ملخص
أعمال الشغب تعبر عن انفصام المهاجرين بين عالم وهمي وواقع بائس لكنها تنقلب ضدهم والدولة مسؤولة عن عدم الاندماج
تفتح الأحداث الأخيرة في فرنسا باباً شاسعاً للأسئلة: هل يتعلق الأمر بانتفاضة شعبية ذات دوافع اجتماعية واقتصادية؟ هل ثمة أيضاً دوافع سياسية؟ أم أن الحكاية هي في العمق حكاية صراع قديم موضوعه هو الهوية؟ كيف تنظر فرنسا إلى مواطنيها ذوي الأصول الخارجية، المغاربيين والأفارقة على التحديد؟ أما زالت المرحلة الكولونيالية تلقي بظلالها على الحاضر؟ هل قدر المغاربيين والأفارقة هو التيه الدائم في غابات العنصرية؟ هل انتهى زمن التمييز أم أنه مستمر بأشكال متجددة؟
بالمقابل هل لا يزال الاندماج سوراً عالياً أمام المهاجرين على اختلاف أجيالهم؟ أليسوا هم أيضاً مسؤولين بالضرورة عما وقع وعما يقع من أحداث تشوش على السكينة الاجتماعية؟ ألا تغذي الأحداث الأخيرة خطاب اليمين المتطرف، وتخدم أفكاره الاستئصالية؟ أين هي النخبة الفرنسية؟ وما مسؤولية الإعلام؟ وما أثر حركة الصحوة الدينية الجديدة لدى المغتربين؟
حاولنا في "اندبندنت عربية" أن نصهر هذه الأسئلة في سؤال واحد: ما الذي يحدث في فرنسا؟ أو ما الذي يحدث لفرنسا؟ وتوجهنا بالسؤال إلى نخبة من المثقفين المغاربيين الذين يعيشون في باريس أو تربطهم صلات عميقة بالحياة الثقافية والاجتماعية في فرنسا.
يرى الكاتب والروائي التونسي حسونة المصباحي أن "ما تشهده فرنسا هذه الأيام من أحداث عنف ونهب وحرق، ليس جديداً، إذ إن هذه الأحداث تكررت أكثر من مرة، لنتذكر أحداث الضواحي عام 2005 على سبيل المثال لا الحصر. وعلى رغم أن الأحداث السابقة لم تبلغ من قبل مثل هذا التصاعد المرعب، فإنها كانت مُؤذنة بأنها سوف تتجدد لتكون أسوأ وأعنف وأشنع على جميع المستويات". ويضيف المصباحي في قراءته للأحداث: "لم تكن رصاصة الشرطي التي قتلت الفتى نائل الجزائري هي الفتيل الوحيد الذي أشعل نيران هذه الانتفاضة المدمرة، إذ إن هناك أسباباً كثيرة أخرى تراكمت لتتحول مع تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في فرنسا لتكون بمثابة براميل من البارود".
حاولنا أن نتعقب مع حسونة المصباحي الأسباب العميقة لما يقع في فرنسا اليوم، فكان رده على النحو الآتي: "لكي نُلمّ ببعض من هذه الأسباب، يجدر بنا أن نعود إلى الوراء، وتحديداً إلى الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. ففي تلك الفترة كان جلّ المهاجرين القادمين من البلدان المغاربية، خصوصاً من الجزائر شبه أمّيين، أو أميين تماماً. وكانت فرنسا هي التي بادرت بفتح أبوابها أمامهم، لأن اقتصادها المزدهر في ذلك الوقت كان في حاجة إلى اليد العاملة. وعندما يتعرض أولئك العمال إلى مظالم عنصرية، أو إلى مضايقات في عملهم، كانت الأحزاب والمنظمات اليسارية ورموز النخبة الفرنسية من أمثال سارتر وسيمون دو بوفوار وجان جينيه وميشال فوكو وغيرهم يهبّون لنجدتهم ومناصرتهم والدفاع عنهم. ولكن انطلاقاً من نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، ظهرت أجيال جديدة من المهاجرين، وجميع أبناء هذه الأجيال يتمتعون بالجنسية الفرنسية، ودرسوا في المدارس الفرنسية. وباستثناء نسبة ضئيلة من هؤلاء تمكنت من أن تندمج في المجتمع الفرنسي، وتنعم بمناصب رفيعة في الدولة وفي المؤسسات الفرنسية، ظل الآخرون، وهم الغالبية، يعيشون على الأرض الفرنسية من دون أن يشعروا أنهم فرنسيون. لذلك هم يرفعون أصواتهم عالياً ليشتموا فرنسا البيضاء، مستفزين أهلها".
