ملخص
سمكة القرش التي افترست السائح الروسي كانت في حال جوع شديدة ولم يكن داخل معدتها سوى أجزاء من جثته، وعدم وجود فرائس أمامها دفعها لمغادرة مكانها الأصلي بحثاً عن أي غذاء.
في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 حذرت جمعية المحافظة على البيئة (هيبكا) من خطورة الصيد الجائر في البحر الأحمر، مشيرة إلى أن تلك الممارسات من أهم عوامل جذب أسماك القرش القاتلة إلى الشواطئ.
ووثقت الجمعية التعديات بمجموعة من الصور تظهر تعرّض سمكتين لإصابات بالغة جراء ممارسة الصيد المخالف بمنطقة جزيرة "الأخوين الصغيرة" و"ديدالوس" جنوب البحر الأحمر.
وعلى رغم جدية التنبيه إلا أن الأجهزة المعنية لم تتعامل معه بصرامة أو تتخذ أي قرار، وبعد مرور أقل من عامين من تلك التحذيرات بحلول يوليو (تموز) 2022، تقرر إغلاق الشواطئ وتعليق السباحة في منطقة الغردقة بعد أن لقيت سائحتان حتفهما إثر انقضاض سمكة قرش عليهما في سهل حشيش.
وتكررت الفاجعة مرة أخرى مطلع الشهر الجاري نتيجة هجوم أنثى "تايغر" على سائح روسي والتهامه في منطقة "دريم بيتش" بالغردقة.
وبعد فترة من الصمت خرج رئيس قطاع حماية الطبيعة بوزارة البيئة محمد سالم أخيراً معترفاً أن أحد الأسباب لهجوم سمك القرش على البشر هو نضوب وقلة الأسماك في معظم سواحل البحر الأحمر، جراء ممارسات الصيد الجائر التي أدت إلى ندرة غير طبيعية للأسماك التي تعتبر مصدر غذاء القروش.
وقال في تصريحات متلفزة إنه "أمر متوقع حين لا تجد القروش مصدر غذاء بشكل طبيعي فتلجأ إلى الهجوم على البشر"، مشيراً إلى محاولات الوزارة منذ سنوات الحد من تجاوزات وأنشطة الصيد الجائر.
صيد مفرط بأدوات مخالفة
والأمر الغريب الذي أثبتته الواقعة هو ما أكده أستاذ البيئة البحرية في جامعة قناة السويس محمود حنفي، الذي كلف بتشريح سمكة القرش صاحبة الواقعة الأخيرة بالغردقة خلال تصريحاته لـ "اندبندنت عربية"، من أن الصيد الجائر أدى إلى وصول المخزون الطبيعي للأسماك في البحر الأحمر للحد الحرج، مما يتطلب معه مواجهة ووقف الصيد بشكل نهائي في المنطقة.
واستدرك، "عندما عكفت على تشريح سمكة القرش التي بلغ طولها 3.25 متر لاحظت أنها كانت في حال جوع شديدة، إذ لم يكن داخل معدتها سوى أجزاء من السائح الروسي، وكانت تعاني أيضاً من تهتك في الزعنفة الظهرية والفص العلوي من الزعنفة الذيلية، ما قلل قدرتها على المناورة لاصطياد الأسماك، إضافة إلى عدم وجود فرائس أمامها جراء ممارسات الصيد غير المشروعة، مما دفعها لمغادرة مكانها الأصلي للبحث عن أي غذاء".
ويحدد قانون حماية وتنمية البحيرات والثروة السمكية رقم (146) لعام 2021 الذي صادق عليه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي قواعد ممارسة مراكب الصيد والعاملين عليها لعملهم، وحظرت المادة (20) منه استخدام المركب في المناطق الممنوع الصيد فيها إلا في الأحوال الاضطرارية الناجمة عن الظروف الجوية أو خلل في المركب أو للقيام بعملية إنقاذ للأرواح أو الممتلكات.
