعر الرسمي) في المتوسط.
وأضعف شح الدولار الجنيه المصري عقب دورة التشديد النقدي التي مارستها البنوك المركزية، وفي مقدمها مجلس الاحتياط الفيدرالي نهاية عام 2021، وأدت إلى خروج 20 مليار دولار من سوق أدوات الدين الحكومية بنهاية الربع الأول من عام 2022، وتراجع الجنيه المصري أمام الدولار الأميركي 97.7 في المئة عبر ثلاث عمليات من تحرير سعر الصرف.
ويرى متخصصون أن فترات الاضطراب السياسي والاقتصادي العالمية دفعت البنوك المركزية نحو زيادة حصة الذهب ضمن احتياطاتها الدولية، بخاصة في عالم متشرذم يسوده الانقسام بسبب الحرب الروسية - الأوكرانية وتباين المواقف حيال السياسة النقدية سواء بالتيسير أو التشديد.
سياسة باكرة
ويعتقد الرئيس السابق لبنك التنمية الصناعية ماجد فهمي أن التذبذب الكبير في أسعار العملات وبخاصة الدولار الأميركي في خضم أحداث عالمية متسارعة بدأت بوباء كورونا ثم التشديد النقدي من جانب البنوك المركزية حول العالم لمكافحة التضخم وصولاً إلى الحرب الروسية – الأوكرانية، تفسر هذا الاتجاه الذي تبنته القاهرة باكراً، وهو توجه عام لدى الأفراد والحكومات على حد سواء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرى ماجد فهمي في حديثه لـ "اندبندنت عربية" أن هناك اتجاهاً عالمياً في ظل عالم متشرذم ومنقسم إلى خفض حصة الدولار الأميركي من الاحتياطات الدولية والتجارة، وهو اتجاه تبنته دول روسيا والصين والهند قبل أن يتسع لدول أخرى كما في تجمع "بريكس" مثل البرازيل وجنوب أفريقيا، مما يجعل بقية الدول ومنها مصر حذرة في شأن زيادة احتياطاتها الدولية لدى بنوكها المركزية من الدولار الأميركي، إذ إن أي تراجع لحصة الدولار عالمياً قد يتبعه تراجع في القيمة، وعليه تصبح احتياطات هذه الدول أقل قيمة مما هي عليه اليوم.
وتقدمت مصر بطلب رسمي للانضمام إلى تجمع "بريكس" وفق ما صرح به السفير الروسي في القاهرة لوسائل إعلام، نقلها عبر صفحته الرسمية على موقع "تويتر" منتصف يونيو الحالي، وذلك بعد أقل من شهرين من تصديق الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي على انضمام بلاده إلى بنك التنمية الجديد التابع لـ "التجمع" في مارس الماضي.
ويؤكد ماجد فهمي إلى أن الأرقام تشير إلى أن البنك المركزي المصري بدأ في تخزين الذهب منذ 2019، وهو العام الذهب شهد ظهور فيروس كورونا في الصين قبل انتشاره في العالم، وهي الأزمة التي لحقتها أزمات عالمية أخرى مثل تشديد السياسة النقدية من جانب البنوك المركزية منذ نهاية 2021 ثم الحرب الروسية - الأوكرانية مطلع العام الماضي، مما يفسر أن الخطوة المصرية كانت على سبيل التحوط ضد تقلبات سعر الصرف ودعم العملة المحلية.
ويوضح المتخصص المصرفي أن الذهب معروف تاريخياً كمخزن للقيمة، وتحركاته اليومية صعوداً وهبوطاً لا تميل إلى القفزات، إذ إنه أكثر هدوءاً مقارنة مع العملات وبخاصة الدولار وبالتالي يعد استثماراً آمناً، كما أن تنويع الأصول في المحفظة الاستثمارية أمر صحي ومطلوب، فلا تتأثر المحفظة الاستثمارية بتضرر أحد مكوناتها كثيراً.
أما المتخصص الاقتصادي عبدالمنعم السيد فيتفق مع ما ذهب إليه الرئيس السابق لبنك التنمية الصناعية المصري، ويقول لـ "اندبندنت عربية" إن الذهب تحوط جيد في أوقات الأزمات العالمية وعدم اليقين الاقتصادي، وأنه يحظى بطلب مرتفع في أوقات الاضطرابات الاقتصادية، وهي الفترات التي يتراجع خلالها الميل نحو المخاطرة سواء بشراء الأسهم أو الأصول الأخرى.
ويلفت المتخصص الاقتصادي إلى أن "الدولار الأميركي شهد تذبذباً واضحاً على نحو صادم في بعض الأحيان خلال العام الماضي، مع مواصلة الاحتياط الفيدرالي رفع أسعار الفائدة لمكافحة التضخم في الاقتصاد الأميركي، وبالتالي فإن الإقبال على الذهب من جانب البنوك المركزية أمر طبيعي ضمن اتجاه عالمي واسع لزيادة مكون الذهب في الاحتياطات الدولية."
وبعد مستوى تاريخي مرتفع من الشراء لا تزال شهية البنوك المركزية مفتوحة إزاء الذهب، بحسب ما يكشف عنه مسح أجري قبل أسبوعين، ذكر فيه أن 24 في المئة من البنوك المركزية حول العالم تعتزم زيادة احتياطاتها من المعدن الأصفر خلال الأشهر الـ 12 المقبلة، في حين جاءت توقعات البنوك المستجيبة للاستطلاع تجاه الدولار الأميركي أكثر تشاؤماً مما كانت عليه خلال الاستطلاعات السابقة.