يواصل صاحب "رحلة في زمن بورقيبة" تشريحه للحالة الفرنسية: "مع انحسار الحركات اليسارية، وغياب مثقفين ومفكرين يدافعون عنهم، ويتعاطفون مع أوضاعهم التي تزداد تردياً يوماً بعد يوم، ازداد غضب هؤلاء استعاراً، وتفاقم شعورهم باليتم في بلاد تمنحهم الجنسية ولا تمنحهم الحياة الكريمة. كما أن صعود اليمين المتطرف مدعوماً بمثقفين وإعلاميين ومفكرين من أمثال ألان فينكيلكرارت وإيريك زمور وميشال والباك وآخرين، ساهم بدرجة عالية في الشرخ الرهيب الذي راح يتسع بسرعة، لتبدو فرنسا أحياناً وكأنها على وشك الغرق في حرب أهلية بين سكانها الأصليين والمهاجرين إليها. وبما أن أبناء الأجيال الجديدة من المهاجرين لم يجدوا في الثقافة الفرنسية ما يعبر عن مشاغلهم وهمومهم، فإنهم عادوا إلى تراث الأجداد ليتخيروا منه ما يستجيب لنوازعهم العنيفة والعدوانية والبدائية، لتتخذ انتفاضاتهم التي قد تكون عادلة شكل عمليات الانتقام، وغسل العار في حروب القبائل والعشائر القديمة".
يختم الكاتب التونسي حسونة المصباحي قراءته للوضع بملاحظة تتسم بطابع الإنذار: "ثمة أمر آخر لا بد من الإشارة إليه، وهو أن الديمقراطية في شكلها الذي تبلور بعد الحرب الكونية الثانية، تعيش منذ عقدين على الأقل أزمة حادة، إذ إنها لم تعد تستجيب لمعطيات واقع العولمة، بالتالي لم تعد قادرة على أن تكون وسيلة لإيجاد حلول للأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في عالم يشهد تقلبات خطيرة على جميع المستويات منذراً بمستقبل مظلم للبشرية جمعاء".
النخبة الصامتة تترك الفرصة للخطاب المتطرف
وفي هذا السياق سألنا الروائي والأكاديمي الجزائري واسيني الأعرج عن أثر حركة التنوير الديني الجديدة في أوروبا التي كان من المفروض أن تسهم في ردم الهوة بين أطراف المجتمع المختلفة دينياً، لكنه رأى أن الدين التنويري لم يكن حاضراً في أوروبا، بل الشكل الديني الرائج فيها أسهم في خلق هوة بين الفرنسي من أصول عربية والفرنسي "الأصيل". لقد تم تمويل فئات دينية من أجل خلق حركات متطرفة، وكانت وراء أعمال إرهابية كثيرة. في المقابل هناك صعود واضح للعنصرية وللأمراض المتأصلة في فرنسا. ولنتذكر أن فرنسا خلال القرن 19 كانت من البلدان الأوروبية التي تأصلت فيها معاداة السامية. ونستعيد هنا رسالة إميل زولا "إني أتهم" إلى رئيس الجمهورية، بخصوص الجندي الشاب الذي اتهم بالتعامل مع ألمانيا. وهكذا نشأت في فرنسا أشياء مضادة للعقل وللمنطق وللتطور، والآن العنصرية صارت مثل أبواق أطلق هديرها، فغدت تهدر أكثر منذ مرحلة مارين لوبن، وهذه العنصرية تغذيها خطابات لأسماء حاضرة ومؤثرة في الحياة الفرنسية، نستحضر مثلاً إريك زمور وجون مسيحة، ومجموعة من المتطرفين الذي يعلنون تطرفهم الفكري ويدعون إليه بشكل واضح.
ينتقد واسيني الأعرج اليمين المتطرف ليس من أجل تنظيره لأفكار استئصالية وإلغائية، بل لكونه أيضاً بات فاعلاً بشكل مباشر في تأجيج العلاقة بين الفئات التي تشكل المجتمع الفرنسي. ويتوقف هنا عند نموذج الحملة التي قادها اليمين المتطرف من أجل جمع تبرعات لفائدة عائلة الجندي الذي قتل الشاب نائل. واللافت حقاً أن هذه التبرعات وصلت إلى 800 ألف يورو، بينما دفن الشاب الذي مات بدم بارد، وكأن شيئاً لم يكن.