وعلى رغم القوانين التي تجرم الصيد الجائر لكن نشطاء بيئة وخبراء علوم بحار ومراقبين يرون أن هناك قصوراً في الرقابة بشكل جعل ممارسات الصيد الجائرة متواصلة على رغم القيود المتخذة لمنع أنشطته أو الحد منها.
ويعود أستاذ البيئة البحرية في جامعة قناة السويس لشرح أخطار الصيد الجائر على البيئة البحرية المصرية قائلاً إن "المخزون الطبيعي للأسماك انخفض بشكل كبير مما يستلزم اتخاذ إجراءات سريعة لحماية ثروتنا السمكية"، مشيراً إلى أنهم وضعوا توصيات بالتقرير الفني عقب الانتهاء من تشريح سمكة القرش ومن ضمنها "إغلاق الصيد مع تعويض الصيادين برواتب تصل إلى 6 آلاف جنيه مصري شهرياً، أو تقليل جهد الصيد بخفض عدد الصيادين والمراكب 70 في المئة، وإعادة تأهيلهم ودمجهم بقطاع السياحة مع حظر الصيد نهائياً بمناطق تكاثر الأسماك للحفاظ على المخزون الطبيعي لها، وهي تناقش على أعلى مستوى داخل الدولة المصرية".
تداعيات الأزمة انتقلت لأروقة البرلمان المصري بعد أن قدمت عضوة مجلس النواب ندى ألفي ثابت مطلع يونيو الجاري طلب إحاطة لرئيس المجلس موجه إلى وزيرة البيئة ياسمين فؤاد، في شأن خطورة الصيد الجائر على الكائنات البحرية في مصر، محذرة من خطورته على البيئة البحرية والثروة السمكية في المحافظات الساحلية.
وأشارت إلى أن عدداً من الكائنات البحرية النادرة مهددة بالانقراض بسبب استخدام الصيادين أدوات صيد مخالفة، وما تسببه من تدمير للبيئة البحرية والشعاب المرجانية.
وتمتد حدود مصر الشمالية على مياه البحر المتوسط بساحل يبلغ طوله 995 كيلومتراً، فيما تطل شرقاً على نحو 1941 كيلومتراً من البحر الأحمر، وتتوزع في أرجاء مصر 14 بحيرة إضافة إلى نهر النيل الذي يجري على مسافة 1536 كيلومتراً داخل الأراضي المصرية، وجميعها تتأثر بنسب متفاوتة بارتفاع وتيرة الصيد الجائر وبخاصة خلال الأعوام الأخيرة، وما خلفه من دمار كبير لثروة مصر السمكية.
القضاء على الأسماك
وحول الأضرار الناجمة عن تلك الممارسات يقول مدير جمعية الحفاظ على البيئة "هيبكا" نور الدين محمد لـ "اندبندنت عربية"، إن وتيرة الصيد والأنشطة الأخرى ارتفعت بشكل مفرط متخطية الطاقة الاستيعابية للمورد الطبيعي، في ظل استهداف بعض الأنواع من الأسماك في مواسم تكاثرها، مما أخل بعملية التوازن وبخاصة أن موارد البحر الأحمر فقيرة على رغم تنوعها.
ووفق مدير "هيبكا" فإن المشكلة أساسها قدوم صيادين من مدن مطلة على البحر المتوسط بأدوات مخالفة للعمل بها في البحر الأحمر، وبدأوا في التوافد من مدن الفيوم وكفر الشيخ ودمياط والمنزلة، ونجحوا في شراء رخص صيد كانت بحوزة بعض صيادي البحر الأحمر ممن هجروا المهنة، وتنوعت أساليبهم في الصيد بين استخدام الشباك والغزل والشرك، موضحاً أن "استخدامهم المخالف تسبب في انخفاض كميات الأسماك في البحر المتوسط، ثم انتقلوا بالأدوات نفسها إلى البحر الأحمر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وحظرت المادة (34) من قانون حماية البحيرات والثروة السمكية على أي شخص مزاولة مهنة الصيد إلا إذا كان حاصلاً على بطاقة صيد، ومعاقبة كل من يخالف تلك الإجراءات بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد على عامين، وبغرامة لا تقل عن 10 آلاف جنيه ولا تزيد على 100 ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، وفي حال العودة تتم مضاعفة العقوبة.
