ملخص
تساؤلات مشروعة فرضت نفسها على المشهد الفرنسي تدور حول أسباب غضب الشباب المشاغب وسر تأخر الحكومة في تفعيل خطة تأهيل الضواحي والأرياف لاستيعاب الأجيال المتحدرة من أصول مغاربية أو أفريقية.
بعد أيام خمسة من المواجهات وأعمال الشغب، إثر مقتل الشاب نائل على يد أحد أفراد عناصر الشرطة، احتلت الأحداث التي عصفت بفرنسا عناوين الصحف ونشرات الأخبار حول العالم.
فرنسا بعد السترات الصفراء واحتجاجات قانون التقاعد والإضرابات التي شلت البلاد، صدرت صورة البلد الذي يعاني اضطرابات مستمرة، ما جعل صحيفة "لوفيغارو" تحاول استطلاع صورة هذا البلد في العواصم الأوروبية وحول العالم.
الصحيفة الفرنسية اعتبرت أن تأجيل زيارة ملك بريطانيا تشارلز الثالث، قبل ثلاثة أشهر، ثم اضطرار الرئيس إيمانويل ماكرون إلى إلغاء زيارته إلى ألمانيا، بعد أن قطع مشاركته باجتماع القمة الأوروبية في بروكسل، جعلته يبدو وكأنه غارق في المشكلات.
الأحداث التي اندلعت إثر وفاة الشاب نائل على يد أحد عناصر الشرطة الفرنسية عند توقيفه لتفتيش مروري، أعادت إلى الأذهان صور الضواحي المشتعلة في 2005، لكن أحداث اليوم تختلف عن تلك التي مرت بها البلاد قبل 18 عاماً.
تساؤلات مشروعة
إذاً ما أسباب غضب الشباب الذي أغرق فرنسا في فوضى عارمة خلال أقل من أسبوع؟ ولماذا لم تستطع كل الخطط التي وضعت لتأهيل الضواحي إدماج الأجيال المتحدرة من أصول مغاربية أو أفريقية في المجتمع الفرنسي؟ وماذا يعكس هذا الغضب وأعمال الشغب؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رئيس مركز استشراف السياسات في باريس المتخصص السياسي الفرنسي إيمانويل دوبوي، اعتبر في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، أن الوضع حالياً اختلف تماماً عن عام 2005 باستثناء شرعية التساؤل حول طريقة تعامل الشرطة، مضيفاً "نلاحظ أنه قبل 18 عاماً تظاهر الشبان داخل الضواحي وعبروا عن غضبهم وطالبوا السلطات السياسية بحقوقهم لكن هذه المرة لا يوجد متظاهرون بل أعمال شغب وتخريب، وأخطرها اقتحام منزل عمدة (ليه لي روز)، حيث تم توجيه التهمة إليهم بمحاولة القتل".
دوبوي أرجع أعمال الشغب واختفاء مشاهد التظاهرات المنظمة إلى "غياب مطالب اجتماعية واضحة، فكل ما يسعون إليه هو مواجهة الشرطة والتعدي على مراكز الأمن والعمدة والمدارس، ووسائل النقل العامة، وكافة رموز السلطة"، محذراً من أن "اقتحام منزل العمدة في لا لي روز، هو إنذار ودليل على أن هؤلاء الشبان خرجوا عن سيطرة سلطة العائلة".
ومضى في تحليله "الضواحي وتعدادها 1500 تشكل عالماً منفصلاً، حيث مستوى البطالة أعلى من نسبة الوطنية، ومع ذلك فهذا لا يشكل سبباً لاقتحام المحال التجارية وسرقة كل شيء، ما عدا المواد الغذائية".
وعما إذا كان التخلي عن خطة تأهيل الضواحي والأرياف التي سبق وأقرها الوزير الفرنسي سابقاً جان لوي بورلو، وتحدثت وسائل الإعلام بتكرار أخيراً يقف وراء استمرار سوء الأوضاع والانفجار الحالي، أجاب رئيس مركز استشراف السياسات بقوله "إنه جواب سيئ على سؤال لم يطرح بالطريقة الصحيحة".
وتابع "هؤلاء الشبان مهمشون والاندماج ليس منسجماً مع تطلعاتهم، حتى هذه الخطة لو طبقت بكاملها لم تكن ستضع حداً للمشكلة، السؤال الصحيح هو التالي ماذا نفعل بقسم من الشباب لا يتمتع بنفس حظوظ النجاح في الحياة؟".
ففي رأيه تصرفات هؤلاء الشبان ليست مساءلة للسلطات حول انعدام التوازن بين الضواحي والمركز، قائلاً "نحن أمام مشاغبين يريدون التعدي على رجال الأمن وكل ما يرمز إلى السلطة، وكل ما يكرهونه كالمدرسة والسلطة وهذه السلوكيات لا تعبر عن مطالب اجتماعية".
وذكر "هذه التصرفات ناتجة من مزيج من راديكالية متطرفة لمجتمع فقد كل بوصلته وكل رموز الاهتداء العائلية، علاوة على نظرة رافضة إلى شرعية الدولة، وفقدان الثقة بقدرة الدولة على تأمين الأدوات اللازمة لتحقيق حياة أفضل، بمعنى تأمين السلم الاجتماعي، فكل ذلك معطل".
نقمة وانتقام
وتبدو مشاهد الانفجار الحالي في بعض المدن الفرنسية ليست مفاجأة، فوزير الداخلية الأسبق جيرار كولومب، سبق وأقر بأن جزءاً من الضواحي في طريقه إلى التحول "غيتوهات"، ورئيس الحكومة الأسبق إيمانويل فالس أيضاً تحدث عن فصل عنصري مقنع "أبارتهايد"، وتوقع الانفجار بأية لحظة، إذ يكفي لذلك شرارة صغيرة، والشرارة أتت بالفعل.