يضيف صاحب "البيت الأندلسي": "إن مثل هذه الممارسات تزيد من تأجيج الوضع، ويمكن أن تنجم عنها نتائج كارثية. إننا نخاف في السنوات المقبلة أن يتحول الاحتجاج بالشهب والألعاب النارية إلى احتجاج بالرصاص الحي. فمثل هذه الأوضاع قد تؤسس فعلاً لحرب أهلية. وهذه حقاً ليست مبالغة".
يعرف واسيني الأعرج قوة الإعلام في فرنسا، ومدى تأثيره، بالتالي يدعو إلى تفادي إعادة إنتاج مثل هذه الخطابات المتطرفة التي تصل إلى الناس عبر وسائل إعلام غزيرة، حتى لا نعود إلى عام 2005 وربما لأسوأ منه. ينتقد الروائي الجزائري غياب النخبة الفرنسية التي كانت تؤازر الطبقات الدنيا من الشعب وتنتصر لقضايا العمال والمهاجرين. ويتأسف لأن هذه النخبة الصامتة أو الغائبة تركت مكانها لإعلام يشجع على إنتاج خطابات متطرفة ومنغلقة.
فشل فرنسي في إدماج المهاجرين
من أجل فهم سيكولوجي للأحداث الأخيرة توجهنا بأسئلتنا إلى الكاتبة والمحللة النفسانية المغربية حنان درقاوي، فتساءلت معنا: "علامَ يحتج مراهقو الضواحي في فرنسا؟ عاشت فرنسا الأسبوع الماضي على إيقاع حرائق اندلعت في الضواحي بعد مقتل المراهق نايل على يد شرطي. اشتعلت النيران وتمت المواجهة بين قوات الأمن والمراهقين، إذ إن الملاحظ أن متوسط العمر في هذه الأحداث هو سبع عشرة سنة. يتعلق الأمر بتعالقات معقدة بين ما هو سياسي اجتماعي وما هو هوياتي بل وحتى ديني، باعتبار الاعتداء على مكتبة مسيحية في مدينة نانت اعتبرها المتظاهرون فاشية".
تنتقد صاحبة "جسر الجميلات" استمرار التمييز في الحياة الفرنسية: "إن دلت هذه الأحداث على شيء فإنما تدل على فشل النموذج الفرنسي في إدماج المهاجرين. فمن العار وجود أحياء المهاجرين في ضواحي المدن وهي غيتوات يتجمع فيها العرب والأفارقة وبعض الفاشلين من الفرنسيين أو بقية الجاليات الأوروبية. إنها أحياء تذكر بالفصل العنصري، بالأبارتايد في جنوب أفريقيا، حيث تدخل تلك الأحياء وكأنك خارج الزمن الفرنسي، أحياء يحكمها أباطرة المخدرات أو المتدينون في غياب تام لقوانين الجمهورية".
تواصل الكاتبة والمترجمة المغربية حنان درقاوي: "على فرنسا أن تعيد النظر في سياسة المدينة وتنسف تلك الأحياء، وتوزع المهاجرين على الأحياء السكنية في مراكز المدن إن كانت هناك رغبة فعلية في إدماجهم. أما الإبقاء عليهم في تلك الأحياء حيث القاذورات والمخدرات والدعارة والتطرف الديني فهو نفاق فرنسي خالص. ما يحدث في فرنسا هو احتجاج عشوائي لا يمكن تبرير عنفه ووحشيته، لكن تبقى له أسباب ضاربة في عمق السياسة الفرنسية ونموذجها في إدماج المهاجرين. ما يفعله المراهقون في الضواحي يذكي اليمين المتطرف، على سبيل المثال ما تعرض له مسجد مدينة أوش من إتلاف ورسوم عنصرية. ما تتميز به هذه الأحداث على شاكلة أحداث 2005 وأحداث ليون 1990 هي حدتها وعنفها وعدم وجود مرجعية سياسية أو فكرية تتميز بالفجائية وتختفي كما ظهرت كشعلة فتيل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تعود درقاوي إلى الشباب الذين كانوا وراء الأحداث الأخيرة: "أما بخصوص المراهقين المشاركين في هذه الحرائق فإنهم يتميزون بالمثالية، حيث التمييز بين قوى الخير والشر، والشر هنا ممثل في الشرطة. يختلف تشرب الهو بالمثالية باختلاف الأشخاص والسياق الأسري أو الثقافي بأنواعه. فنحن على علم بصرامة الأنا الأعلى لدى نماذج من المراهقين. وهو ما يكون مبعث البطولة عند البعض