ويشير نور الدين إلى أن "فقر المخزون السمكي بالبحر الأحمر دفع بعضهم إلى اصطياد أسماك القرش، وكثرة التعديات جعلتنا نصل للحد الخطر، وإذا استمرت تلك الممارسات بالمعدل نفسه فسيتحول البحر الأحمر إلى ترعة بلا أسماك".
البحث عن تعويضات
ويشير أحمد عباس، وهو صاحب مركب الصيد الذي اصطاد "قرش الغردقة"، إلى أنه لا يزال يعاني تبعات قرار وقف الصيد بالبحر الأحمر، فهو يبحث عن مصدر دخل يعوضه عن الفترات المحظور فيها الصيد، وعلى رغم الأزمة التي يعيشها فإنه يعترف في تصريحاته لـ "اندبندنت عربية" بتزايد عمليات الصيد الجائر بمنطقة البحر الأحمر، وخسارة أعداد كبيرة من الأسماك بعد أن تدفق الصيادون من المحافظات المطلة على البحر المتوسط بأدوات صيد مخالفة، إذ بدأت معها ممارسات الصيد المحظورة تتزايد مما أضر بأبناء الغردقة الذين يمتهنون الصيد.
ويشير عباس إلى تنوع عمليات الصيد المخالفة من استخدام بنادق صيد تسمى الهاربون تستهدف الأسماك، مروراً بالشباك الشفافة التي لا تراها الكائنات البحرية ووصولاً إلى الشرك والغزل، موضحاً أن "صيادي الغردقة كانوا يستخدمون معدات الصيد المسموح بها قبل قدوم دخلاء علينا"، ومقدراً أعداد المخالفين بنحو 35 في المئة من الصيادين.
وأضاف، "لا نرى الآن أسماك الحريد لأن المخالفين قضوا عليها بالصيد الجائر، واختفت سمكة الرهو (أبو قرن)، كما يتم استهداف أسماك تسمى سيجان"، مشيراً إلى أن "الأدوات المستخدمة في الصيد تتسبب في تكسير الشعب المرجانية، ولا أجد حرجاً إن قلت إننا نتحمل المسؤولية بعد أن سمحنا للمخالفين بأن يعيشوا بيننا".
ويستذكر الصياد عباس بعض المشاهد من الماضي ويقول "كنا نصطاد أطناناً من الأسماك يومياً، أما الآن فتغير كل شيء بسبب عمليات الصيد المخالف، إذ تقلصت الأعداد بصورة ملحوظة"، مطالباً المسؤولين بتعويضهم عن فترات وقف أعمال الصيد أو تقديم بدائل تمكنهم من توفير قوت عائلاتهم.
ويكشف الرجل كواليس اللقاء الذي جمعه بوزيرة البيئة ياسمين فؤاد عقب حادثة سمكة القرش الأخيرة خلال زيارتها محافظة البحر الأحمر رفقة وفد من قيادات الوزارة وأحد الخبراء الأجانب استعداداً لتركيب أجهزة رصد أسماك القرش لدراسة تصرفاتها، يقول "سألتها أين نحن من التعويضات؟".
وتعهدت بتوفير 4 آلاف جنيه مصري كحد أدنى للصيادين شهريا وفقاً لحديثه. وأضاف، "لم أقم بالصيد منذ نهاية مايو (أيار) الماضي احتراماً للتعليمات وعندما تلقيت اتصالاً أثناء هجوم سمكة القرش شاركت من دون تردد وتمكننا من اصطيادها".
