Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هكذا صوَّرت السينما الفرنسية أزمة الضواحي والمهاجرين

ثقافة الكراهية والحيرة في الانتماء وقنابل قد تظل موقوتة

مشهد من فيلم "أتينا" لرومان غافراس (ملف الفيلم)

ملخص

ثقافة الكراهية والحيرة في الانتماء وقنابل قد تظل موقوتة

مقتل فتى في السابعة عشرة برصاص شرطي، كان رفض الامتثال لأوامره أثناء تفتيش مروري، قبل نحو عشرة أيام، أشعل فرنسا التي شهدت أعمال عنف وتخريب وشغب في مدن عدة. مع كل تفجير جديد لأزمة كهذه، يعود الحديث عن الأحياء الشعبية التي يعدها البعض "قنابل موقوتة" ستنفجر يوماً في وجه الفرنسيين، بسبب ما يعيشه هؤلاء من تهميش أو اقصاء يعانيه سكّان هذه المناطق المكتظة بأبناء المهاجرين الأفارقة والعرب غير المندمجين (على الطريقة الفرنسية) في البلد والمجتمع اللذين حضناهم. 

السينما الفرنسية لم تقف صامتة حيال هذه الأزمة التي تحدث شرخاً في المجتمع الفرنسي المتنوع، وتضرب الشعار الذي تأسست عليه الجمهورية: حرية، مساواة، إخاء. المسألة معقّدة، فيها السياسي والثقافي والاقتصادي والتربوي والديني، لكنّ الفن لم يقف حيالها وقفة القرود الثلاثة، إنما وضع نفسه في الخدمة لكشف التناقضات ورد الإعتبار إلى الضعفاء بعيداً من التدليس العقائدي والتجاذب السياسي والاصطفاف الاعلامي.     

تأكيداً لأهمية السينما في هذا الموضوع، ففي اضطرابات ضواحي باريس عام 2005 التي شهدت أعمال شغب وعنف قام بها مواطنون من أصول مهاجرة يعيشون الفراغ السياسي والاجتماعي والبطالة وانعدام الفرص والعنف والتشدد الديني، إستعان نيكولا ساركوزي، وزير الداخلية آنذاك، جملة من فيلم "ضاحية 13" (الذي كان أنتجه وكتب له السيناريو المخرج الشهير لوك بوسون قبل عام) تقول: "ضقنا ذرعاً من هذه الحثالة التي تكلّف الدولة أموالاً باهظة"، رداً على الإنتقادات الموجهة له بالتقصير. 

"الكراهية" الفرنسية

في العودة إلى سيرة السينما الفرنسية مع موضوع الضواحي والمهاجرين والعنف المتفشي في بيئتهم، هناك على الأقل ثلاثة أفلام  جادة (العديد من الأفلام التجارية ركبت الموجة أيضاً) وثّقت هذه الظاهرة الاجتماعية وطرحتها مادة للنقاش، رغم تفاوت مستواها السينمائي والخطابي. أبرز هذه الأفلام: "الكراهية" (1995) لماتيو كاسوفيتس، الذي استقطب آنذاك مليوني مشاهد داخل الصالات، وتحول سريعاً إلى ناطق باسم جيل كامل من سكّان الأحياء المهمشة. لا يمكن الحديث عن هذه الظاهرة من دون ذكر هذا الفيلم الذي يعود الناس إلى مشاهدته في كل مرة تشتعل فيها الضواحي الفرنسية، لا بل تتهافت وسائل الاعلام لنقل تصريحات كاسوفيتس ورأيه في المستجدات. علماً أنه أعلن أخيراً بأن الفيلم سيتحول إلى استعراض موسيقي، مصرحاً بأن الكل في فرنسا هم أبناء "الكراهية" التي باتت جزءاً من الثقافة الفرنسية.

ينطلق الفيلم المصوَّر بالأبيض والأسود، من واقعة مشابهة تماماً لما يحدث حالياً في فرنسا، وهذا لا يعني أنّ كاسوفيتس كان استبق الأحداث بل بنى على أحداث سابقة، فالاضطرابات والمشاكسات مع الشرطة ليست وليدة اليوم بل يعود تاريخها إلى نهاية السبعينيات، عندما بادرت الشرطة في ليون إلى توقيف مراهق، مما أدى إلى تفجير الشارع وقيام مؤيديه بأعمال شغب احتجاجاً على العنف البوليسي. 