أو الإحساس بالذنب أو غياب الضوابط فتحملهم على مختلف أنواع الانحراف وانتهاك القانون. لقد عبر مشعلو الحرائق عن فشل رغبتهم في الاندماج، فليس ما يحدث في ضواحينا صراعاً دينياً ولا احتجاجاً على الرموز الهوياتية. فالشخصيات الدينية الرسمية تشجب العنف والآباء لا يتضامنون مع أبنائهم الجانحين، ولا يتعلق الأمر بمواجهات بين الأعراق أو الديانات، والكل يستنكر استنكاراً شديداً فشل الإدماج الذي يتوقون إليه. الممتلكات التي أحرقت إنما هي رمز مغبوط كالسيارات والأسواق الممتازة ومخازن البضائع. هذه كلها علامة على النجاح والغنى وهي بمنزلة قيم بالنسبة للأقارب والراشدين. كما أن المدارس ودور الحضانة ومراكز الشرطة علامات على السلطة الاجتماعية والسياسية التي يودون اقتسامها. هل المراد تدمير فرنسا العلمانية والجمهورية حين يهاجم بيت عمدة مدينة لا هاي ليروز بإرادة مبيتة في القتل عن طريق إشعال النار في بيت فيه امرأة وطفلان نجوا بأعجوبة؟ عمَّ يود المراهقون الغاضبون مساءلة الحكام في فرنسا؟ عن حقهم في الاندماج؟ في الاستهلاك؟ أم الانفراد بقيم روحية؟".
عنف رسمي على شباب محروم
يرى الشاعر والإعلامي المغربي عبد الإله الصالحي أن "ما حدث ويحدث في فرنسا كان متوقعاً منذ مدة. في عام 2005 اندلعت اضطرابات كبيرة مماثلة وكان سببها هروب شابين من دورية للشرطة واحتراقهما في بناية محول كهربائي. هناك علاقة إشكالية بين أبناء الضواحي من أصول مهاجرة ورجال الشرطة. ومؤسسة الشرطة الفرنسية بحسب تحقيقات وبحوث مختلفة، مؤسسة فيها الكثير من العنصرية لأسباب تاريخية وبنيوية تعود إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية والماضي الاستعماري الفرنسي".
ينتقد صاحب "كلما لمستُ شيئاً كسرته" العنف الأمني في فرنسا على المغاربيين والأفارقة: "أن تطلق الشرطة الرصاص بهذه السهولة على مراهقين ولو كان سلوكهم أرعنَ ومقيتاً، هو أمر غير قانوني وفيه ظلم رهيب. العام الماضي وبحسب إحصاءات لمنظمات حقوقية وازنة قُتل 13 شخصاً في مقتبل العمر وفي حالات مماثلة تتعلق بعدم الامتثال لأوامر الشرطة. والسبب الرئيس هو تعديل قانوني تم في عام 2017 في سياق الاعتداءات الإرهابية، وبطلب من نقابات الشرطة الفرنسية، وتم بموجبه منح الشرطة صلاحيات واسعة لاستخدام السلاح. والآن الجميع يطالب بسحب هذا البند لأنه السبب الرئيس في تكرار حالات إطلاق النار العشوائية وقتل شباب الضواحي".
يحاول الشاعر المغربي عبد الإله الصالحي أن يقارب أسباب الأحداث مقاربة جريئة، ليخوض في موضوع يحاول الجميع التغاضي عنه: "أود أن أضيف شيئاً مهماً لا أحد يتحدث عنه هنا. هؤلاء الذين يحرقون وينهبون ويدمرون حتى المرافق الأساسية في أحيائهم وسيارات جيرانهم، ليسوا ثواراً ولا مناضلين، هم بالأساس مراهقون غاضبون ويائسون في ذروة البلوغ الجنسي ويعانون من كبت هائل، ومن صعوبات كبيرة في ري عنفوانهم، بسبب الفقر وضعف الثقافة وانعدام الآفاق. وهذا العنف المبالغ فيه والذي يفتقر إلى أدنى منطق أسبابه مرتبطة بالحرمان والرغبة الموؤودة. لو عاد فرويد وحلل هذه الظاهرة لنسي أوديب، وربما يبرر هذا العنف كله بالحاجة إلى حياة جنسية منعدمة في تلك الضواحي الفقيرة والمهمشة، التي يعيش فيها الشباب على إيقاع حرمان مقيت تؤججه وسائل التواصل الاجتماعي بأطنان الأجساد والفتيات الجميلة التي من المستحيل الوصول إليها في أرض الواقع".