ملخص
يتوقع أن ينال "الحزب الشعبي" المحافظ في الانتخابات القادمة العدد الأكبر من الأصوات ومن ثم التحالف مع اليمين المتشدد لتشكيل حكومة مع ما يعنيه هذا من احتمال إلغاء "قانون الذاكرة الديمقراطية"
كان في إمكان إيريس مير أن تنشغل بنشاطات أفضل في هذا الوقت، مثل ركوب الأمواج في البحر المتوسط. لكن عوضاً عن ذلك، تقوم السيدة بزيارة بلدة بارباسترو الصغيرة الواقعة قرب مقاطعة هويسكا في شرق إسبانيا، حيث يعيش أقرباؤها. لكنها لا تقوم بزيارة عائلية عادية لتجاذب أطراف الحديث مع أحبائها.
فرائدة الأعمال البالغة من العمر 39 عاماً من برشلونة تسعى إلى إيجاد الموقع المحدد الذي دُفن فيه جد والدها خوسيه مير. وفيما تعد هذه المهمة سهلة بالنسبة إلى معظم الأسر في بارباسترو، فهي ليست كذلك بالنسبة إلى مير.
وفقاً لتقديرات المؤرخين، تقع رفاته في قبر جماعي أُلقي فيه بعد إعدامه في أعقاب الحرب الأهلية الإسبانية، شأنه في ذلك شأن 100 ألف شخص تقريباً غيره في إسبانيا. أما جريمته الوحيدة، فهي أنه كان يساند الجانب "الخطأ" عندما انتهى الصراع الدامي الذي دار من عام 1936 إلى 1939.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وُلدت إيريس مير في العام 1983، بعد ثمانية أعوام من وفاة الجنرال فرانسيسكو فرانكو، في أعقاب حكم دكتاتوري امتد طويلاً.
وهي تنتمي إلى جيل أصغر سناً من الإسبان العازمين على مجابهة أحد أحلك الفصول في تاريخ إسبانيا الحديث- مصير عشرات آلاف الأشخاص الذين تنتشر عظامهم في كل أرجاء البلاد.
وتريد أن تمنح جد والدها دفناً يليق به، قرب زوجته الراحلة- قبل أن يفوت الأوان.
بوتيرة بطيئة إنما ثابتة، توافي المنية الأقارب المسنين القادرين على توفير صلة حقيقية بالماضي. فيما قد يمنح العثور على الأقارب المفقودين نوع من الخاتمة بالنسبة إلى الآباء والأمهات والأبناء والبنات.
كانت عملية البحث طويلة ومضنية بالنسبة لمير لكنها توشك أن تصبح أصعب بعد.
يتوجه الناخبون الإسبان إلى صناديق الاقتراع الشهر المقبل، حيث يُتوقع أن ينال "الحزب الشعبي" المحافظ عدداً أكبر من الأصوات من الحكومة الاشتراكية. لكن "الحزب الشعبي" قد يحتاج إلى مساعدة اليمين المتطرف من أجل تشكيل حكومة ائتلافية.
وقد تعهد زعيم "الحزب الشعبي"، ألبرتو نونيز فيجو بإلغاء "قانون الذاكرة الديمقراطية" Democratic Memory Law الذي سُن عام 2020 بهدف مساعدة أشخاص مثل مير في العثور على أحبتهم.
وهذا الاحتمال يقلق مير وغيرها ممن يبحثون عن أقاربهم، وهم يقولون إن إسبانيا ستتخلف خطوة إلى الوراء في هذه الحالة.
خلافاً لألمانيا أو إيطاليا أو الأرجنتين، لم تتعامل إسبانيا يوماً مع أشباح نظامها الديكتاتوري طويل الأمد.
وبدلاً من ذلك، فضلت ما أصبح يُسمى "عهد النسيان" pact of forgetting الذي أقر بموجبه قانون عفو عام في العام 1977 بعد سنتين من وفاة فرانكو.
حرر هذا القانون السجناء السياسيين وسمح للمنفيين بالعودة إلى إسبانيا، فيما قدم في الوقت نفسه الحصانة لكل من شارك في الجرائم التي ارتُكبت خلال الحرب الأهلية والمرحلة الدكتاتورية.
عندما طرحت الحكومة الائتلافية اليسارية في إسبانيا "قانون الذاكرة الديمقراطية"، حاولت أن تعالج إرث فرانكو للأجيال القادمة.
يهدف القانون إلى الحرص على تثقيف طلاب المرحلة الثانوية حول الدكتاتورية. وهو يعتبر عشرات آلاف الأحكام بتهمة التمرد العسكري خلال الحرب الأهلية باطلة.