بعد عقد ونيف، صاغ كاسوفيتس فيلمه انطلاقاً من الفتى عبدالله الذي يتعرض لعنف مماثل بعد استجوابه، مما يؤدي إلى مواجهة عنيفة بين قاطني المساكن الشعبية والأمن ضمن صراع مفتوح. ثلاثة شباب، وهم أصدقاء، ينخرطون في هذه المواجهات متوعدين بالانتقام. أحدهم يهودي والثاني عربي مسلم والثالث أفريقي. يقدّم الفيلم هؤلاء باعتبارهم يعيشون على هامش المجتمع، تجمعهم كراهية بلا حدود للشرطة، وطبعاً ينتصر لهم ولقضيتهم في أسلوب سينمائي تحول إلى مدرسة، خصوصاً في استعماله العبارات والمفردات الخاصة بتلك البيئة، مع حضور قوي لكل الشخصيات التي كانت السينما الفرنسية تجاهلتها، قبل هذا الفيلم الذي يفتح جرحاً عميقاً ويناقش موضوعاً لم يسبق أن نوقش بهذه الصراحة أوالرغبة في الذهاب إلى آخر الطريق. بعد "الكراهية"، صار "فيلم الضواحي" نوعاً سينمائياً في ذاته، وبات مثالاً للأفلام التي جاءت من بعده، كما لو أنه شرع لها الباب.   

"البؤساء" في الضواحي

"البؤساء" (2019) للادج لي، وهو باكورة الأفلام الروائية الطويلة لسينمائي ثلاثيني من أصول مالية، يمشي على خطى "الكراهية"، ليروي، بعد نحو ربع قرن، حكاية مشابهة، تقول من جملة ما تقوله، إن الأوضاع لم تتغير منذ التسعينيات بل زادت تعقيداً. يعرف لادج لي عمّا يتحدّث، فهو ابن هذه الضواحي التي نشأ فيها واحتك بكل هؤلاء الذين وضعهم أمام كاميراه. 

يموضع لي كاميراه في حيز مكاني يشهد تشابك ثقافات وشلل وعصابات وسماسرة نصبوا أنفسهم أولياء على البسطاء من الناس. هؤلاء هم أشخاص الفيلم، ويشير إليهم العنوان بكلمة "بؤساء"، في إحالة صريحة إلى رواية فيكتور هوغو التي كتبها في مونفرماي (سين سان دوني)، البقعة التي تجري فيها الأحداث. والفيلم يؤمن فعلاً بمقولة هوغو: "ليس ثمة أعشاب ضارة ولا ناس أشرار. هناك فلاحون أو مربون سيئون". 

أما الحكاية فهي بسيطة: ثلاثة عناصر من الشرطة المحلية يجدون أنفسهم في مواجهة مع سلسلة من المشاكل تقع في منطقتهم، ويتوجب عليهم التعاطي معها وإيجاد حلول مناسبة لها. أحد هؤلاء الثلاثة عوده لا يزال طرياً، فهو انضم إلى زميليه حديثاً، ليشكّل معهما فريقاً، هما المخضرمان والمعروفان في المنطقة حيث ينشطان منذ زمن طويل، والمطلعان فيها على الشاردة والواردة. الشرطي الجديد يجسّد بطراوته وهشاشته وحيرته وأخلاقه، العين "الخارجية العذراء غير الملوثة"، على الأحداث التي يحرص الفيلم على نقلها من دون مساومة، ويمكن القول إن هذا الشرطي أقرب إلى المُشاهد منه إلى شخصية البطل. إنه هنا، ليراقب ويحلل ويسعى إلى الفهم، وهو خال من الأفكار المسبقة، الأمر الذي يجعله موضوعياً. 