لكن الأمر الأخطر، بحسب إيمانويل دوبوي، أن "الأوضاع في غاية الهشاشة، وأن الانفجار السياسي الاجتماعي على الحافة، وهذا واقع منذ سنوات طويلة، والأمر تطور لأن الحكومة سرعت تفكيك النسيج الاجتماعي غير آبهة بمبادئ الديمقراطية، ولم تصغ إلى المطالب، كما أنها لم تأخذ في الاعتبار معارضتهم لبعض القوانين التي تتعلق بهم، ورويداً رويداً نتج شعور بأن الدولة لا تصغي وأن الحكومة لا تريد الاستماع إلى أي شيء".
وتابع "والدليل أن ماكرون اعتبر أن الأمور لن تتطور وذهب إلى حضور حفلة إلتون جون، كما أنه لم يلغ زيارته إلى ألمانيا، سوى قبل يومين، أي أن هناك نوعاً من الاحتقار من قبل الرئيس، الذي يعبر عن عدم تقييمه لخطورة ما يحصل. الأمر لم يكن مفاجأة لكن الحكومة قررت تحويله إلى مفاجأة".
والسؤال حيال ذلك هو ما الذي لم يتم اتخاذه لحل مشكلة الضواحي؟ ففي حين كانت المطالب في السابق تتعلق بالفئة العمرية التي تبحث عن فرص عمل ويتعين تأمين الفرص لها، بات الحديث اليوم عن فئة من الصغار من 13 و14 سنة.
وهنا يعلق المتخصص السياسي الفرنسي بقوله "هذه سيسيولوجيا مختلفة، والحكومة لم تفعل الأشياء كما يجب، كالتخلي عن الشرطة المحلية والتخلي عن برنامج بورلو المعني بتطوير الأرياف والضواحي".
ويرى أن هذه الظاهرة ليست مقتصرة على فرنسا، فالشرارة وصلت إلى بلجيكا وسويسرا، ما يطرح السؤال حول "الحيز المتروك أمام التعددية في المجتمعات الأوروبية"، مضيفاً "هذه نقطة مهمة تتعلق بصلة القرابة مع الضفة الأخرى للمتوسط، مسألة اجتماعية سياسية حول الفسحة المخصصة للتعددية والاختلاف والتنوع".
السياسة الاجتماعية
ظلت سياسة المساعدات الاجتماعية تطبق منذ عقود بشكل سيئ، إذ اعتبرت السلطات أنه يكفي تقديم المساعدات المالية لشراء صمت هذه الفئات المهمشة، وهو ما قال عنه إيمانويل دوبوي "لوقت طويل كان الاعتقاد السائد أن تقديم الأموال والمساعدات الاجتماعية لهذه الطبقات هو ضمانة لشراء صمتها وهذا خطأ نرتكبه منذ 30 عاماً أو 40 عاماً أو أكثر، لكن المسألة لا تتعلق بالمال، إنها مسألة هيكلية، وهنا يصبح الحديث أكثر أهمية".
ورأى أن العامل الأول في مكمن الخلل يبدو في المسألة الجغرافية كون هذه المناطق بعيدة من مراكز القرار، وكلما تطلب الذهاب إلى العمل قطع مسافة ساعتين فهذا يعني "أنك مستبعد وهذا يتطلب نقاشاً سياسياً، لا علاقة له مع مبدأ التعاطي بالحزم".
وأشار إلى أن الخطر الأعظم يأتي من إمكانية استغلال الوضع من قبل هؤلاء الذي يسعون إلى تقديم الوساطة، مضيفاً "وساطة أصحاب اللحى، في السابق شهدنا وساطة الأخ الأكبر في التسعينيات ومطلع الألفية وهنا يكمن الخطر، ابتداءً من اللحظة التي لا تتوافر أية قوة وساطة ممكنة، وغياب الوساطات التقليدية وساطات الدولة والجمعيات وأساتذة المدارس والمربيين والعمدة، عندئذ يمكن أن تبرز المشكلة".
ونبه إلى خطر الانزلاق إلى المشهد الجزائري خلال العشرية الدموية، قائلاً "هذا مشابه لما حصل في الجزائر، الإسلاميون لم يكسبوا السلطة هم استفادوا من فقدان جاذبية الدولة ليحصلوا على الحركة الاجتماعية. كذلك حصل في العراق في الانتخابات قبل ثلاث سنوات، ما إن تغيب القيادة يبرز خطر الاستقطاب".
وخلص بالقول إن الحركة خارجة عن السيطرة، والمستجد الوحيد أن الدولة أخذت القرار بتعليق حسابات "سناب شات"، و"تيك توك"، في حال تداول صور العنف والدعوة إلى أعمال عنف وتظاهرات.
نقطة أخرى تكمن بالمجتمع المواز القائم على تجارة المخدرات، إذ دخل المهمشون في منطق مواز مرتبط بالمافيا، "وهؤلاء الذين يتظاهرون بشكل عنيف هم الذين يفرضون سيطرتهم في الأحياء بالعنف والترهيب، الذي يمارسونه على سكان الأحياء"، وفقاً لدوبوي.
وحول مضاعفات ما حدث على النشاطات المتوقعة منها البطولات الرياضية المختلفة، كما بالنسبة إلى الألعاب الأولمبية، اختتم حديثه بالقول "الخطأ كان بتنظيم مباريات في أماكن خارج العاصمة حيث يمارس الشبان سلطتهم وهذه لم تكن فكرة جيدة".