صيد ممنوع
من جهته يقول عضو مجلس الشباب العربي للتغير المناخي الناشط البيئي أحمد سبع إن القوانين الدولية والمحلية واللوائح المعمول بها تنظم عملية الصيد، من حيث توقيتاته وشكله وإطاره، لكنها تضرب عرض الحائط من قبل الصيادين المخالفين في ظل غياب الرقابة الكافية لمنع الصيد الجائر في البحيرات المصرية.
ويرى سبع ضرورة إعادة النظر في إدارة المنظومة البيئية داخل مصر، مشيراً إلى الاستهداف المنظم لبعض الكائنات البحرية عبر عمليات الصيد الجائر، وما يسببه من غياب أنواع أخرى، ضارباً المثل بعمليات تهريب خيار البحر الذي يعد مطمعاً لعصابات التهريب، ولافتاً إلى أن غيابه يتسبب في ندرة الأسماك نظراً إلى دوره المهم في تنقية مياه البحر الأحمر من الفضلات العضوية.
ويحوي خيار البحر مركّبات مهمة، فهو غني بالبروتين والفيتامينات والأملاح المعدنية، كما تستخلص منه مادة قادرة على قتل الخلايا السرطانية، ويستخدم كمنشط جنسي للرجال، وبدأت في الآونة الأخيرة عمليات تهريبه بكثرة من قبل عصابات تبيعه على حسب نوعه وحجمه ووزنه، إذ ترى فيه مصدراً للعملة الصعبة على رغم تجريم صيده ووجوده ضمن الأنواع المهددة بالانقراض.
وأعلنت مصر إحباط أكثر من عملية تهريب لخيار البحر عبر منافذ جوية وبرية مختلفة خلال الأعوام الماضية.
وأشار الناشط البيئي إلى أن بعض الصيادين يستهدفون الزريعة المحظور صيدها، وتنص المادة (31) من القانون رقم (146) لعام 2021 في شأن إصدار قانون حماية وتنمية البحيرات والثروة السمكية، على حظر صيد أو جمع أو نقل أو حيازة زريعة الأسماك أو العبث بأماكن وجودها وتكاثرها على امتداد الشواطئ المصرية أو في المياه البحرية إلا بتصريح.
وتشير دراسة بعنوان "العوامل المحددة للإنتاج السمكي بمصايد البحر المتوسط بمحافظة الإسكندرية" إلى أن الإنتاج السمكي بات يتسم بالانخفاض وبخاصة في الآونة الأخيرة، إذ بلغ نحو 3.68 آلاف طن وفقاً لمتوسط الفترة (2015 - 2019) في مقابل 16.82 ألف طن وفقاً لمتوسط الفترة (2005 - 2009) بنسبة انخفاض بلغت نحو 78 في المئة.
واستنتجت الدراسة وجود عدد من المعوقات أمام تنمية الثروة السمكية بمصايد البحر المتوسط، منها صيد الزريعة بطرق غير مشروعة قانوناً مما يؤدي إلى استنزاف الأسماك من مياه البحر لمصلحة تجار السوق السوداء للزريعة، وعدم توفر خرائط مساحية لمواقع تجمع الأسماك في البحر المتوسط بما يخدم الصيادين بالتوجه نحو هذه المناطق.
وأوضح سبع أن الصيد الجائر عملية مكلفة ومرهقة مادياً، بخاصة عندما يتعلق الأمر بتهريب الكائنات البحرية خارج البلاد وندرة الأسماك في البحر الأحمر، إذ دفعت بعض الصيادين إلى تحويل مراكبهم من الصيد إلى السياحة.
وطالب بضرورة إقامة حوارات مفتوحة مع الصيادين والاستفادة منهم في تحديد أماكن انتشار عمليات الصيد الجائر مع إعداد خريطة تفاعلية لتلك المناطق للحد منها.