كما يحمل الحكومة مسؤولية نبش والتعرف على جثث القتلى الذين قضوا على يد نظام فرانكو وألقوا في قبور دون شواهد.
ولتحقيق هذه الغاية، أُسس سجل رسمي للضحايا واختبارات للحمض النووي بغية مساعدة الأقارب الذين ما يزالون على قيد الحياة.
أعيدت تسمية مقبرة "وادي الشهداء"، التي نُقلت رفات فرانكو منها عام 2019، لتصبح "وادي كويلغاموروس"، كما أعيد تعريف المكان من جديد على أنه مقبرة وليس ضريحاً لمن فقدوا حياتهم في الحرب منذ نحو 80 عاماً مضت.
يحاول خبراء الأدلة الجنائية أن يستخرجوا رفات 128 شخصاً نقلت جثثهم من مقابر جماعية ودُفنت في المقبرة من دون علم عوائلهم.
لكن بالنسبة إلى كثيرين مثل مير، هناك الكثير من الأمور التي لا تزال عالقة. المشكلة برأيها هي أن جيلها يبدو أقل اكتراثاً بمواجهة أشباح الماضي.
وتقول "عندما أتكلم مع أشخاص للحصول على معلومات، أخاطب أشخاصاً من جيل والدي. لا يفاجئني ذلك لأن النظام التعليمي مصمم بشكل يجعلنا نقتنع أن الأمر بات من الماضي وما عاد يعنينا. أعتقد بأن الصمت ما يزال سيد الموقف. لا نعرف كيف كان الوضع بالنسبة إلى تلك الأجيال التي حاربت من أجل انتزاع الحريات التي نتمتع بها نحن اليوم".
في بارباسترو، يفضل معظم الناس أن يمضوا قدماً بحياتهم، دون أن يلتفتوا إلى الماضي.
اشتهرت هذه البلدة لأن جورج أورويل ذكرها في رواية "الحنين إلى كاتالونيا" Homage to Catalonia عندما كان يسافر إلى الجبهة ليحارب إلى جانب الجمهوريين.
كما اشتهرت لأنها المكان الذي قُتل فيه 51 مبشراً من إرسالية أبناء قلب مريم الطاهر لرفضهم الارتداد عن عقيدتهم فيما اكتسحت موجة من معاداة رجال الدين إسبانيا بسبب اعتبار البعض الكنيسة الكاثوليكية حليفة لفرانكو.
لا توجد مؤشرات على ضلوع جد مير الأكبر في هذه المذبحة.
بتاريخ 1 أبريل (نيسان) 1939، يوم هزمت القوات القومية بإمرة فرانكو قوات الجمهوريين بعد حرب طاحنة استمرت ثلاث سنوات، اعتُقل خوسيه مير.
كان الأب لأربعة أطفال فلاحاً في منطقة ريفية بعيدة في شرقي إسبانيا. كما كان عضواً في حركة فوضوية تدعى التجمع الوطني للعمل (CNT) ناهضت قوات فرانكو.
وعقب انتصاره، أمر فرانكو بإعدام عشرات آلاف المعارضين.
أصدرت محكمة عسكرية حكماً بإعدام مير في أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه على خلفية "انضمامه للتمرد" ثم أُعدم رمياً بالرصاص.
وما زاد الوضع سوءاً بالنسبة إلى عائلته أنه تلقى أمراً بدفع غرامة قدرها 500 بيسيتاس (ما يعادل 774 دولار أميركي اليوم).
لم تتمكن أرملته، ماريا دي لوس ريميديوس، التي لاحقتها وصمة عار اجتماعية لأنها كانت "مع الطرف الخطأ"، من دفع الغرامة. بعد سنوات، عفى فرانكو عن عائلات من غُرموا.
عانت مير على مدار سنتين لكي تحقق بعض العدالة لجدها الأكبر. لكنها تمكنت من الحصول على عفو لرجل لم تعرفه قط، بموجب "قانون الذاكرة الديمقراطية".
وتستذكر الأحداث فتقول "لم يكن الحصول على العفو صعباً، بعد أن تفهم ما الذي عليك فعله. عندما حصلت على الإجابات الصحيحة في النهاية، أرسلت النماذج المطلوبة فحسب".
وتكمل "وجهت رسائل إلكترونية إلى الإدارات المعنية. كنت طرفاً في سلسلة رسائل الكترونية متبادلة (بدا) كأني كنت أتحدث فيها عن الطقس. قالوا إنني بحاجة إلى إثبات عن أنه قُتل وعن طريقة قتله. وجدت أن ذلك أسوأ ما في الموضوع، عدم الفهم".
