Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لوركا سبيتي شاعرة تواجه حياة ضجرت النساء منها

في "ذهان" و"هذا كله قبلك" تلجأ إلى اللاوعي لتكتب قصائد الذات

الشاعرة بريشة إيغون شيل (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

لئن كانت الشاعرة اللبنانية لوركا سبيتي وكاتبة قصص الأطفال، لا تنتمي إلى التيار السريالي في الشعر، فإنها آثرت أن تختار من السريالية ومن علم النفس الفرويدي.

منذ أن جعل الشاعر الفرنسي  أندريه بريتون، من الأحلام واللاوعي مصدرين أساسيين للإلهام، لدى تيار الشعر السريالي، في مستهل القرن الـ20، مستنداً إلى كشوف عالم النفس سيغموند فرويد في اللاوعي ومراتبه، لم يكف الشعر عن تلمس مسالك التعبير الأكثر تحرراً وتطرفاً، والأكثر لصوقاً بالذات وتعبيراً عن دواخل الكائن المعاصر، ومجمل التحديات التي تفرض على هذه الذات، وتعوق انفتاحها على العالم، أو تقمع تطلعاتها.

ولئن كانت الشاعرة اللبنانية لوركا سبيتي وكاتبة قصص الأطفال، لا تنتمي إلى التيار السريالي في الشعر، فإنها آثرت أن تختار من السريالية ومن علم النفس الفرويدي على السواء، معياراً أساسياً، عنيت به جعل الشعر نتاجاً لجلسات التنويم المغناطيسي، يملى على الذات اللاواعية عبر التداعي الحر. ولما كانت الشاعرة سبيتي ألمحت إلى أن ما ورد في القسم الأول من مجموعتها الشعرية، إنما كان نتاجاً لتنويم مغناطيسي خضغت له على يد طبيبتها النفسية، بغية معالجتها من هواجس معينة أو كوابيس، وأوهام تملكتها، فإنها تركت أمر اكتشاف تلك الحالة الإبداعية والشعرية الناجمة عن تلك المعالجة بالكلام الحر المتداعي، للقراء والمحللين المعنيين.

في القصائد العشر من المجموعة الشعرية (الرابعة للشاعرة سبيتي) المشار إليها سالفاً، لا تعالج الشاعرة موضوعاً، أو تتناول موتيفاً واضحاً، بسبب طبيعة الكلام الحر المنساب تلقائياً، وعلى نحو لاواع. وإنما هو كناية عن جمل مترابطة في الظاهر، وتحكي فيها الذات عن مغامرة مؤلمة، مفادها بأن "الطرقات تتودد" إليها، وأن "المسامير تمنعني وتذكرني بالألم"، وأن أفكارها أسرع منها، وأن ثمة استعصاء ما في التعبير عن ذلك الألم: "أصل مجدداً لللافتة/ كتب عليها: غير نافذ".

ومن ثم، تنجلي في السياق مواضيع، وإن تكن غير متماسكة، فإنها تدل على السعي الخائب للذات المستنطقة إلى المثال. ومثل ذلك السياق في قصائد "الإيبنوز" التسع الباقية، إذ توحي كل منها بوجود مركز توتر أو ضغط (نفسي)، أو استحضار حال طفولية، من خلال أضغاث أحلام، أو صور رمزية مركبة تعبر فيها عن قمع مكبوت، أو رغبات مستحيلة التحقق، أو جهود جبارة للتصعيد أو التسامي - بلغة علم النفس - يحال دونها: "وكنت كلما حاولت التحليق/ ورقة بيضاء صغيرة/ مكتوب عليها كلمة صغيرة/ تناديني من الأسفل/ بأن التقطيني./ وحين أحط تتحول مرآة/ تبتلعني من جديد".

أما اللازمة الشعرية المشتركة بين تدوينات "الإيبنوز" التسعة، التي تقربها من التكوين الشعري الواعي، فهي ختام كل منها بجملة تخاطب فيها المحبوب - على الأرجح - منبهة إياه إلى أن كل هذه الحالات التي سبق لها أن تخففت منها، بفضل جلسات التنويم المغناطيسي وتدوين الكلام المنفلت من عقال الوعي، بعد طول حصر، والدال على حالات كبت، وخوف عميق، ورغبات مجهضة، وغيرها إنما حدثت "قبل ظهوره" في حياتها: "كان هذا كله قبلك/ قبل أن أسلك دمك"، "كان هذا كله قبلك/ قبل البئر والزيت"،" كان هذا كله قبلك/ قبل الحريق/ وقبل التلاشي"، " كان هذا كله قبلك/ قبل أن أستفتي قلبك".

ماذا يستفاد من القراءة الأولية للتدوينات اللاواعية التسعة، المتحولة قصائد بفعل تدخل الشاعرة الواعي؟ أولى النقاط أن اللاوعي يمكن أن يشكل مصدراً ثراً للشعر، على ما دعت إليه السريالية، ولكن شرط أن يعمل فيها الوعي لاحقاً، أعني أن يتدخل الشاعر الواعي، تنخيلاً وضبطاً وربطاً بسياق أكبر هو سياق الخطاب المفكر فيه ليكون محمول التجربة ذا دلالات ممكنة التأويل، لا مستغلقة، وقابلاً لتحليله من ناقد الشعر العارف بتحليل النفس وبالشعر على السواء. وهنا النظريات النقدية متفاوتة، من آدلر وماري بونابرت، ويونغ، وشارل مورون وغيرهم، ومفيدة للغاية.