لا ينتصر الفيلم لسكّان الأحياء "الصعبة" (كما يطلق عليها الفرنسيون) فحسب، بل يحاول فهم مهام الشرطة فيها، وذلك من خلال رد الإعتبار إلى معاناة عناصرها خلال التظاهرات وحالات التصادم مع الشعب، مما يقود البعض منهم إلى الإنتحار. ولكن رغم تعقّبهم للمخالفين وتطبيق القانون في حقهم، لا يحولهم الفيلم إلى أبطال بل يصورهم بعللهم وهشاشتهم وتجاوزاتهم ومزاجيتهم. أما الدقائق الـ40 الأخيرة، فيغرقنا الفيلم في قسوة بالغة، استلهمها المخرج من حادث عرضي وقع في سين سان دوني عام 2008، وكان شاهداً عليها بكاميراته.   

حرب وشيكة

ثالث الأفلام التي تُعتبر وثيقة مهمة عن أزمة الضواحي أو الصراع بين السلطة الفرنسية والجاليات الأفريقية والعربية، هو "أتينا" للمخرج الفرنسي رومان غافراس الذي عُرض العام الماضي وأحدث جدلاً واسعاً في الإعلام الفرنسي عقب توافره على "نتفليكس"، خصوصاً أنه يقول كلاماً خطراً عن حرب وشيكة قد تحدث بين العرب والفرنسيين إذا ما استمرت الأمور على ما هي عليه. وكتب ناقد مجلة "بروميير" يقول إن "هذا فيلم فوضوي وملتبس على صورة البلد الذي يقف على حافة الهاوية"، في حين اعتبرت صحيفة "لومانيتيه" اليسارية أن "غافراس يمنح الحالمين بالحرب الأهلية الصور التي يحلمون بها". 

صحيح أن غافراس (وهو ابن المخرج الكبير كوستا غافراس) ولد ونشأ في بيئة غير تلك التي يأتي منها لادج لي (الذي كتب سيناريو "أتينا")، لكن مشروعه تأثيري تفاعلي أكثر مما هو فكري، وهو يختلف شكلاً ومضموناً عن الفيلمين السابقين. لا يطمح غافراس إلى إصلاح أمر معين، أو مداواة جرح أو إيجاد حل، بل يحاول أن يكشف الأمور "من الآخر"، من دون أي هم اجتماعي، في محاولة للقول أن الآتي أعظم. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مجدداً، تبدأ المشكلة من حادث عرضي: إنتشار مقطع مصوَّر على وسائط التواصل يظهر قتل شاب من أصل جزائري يُدعى إيدير خلال مداهمة للشرطة. مدينة أتينا الشعبية (مدينة متخيلة، لكن الأحداث التي تجري فيها تستلهم الواقع) حيث مهاجرون من أصول عربية، تغلي غلياناً على وقع هذه الحادثة، وسرعان ما تشهد انتفاضة، فتتصاعد وتيرة العنف إلى مستويات غير مسبوقة. المدينة بأكملها والتي تصبح أشبه بمسرح لتراجيديا إغريقية محورها تقاتل الأشقاء، تغرق في العنف والفوضى والخراب. وداخل هذا كله، ثمة صراعات ثانوية، وهو الصراع الذي يعيشه عبدالله، العاجز عن اختيار معسكره، والتائه بين واجبه كابن دولة وبين مطالب عائلته التي لا تزال تحت هول الصدمة. 

مشكلة الفيلم أنه يتعامل مع مسألة متشعبة وخطرة بسطحية شديدة تخلو من أي نقاش، محولاً العنف والتشدد اللذين في الضواحي إلى استعراض سينمائي جميل بلا أي عمق. أما الشخصيات، فهي ظلال تتحرك على الشاشة. مع ذلك، يبقى "أتينا" فيلماً بارزاً لا يمكن التغاضي عنه عند الحديث عن هذه الطبقة الإجتماعية، علماً أن الخطاب ملتبس وقد يأتي بمردود عكسي. فإذا كان الهدف هو إثارة التعاطف مع أبناء المهاجرين، فهذه طريقة لا تنسجم مع الأهداف. فمجانية أفعال الشخصيات التي نراها وسوء معاملتها بعضها لبعض، يتحولان عند المشاهد إلى نوع من نفور، وليس من المستغرب أن يجد نفسه على مضض في صفوف رجال الأمن. 

اقرأ المزيد

المزيد من سينما