تعتبر مير البحث عن حقيقة ما حدث لأمثال جدها الأكبر والآلاف غيره بمثابة اختبار للديمقراطية الإسبانية.
وتضيف "الأهم بالنسبة إلي هو استرجاع جدي الأكبر، لكن هناك جانب آخر بشأن ما يعنيه العيش في ظل نظام ديمقراطي. هل هذا أفضل ما يمكن لإسبانيا أن تفعله؟ هل يمكنني أن أفتخر بحكومتي؟ نحن في العام 2023 ولدينا حكومة اشتراكية ونقر قوانين لكن هل يخدم ذلك أجندتكم السياسية الخاصة؟"
وتتابع بالقول "أعتقد بأن ألمانيا تعاملت مع هذه المسألة لكن إسبانيا لم تعش تصل لختام الموضوع كما يجب".
حاولت الحصول على معلومات من الكنيسة الكاثوليكية عن طريقة دفن قريبها لكنهم أخبروها أنها لا تملك الملف الضروري.
وعندما قدمت طلباً للحكومة الإقليمية في أراغون، انتظرت أشهراً طويلة للحصول على رد منها ولم يكن مفيداً.
وتشرح "لم أتلق أي إجابة من الحكومة بعد عما يجب أن أفعله. أكثر المعلومات الموثوقة التي حصلت عليها جاءت من أشخاص مروا بالتجربة نفسها في مناطق أخرى من إسبانيا".
وتلفت "يصبح الأمر بمثابة العمل على المستوى السري. علينا الاتكال على بعضنا البعض. اعتقدت أن الحكومة ستساعدنا".
ليست مير وحدها. ينشغل آخرون من جيلها في أعمال بحث مماثلة لكشف حقيقة الماضي.
يبلغ خافي بريارانزا 27 عاماً من العمر ويعمل في مكتبة في إيل بيرزو، شمالي إسبانيا.
يتطوع الشاب في جمعية "استعادة الذاكرة التاريخية" Recovery of Historical Memory (ARMH) ويبحث عن رفات خاله الأكبر، فيديل فيغا نونيز.
في العام 1936، كان نونيز عضواً في منظمة "اليسار الجمهوري". وفي أعقاب انقلاب فرانكو على الحكومة الجمهورية، اعتُقل بعد سيطرة قوات القوميين على البلدة التي يقطن فيها.
بعد يومين، أخرجوه من السجن وأعدموه من دون محاكمة. أُلقيت جثته على بُعد 20 كيلومتراً عن عائلته، في بلدة إيل بيرزو في مقاطعة قشتالة وليون.
يعتقد بريارانزا أنهم تعمدوا فعل ذلك كي لا يتسنى للعائلة العثور على جثمانه بسهولة.
وقال إن الجيل الذي نشأ في الحقبة التي تلت وفاة فرانكو يجهل إلى حد كبير حقيقة فظائع الحرب الأهلية وفترة الدكتاتورية.
وأضاف أنه ضمن مجموعة المتطوعين معه في جمعية "استعادة الذاكرة التاريخية" عدد قليل من الأشخاص من عمره.
وقال لـ"اندبندنت"، "صحيح أن عدد الشباب المنخرطين في [هذه الحركة] قليل. فإما أن هذا الموضوع لا يهمهم أو أنهم لا يريدون أن يعرفوا ما الذي حصل حقاً. لا يتحدثون في المدارس عما جرى عندها".
يقلق بريرانزا من احتمال وصول "الحزب الشعبي" و"فوكس" [اليميني المتشدد ويعني "الصوت" باللاتينية]، وهما الحزبان اللذان يريدان إلغاء القوانين المصممة للمساعدة في العثور على أحبته، إلى السلطة عبر انتخابات الشهر المقبل.
وقال "قد يشكل ذلك انتكاسة كبيرة للحقوق المدنية التي يجب الحفاظ عليها. يمكن أن تُقيد هذه الحقوق. أنا خائف. هناك أشخاص يبررون لفرانكو أفعاله علناً [قد يصلون إلى سدة الحكم]".
تماماً مثل مير، يعتقد أن الاستمرار بالبحث عن حقيقة الماضي مهم من أجل مستقبل إسبانيا، لافتاً "من الضروري جداً [أن تعرف] أجيال المستقبل عن أسلافنا الذين حاربوا من أجل وطن أفضل. لقد تمكنا من استعادة الديمقراطية بفضلهم".
© The Independent