بين الهايكو والقصائد

في القسم الثاني من مجموعة "هذا كله قبلك"، قصائد قصيرة نسبياً، وقصائد بهيئة الهايكو، تتمحور كل منها حول فكرة أو نظرة أو سمات تطاول بها الشاعرة شريكها (أنت)، في محاولة للنفاذ إلى عالمه ومشاغله وبناء إطار خاص للقاء بينهما، وإثارته، والبوح له بمقدار الأسى من مجرد إهمالها. تقول في قصيدة "أنت- 1": "شيء ما يمشي تحت جلدي/ دعسات تتجه نحوك./ الخارج مطمئن/ وها أنا مجدداً/ أفكك قنابل من صنعي/ لا حديقة لي سوى خيالك الثمل، مخلوع الأقفال،/ هنالك نجلس معاً".

أما قصائد الهايكو، المعروفة في أصلها الياباني بالاختزال الشديد والتركيز على منظر فريد أو فكرة لماحة، فأفادت منها الشاعرة سبيتي لمنح كتابتها أبعاداً وجدانية متروكة لنباهة القارى وتأويله، من مثل: "غيمة في البحر تسبح/ وغيمة في الحقل ترقص/ والشمس تنادي:/ كفا عن اللهو/ حان وقت الهطول" .

ومع ذلك يبدو لنا أن الشاعرة سبيتي أصابت في تركيزها على القصائد التامة، أبعد من الهايكو، ما دامت تميل إلى التفصيل في المشاهد، والتعليل في المواقف، أكثر من ميلها إلى التركيز على فكرة أو مشهد يتيم مقتطف من طبيعة جامدة أو حية.

"ذهان" وديستوبيا المرأة

في المجموعة الشعرية الثانية، الصادرة حديثاً عن شركة المطبوعات، للشاعرة سبيتي نفسها، بعنوان "ذهان"، عرض لمجمل الحالات التي تصنع كآبة المرأة، التي تجعل العالم من حولها "سجناً كبيراً". من خلال لغة شعرية بسيطة، تحاكي السرد اليومي والمعجم الأليف، تنقل الشاعرة، عن لسان "المرأة الواقفة، على الشرفة" رعبها من المنزل، وضيقها ونفاد صبرها من الإقامة المستدامة فيه، لأنه يعني تحولها إلى "خادمة" أو "سجينة". تقول:  "قالت لي المرأة/ التي نسيت كفيها/ على حبل الغسيل/ إنها كلما ذهبت لإرجاعهما/ ترفضان دخول المنزل/ وتشيران إلي" .

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن ثم تعود الشاعرة لتنشئ أول خطاب نسوي شعري تمرداً على السلطة الذكورية، ولكن من طريق موارب، إذ جعلت الشاعرة، الناطقة بلسان جنسها، تستبطن حال الظلم الواقعة على المرأة بعامة، من خلال اتباعها تمارين على القناعة والصبر والقبول والوحدة. ولا تلبث أن تبدي رفضها المضمر لتدجين المرأة، عبر تساؤلها عن حدود الصبر القصوى: "ماذا بوسعها أن تفعل البيوت/ حين تمل؟/ تطرد ساكنيها... ماذا بوسع القصائد/ حين ينتحر شاعرها؟/ تتحرر؟" .

وعلى هذا النحو، تواصل الشاعرة لوركا سبيتي بناء تصور، أو قل أسطورة معاصرة للمرأة، هي خليط من الرومانسية المخيبة والواقعية المطعمة باليأس، تلامس به حد الانتحار، لوحشة عارمة تعتري كيانها، واستلاب يفقدها معنى حياتها الإيجابي: "أعيش حياة ليست لي/ استعرتها من امرأة ملت منها/ وكانت سترميها من أعلى الجسر/ إلى نهر عميق/ لولا أنني أمسكتها في اللحظة المناسبة/ وفكرت أنني مللت من حياتي أيضاً..".

لغة شعرية وعمارة

مما لا شك فيه أن شعر لوركا سبيتي يندرج في باب قصيدة النثر، هذا النوع الشعري الذي ميز كتابة فئة من الشعراء اللبنانيين والعرب، منذ الستينيات من القرن الـ20. ولا تدعي الشاعرة إضافة سمة نافرة في هذا النوع، سوى عملها على تبسيط معجمها على النحو الذي يخدم جمهورها من القراء أو القارئات من ذوات الخطاب التحرري (النسوي)، أو جمهور القراء العرب من متذوقي النوع.

ولما كانت الشاعرة تدرك الحدود التي يسقط عندها الشعر، أو يكبو من دون صوره الشعرية الكافية، ومن دون تراكيبه وصيغه المكررة ذات الإيقاع الداخلي واللازمات، ومن دون افتتاحياتها الغريبة أو غير المطروقة، عمدت إلى التنويع في بنى القصائد، إذ تراوحت هذه البنى بين القصيدة - الخطاب، والقصيدة -القصة، والقصيدة - الحوار، والقصيدة - التفسيرية، والقصيدة - الظن، والقصيدة - التشبيه :"كأنك تسعل/ أو كأنك تأكل قطعة حلوى مفتتة"، أو القصيدة - الندب، أو غيرها. وحسبها أنها تنجز، أو أنجزت القسط الوافي من إثبات إبداعيتها في نوع قصيدة النثر، واندراج صوتها بين أصوات شعراء جيلها اللبنانيين والعرب.

للشاعرة لوركا سبيتي عديد من الأعمال الشعرية الصادرة لها، من مثل: "أنت لي الآن"، و"عند أول مرسى"، و"مصح عقلي"، وغيرها، إلى جانب عديد من القصص للأطفال نالت بها "جائزة اتصالات".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة