Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بداية نهاية بوتين؟

تمرد بريغوجين انتهى سريعا ولا يزال يسبب المتاعب للكرملين

مقاتلو شركة فاغنر الخاصة للمرتزقة وهم ينسحبون من روستوف   (رويترز)

ملخص

انتهى تمرد بريغوجين بسرعة، لكنه يسبب المتاعب للكرملين. فهل هي بداية نهاية بوتين؟

دمرت حرب روسيا على أوكرانيا هالة الغموض التي كانت محيطة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين باعتباره مستبداً لا يمكن المساس به، فقبل الـ24 من فبراير (شباط) 2022، ربما بدا بوتين شخصاً مجرداً من المبادئ وعدوانياً، لكن تحركاته العسكرية في سوريا وشبه جزيرة القرم وخارجها، جعلته يبدو وكأنه استراتيجي بارع. ثم بين عشية وضحاها، أظهر عدم كفاءته بسبب غزوه بلداً لا يشكل أي تهديد لروسيا، وفشله مراراً وتكراراً في مغامرته العسكرية، وآخر مثال على ذلك هو التمرد المسلح القصير الأمد الذي نفذه زعيم المرتزقة يفغيني بريغوجين في نهاية هذا الأسبوع، الأمر الذي قوض لتوه الهالة الاستبدادية الغامضة التي يتمتع بها بوتين.

في الواقع، أسهم بوتين في نهوض بريغوجين وتجاهل إشارات التحذير من فاغنر، الشركة العسكرية الخاصة الخارجة عن السيطرة التابعة لبريغوجين. بينما كان الجيش الروسي يكافح في أوكرانيا، صعد نجم بريغوجين، ووصل إلى ذروته عندما استولت فاغنر على مدينة باخموت لصالح روسيا في مايو (أيار). واستغل بريغوجين آخر مساحة سياسية متبقية غير خاضعة للرقابة في روسيا، وهي تطبيق التواصل الاجتماعي "تيليغرام"، من أجل مخاطبة الجمهور الروسي. على مدى أشهر عدة، كان يخطط علناً لشن انقلاب، فأثار مشاجرات علنية مع قيادة القوات العسكرية الروسية، وقدم انتقادات شعبوية للمجهود الحربي، وألقى بظلال من الشك على التبريرات الرسمية للحرب التي عبر عنها بوتين نفسه. وعلى رغم ذلك، أخذت موسكو على حين غرة عندما طلب بريغوجين من جنوده أن ينتفضوا وينضموا إلى تمرد ضد وزارة الدفاع الروسية.

لقد كانت غطرسة بوتين وتردده هما القصة الأساسية وراء هذه الحرب، والآن أصبحا أيضاً القضية الأساسية التي تتمحور حولها السياسة المحلية الروسية. مهما كانت دوافع بريغوجين ونواياه، فإن تمرده كشف عن ضعف حاد في نظام بوتين يتمثل في ازدرائه للمواطن العادي. في الحقيقة، كان بوتين ذكياً جداً لدرجة أنه لم يسمح للحرب بالتأثير في موسكو وسان بطرسبرغ أو تركها تؤثر سلباً في النخبة السكانية في هاتين المدينتين. بيد أن هذا الذكاء الشديد نفسه فرض حرباً اختيارية على السكان غير النخبويين في البلاد. إذ جروا إلى صراع استعماري مروع، وعلى رغم أن موسكو لم تستهتر بحياتهم، إلا أنها كانت في كثير من الأحيان قاسية معهم. ولا يزال جنود كثيرون لا يعرفون ما الذي يقاتلون ويموتون من أجله. لقد جاء بريغوجين للتحدث نيابة عن هؤلاء الرجال، من دون أية حركة سياسية وراءه ولا أيديولوجية واضحة. لكن من خلال مناقضته المباشرة للدعاية الحكومية، سلط الضوء على الوضع البائس في الجبهة وعلى انعزال بوتين بشكل واضح وعدم اطلاعه على المستجدات، واستمتاعه بالإصغاء إلى حديث وزارة الدفاع عن المجد العسكري الروسي.

إذا تلاقى ازدراء بوتين وغضب الجنود الروس وأصبحا يرمزان إلى الدولة التي يحكمها بوتين، فإن الكرملين يواجه مشكلة حقيقية حتى من دون حدوث انقلاب. قد يشكل تمرد بريغوجين التحدي الرئيس الأول الذي يواجهه نظام بوتين، لكنه لن يكون الأخير. وفي أعقاب تمرده، من المرجح أن يحصل قمع متزايد في روسيا. والزعيم المرتبك الذي نجا من انقلاب محلي بصعوبة هو أكثر خطورة من مستبد في زمن الحرب يعتقد أنه آمن في وطنه.

بالنسبة إلى الغرب، ليس هناك مجهود كبير يبذله سوى السماح لهذه الدراما السياسية، التي تحمل بعض مظاهر المهزلة، أن تتكشف في روسيا. فلا مصلحة للغرب في الحفاظ على الوضع البوتيني الراهن، ولكن في الوقت نفسه ينبغي ألا يسعى إلى الإطاحة المفاجئة بنظام بوتين. بالنسبة إلى الغرب، قد يكون للاضطرابات في روسيا أهمية في الغالب لما تشير إليه في أوكرانيا، إذ يمكن أن يؤدي احتمال عدم الاستقرار في روسيا إلى طرح خيارات عسكرية جديدة. بصرف النظر عن استغلال هذه الخيارات جنباً إلى جنب مع كييف، لا يمكن للغرب أن يفعل شيئاً سوى البدء في الاستعداد لعدم الاستقرار داخل حدود روسيا وخارجها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بيت العنكبوت؟

المفارقة في تمرد بريغوجين هو أنه نشأ في سياق الجهود التي بذلها بوتين من أجل جعل نظامه "مضاداً للانقلاب". كان الروس المؤيدون لبوتين، أو في الأقل الخامدين [غير الفاعلين]، هم أساس قوته. وإضافة إلى هذا الأساس المتين، لطالما كانت هناك فصائل متنافسة بين النخب والأجهزة الأمنية، قام بوتين بتأليبها ضد بعضها.

ومن أجل الحفاظ على هذا الهيكل متماسكاً، كان على بوتين أن يوقف السخط الشعبي وأن يبقي النخبة السياسية تحت سيطرته. لذا فضل العمل مع رجال عرفهم منذ أيام الـ "كي جي بي" في ثمانينيات القرن الماضي وأيامه في حكومة سان بطرسبرغ في التسعينيات، التي كانت بمثابة نقطة انطلاق لمسيرته السياسية. كان هؤلاء الرجال مخلصين له لأن تمتعهم بالثروة والسلطة ليس ممكناً إلا مع وجود بوتين في موقع القيادة. وكان هناك خطر أكبر على بوتين يشكله أولئك الذين تمكنوا من الوصول إلى الأجهزة الأمنية والجيش، لكنهم لا ينتمون إلى دائرة أصدقائه والمقربين منه منذ فترة طويلة. وكان لا بد من الإشراف والسيطرة عليهم من خلال مكائد ومؤامرات رسمت بشكل متواصل لدرجة أنها أصبحت شيئاً روتينياً. في الواقع، تملك البلدان الأخرى سوق أسهم يرتفع ويهبط. في المقابل، يمتلك الكرملين سوقاً داخلياً للأسهم، ترتفع فيه حظوظ [ظروف] الأقوياء السياسية وتهبط.

في البداية، استمرت الحرب في هذا الروتين. وبدلت مناصب القادة العسكريين بشكل متواصل وذلك في جزء منه لأن الحرب لم تكن تسير على ما يرام، وفي جزء آخر لأن بوتين كان عليه أن يحرص على ألا تظهر من بين الجنرالات أية شخصية شبيهة بنابليون تتحداه. فحرض بوتين فاغنر ووزارة الدفاع الروسية على بعضهما بعضاً، ليرى أياً منهما يمكن أن يحقق نتائج أفضل في أوكرانيا ويسعى إلى مراقبة قوة الجيش ووزير الدفاع. كان موقع بريغوجين يوازي موقع القيادة العسكرية العليا، وكان ينفذ ما يطلب منه، مثل السيطرة على مدينة باخموت الأوكرانية، على سبيل المثال، التي لا تزال حتى الآن أكبر نجاح حققته روسيا في ميدان المعركة في العام الماضي. والجدير بالذكر أن كفاءة بريغوجين وضعت ضغطاً على الجيش الروسي الذي يفتقر بشدة إلى الكفاءة.

كان بإمكان بوتين أن يتخطى كل ذلك كما كان يفعل طوال سنوات، باعتباره سيد لعبة الشطرنج الذي يحرك البيادق بخبرة. أو هكذا بدا الأمر، إلى أن جاء أحدهم ورمى لوح الشطرنج جانباً.

 

احم العرش احم ظهرك

تنذر أحداث الأيام الثلاثة الماضية بمستقبل مظلم لروسيا. في غضون ساعات قليلة، أحدث تمرد بريغوجين المسلح فوضى هائلة. وأدت الحرب إلى استنزاف قدرة الدولة الروسية، ثم جاءت الثورة لتستنزفها أكثر، مما وضع موسكو أمام تحد داخلي جديد. طوال سنوات، ابتكر الكرملين طرقاً لمنع اندلاع ثورة حضرية ليبرالية. لكن اتضح أن التهديد الأكبر كان ثورة غير ليبرالية: انتفاضة شعبوية مسلحة [تتسم بصبغة عسكرية شديدة] لا يقودها الإصلاحيون العالميون بل القوميون الروس. ويمكن للقومية من الأعلى إلى الأسفل التي نشأت في الحرب أن تقوض نظام بوتين، وقد لا يكون بريغوجين هو الأخير من نوعه.

في الواقع، أثبت بريغوجين أنه يمكن الاعتداء على حصن البوتينية. خلال هذا التمرد الوجيز للغاية، كان التعبير عن الولاء لبوتين شبه موحد بين النخب، لكنه اتسم بالرتابة والبرودة بشكل ملحوظ. يمكن للممثلين الآخرين الأكثر ذكاء أن يتعلموا من بريغوجين، فيمزجون شعبيته مع برنامج سياسي لديه بعض التأثير خارج المرتزقة المتمردين وقادر على جذب فئة داخل النخبة الروسية. والنخب المعنية لن تكون منتمية إلى المثقفين أو عالم الأعمال، بل مرتبطة بالأجهزة الأمنية. قد تكون دوافعها غنائم السلطة، أو انطباعاً تكون لديها بأن بوتين ضعيف، أو الخوف من عملية تطهير مقبلة. إذا تبين أن مصير بوتين هو الإطاحة به، فهناك حافز يدفع الشخص لأن يكون هو من يطيح به - أو في الأقل لأن يكون مقرباً ممن يفعل ذلك. بطريقة موازية، هناك رادع للانتظار، بخاصة إذا كان بوتين عازماً على الانتقام. إذا جرى تنظيم ما يشبه "ليلة السكاكين الطويلة" [أو عملية الطائر الطنان، هي حملة تطهير بدأها النازيون في ألمانيا شهدت إعدامات تعزيزاً لقبضة هتلر على الحكم] بين النخب الروسية، فهذا قد يوحد شخصيات بارزة وراء خطة للإطاحة ببوتين.

قد يؤدي تقدم بريغوجين السريع في موسكو إلى إلهام أمراء حرب محتملين آخرين أو سلسلة من رواد الأعمال السياسيين الذين يطرحون مشاريع جديدة ثورية والساعين إلى تحقيق مكاسب محلية لكنهم لا يتحلون بما يكفي من قوة لإزاحة القيصر في موسكو، وفي الوقت نفسه، كل منهم حريص على تقويض سلطة الدولة ومكانتها. وقد تؤدي العواقب إلى شل الحكومة وإضعاف الموقف العسكري الروسي في أوكرانيا. بمرور الوقت، انتقل بريغوجين من انتقاد شن الحرب إلى انتقاد الغرض من الحرب. لا يمكن سحب الكلام الذي يقال الآن في العلن، ومفاده بأن الحرب الفاشلة قد تشكل تهديداً وجودياً لفخر روسيا ولكن ليس لروسيا نفسها.

 

 

استعد للأسوأ

قد يحاول بوتين ورفاقه لصق تهمة تمرد بريغوجين بالغرباء. ولكن حتى بالنسبة إلى نظام أتقن فن إلقاء اللوم على الغرب، سيكون هذا نوعاً من المبالغة. لم يكن لواشنطن أي نفوذ في السياسة المحلية الروسية، والوضع اليوم لا يشبه ذاك الذي كان قائماً في عام 1991، عندما سافر الرئيس جورج بوش الأب إلى أوكرانيا، وأوصى في خطابه الشهير "دجاج كييف" بالتمهل وإبطاء وتيرة الثورة. فحال عدم الاستقرار داخل روسيا ليست شيئاً يمكن للولايات المتحدة تشجيعه أو إيقافه. وعلى رغم ذلك، يمكن استخدامها لإحداث تأثير جيد وتحقيق الأهداف المرجوة في ساحات القتال في أوكرانيا. وما سيتبع هذا التمرد هو فترة فاصلة من الإلهاء والاتهامات وعدم اليقين، إذ إن بوتين لا يتعامل مع لوجستيات إعادة الأمور إلى طبيعتها فحسب، بل أيضاً مع الإذلال الذي تعرض له للتو والانتقام الذي من المرجح أن يسعى إليه. لن يمر أي من هذا بسرعة.

على رغم من أن أوكرانيا شنت هجوماً مضاداً طال انتظاره في الأسابيع الأخيرة، فهي لم تحقق تقدماً عسكرياً كبيراً منذ نوفمبر (تشرين الثاني) 2022. اتخذ الجنود الروس مواقع دفاعية محصنة في أماكن متعددة، وحتى الآن يعتبر الهجوم المضاد بطيئاً. والجدير بالذكر أن أوكرانيا المستعدة لمهاجمة المواقع الروسية، لديها معنويات عالية، ومجموعة من المؤيدين الملتزمين، ومسار استراتيجي واضح. في غياب الزعزعة السياسية، يعتبر الموقف العسكري الروسي في أوكرانيا محفوفاً بالمخاطر وغير مستقر في جوهره. وفي ظل الزعزعة السياسية، من الممكن أن ينهار.

في الحقيقة، تشكل تجربة الموت الوشيك التي واجهها بوتين مفارقة بالنسبة إلى الولايات المتحدة وحلفائها. فنظامه يمثل مشكلة أمنية هائلة لأوروبا، وخروجه من المسرح الدولي، متى حصل، لن يثير أي حزن أو أسف. على رغم ذلك، فإن روسيا ما بعد بوتين، التي يمكن أن تأتي في وقت أقرب بكثير مما كان متوقعاً قبل أسبوع واحد فحسب، ستتطلب قدراً كبيراً من الحذر والتخطيط الدقيق.

من المستبعد أن تبقى حال عدم الاستقرار الروسي محصورة في روسيا.

وبينما نتمنى مستقبلاً أفضل، يتمثل في نهاية الحرب في أوكرانيا وتراجع الاستبداد في روسيا، فمن المنطقي التخطيط للأسوأ: زعيم روسي أكثر راديكالية من بوتين، يظهر يمينيته ورجعيته بشكل علني، شخص ربما لديه خبرة عسكرية تفوق تلك التي اكتسبها بوتين في الماضي، شخص تركت وحشية الحرب بصمتها عليه. في فبراير (شباط) 2022، اختار بوتين شن حرب إجرامية. سيكون من العدالة المثالية بالنسبة إليه أن يصبح الضحية السياسية لهذه الحرب، لكن خليفته لا يسعه إلا أن يكون ابن هذه الحرب، والحروب تولد أطفالاً مضطربين.

سيتعين على الولايات المتحدة وحلفائها إدارة وتخفيف عواقب عدم الاستقرار في روسيا. في جميع السيناريوهات، سيحتاج الغرب إلى السعي إلى تحقيق الشفافية في ما يتعلق بالسيطرة على الأسلحة النووية الروسية واحتمال انتشار أسلحة الدمار الشامل، في إشارة إلى أنه ليس لديه نية ولا رغبة في تهديد وجود الدولة الروسية. في الوقت نفسه، يجب على الغرب أن يرسل رسالة ردع قوية، تركز على حماية الناتو وشركائه. من المستبعد أن تبقى حال عدم الاستقرار الروسي محصورة في روسيا، إذ يمكن أن تنتشر في جميع أنحاء المنطقة، من أرمينيا إلى بيلاروسيا.

لقد ألهم تمرد بريغوجين سلسلة من المقارنات التاريخية. فربما هو شبيه بروسيا عام 1905، ويمثل الثورة الصغيرة قبل اندلاع الثورة الكبيرة. أو ربما يشبه روسيا فبراير 1917، التي رزحت تحت ضغط سياسي بسبب الحرب، وفق ما ألمح إليه بوتين نفسه. أو ربما يذكرنا بالاتحاد السوفياتي في عام 1991، مما يجعل بوتين نسخة عن غورباتشوف، شخصاً مقدراً له أن يفقد إمبراطورية.

وهناك تشبيه أفضل يضع بريغوجين في دور ستينكا رازين، المتمرد على القوة القيصرية الذي حشد جيشاً من الفلاحين وحاول الزحف إلى موسكو من جنوب روسيا في 1670-1671. في النهاية قبض على رازين وأرغم على الإقامة في الميدان الأحمر. لكنه أصبح عنصراً أساسياً في الفولكلور السياسي الروسي. لقد كشف عن ضعف الحكومة القيصرية في عصره، وفي القرون التالية، صارت قصته مصدر وحي لغيره. بالنسبة إلى الحكام المستبدين في روسيا، فإن هذا يحمل درساً واضحاً: حتى التمرد الفاشل يغرس بذوراً لمحاولات المستقبلية.

  *  ليانا فيكس باحثة في الشؤون الأوروبية بمجلس العلاقات الخارجية.

** مايكل كيماج أستاذ التاريخ في الجامعة الكاثوليكية الأميركية وزميل رفيع غير مقيم في برنامج أوروبا وروسيا وأوراسيا في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS). من عام 2014 إلى عام 2016، عمل في "فريق موظفي تخطيط السياسات" في وزارة الخارجية الأميركية، إذ تولى الملف الروسي - الأوكراني.

مترجم عن فورين أفيرز 27 يونيو (حزيران) 2023

اقرأ المزيد

المزيد من آراء