رد ابن رشد
لقد تميَّز أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد (520-595 ه/ 1126-1198 م) في تناوله مفهوم النبوة وأمور الخوارق والمعجزات، من منظور علمي بحت، فكما هو معلوم أن الغزالي في المسألة السابعة عشرة من "تهافت الفلاسفة" دحض أقوال الفارابي وابن سينا في مسألة السببية بغية إثبات المعجزات الخارقة للعادة عند بعض الأنبياء، منها إحياء الموتى كما كان عند المسيح عيسى عليه السلام، أو قلب العصا ثعباناً كما كان عند موسى عليه السلام، أو شقّ القمر كما عند محمد (صلّ الله عليه وسلّم). فجاء ابن رشد في "تهافت التهافت" معترضاً على الغزالي، وردَّ عليه حججه، وأرجع إلى الفلاسفة اعتبارهم، لأن إنكار السبب يعني إنكار العلم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن قول الفلاسفة بالاقتران المشاهَد بين الأسباب والمسبّبات هو اقترانُ تلازمٍ بالضرورة. فليس في المقدور ولا في الإمكان إيجاد السبب دون المسبّب، ولا وجود المسبّب دون السبب. ولذلك لا يثبت من المعجزات الخارقة للعادات إلاّ ثلاثة أمور. الأول القوة المتخيّلة، فإذا استولت وقويت، ولم تستغرقها الحواس بالاشتغال اطّلعت على اللوح المحفوظ، فانطبعت فيها صور الجزئيّات الكائنة في المستقبل، وذلك في اليقظة للأنبياء ولسائر الناس في النوم. الثاني القوة العقليَّة، وهو راجع إلى قوة الحدس في سرعة الانتقال من معلوم إلى معلوم بالتنبّه لفهم المعقولات، والناس على تفاوت في ذلك، حتى إن النبي لا يحتاج في العقولات إلى معلّم، بل كأنه يتعلم من نفسه. الثالث، في القوة النفسيَّة، فقد تنتهي إلى حدّ تتأثر بها الطبيعيات وتتسخّر، ولا يبعد أن تبلغ قوة النفس إلى حدّ تخدمها القوة الطبيعية وتطبعها في غير بدنها. مثلاً: تسبّب نفسُ النبي في هبوب ريح، ونزول مطر، وهجوم صاعقة، وتزلزُل الأرض.
أمَّا الغزالي فلا يرى هناك سببيَّة للمحسوسات، فالاقتران بين ما يُعرف بالسبب وما يُعرف بالمسبَّب إنّما هو اقترانٌ عرَضيٌّ جائزٌ، مردّه إلى حكم العادة، لا إلى الضرورة العقلية. فالفارابي وابن سينا وغيرهما من الفلاسفة الذين يقولون بالسببيَّة، لا دليل لهم عليها إلا بمّا يشاهدون من اقتران بين الأسباب والمسبَّبات، لكن هذه المشاهدة لا تدل على حصول الشيء بالشيء المقترَن به، بل على حصوله عنده، وشتانٌ بين الاثنين.
ومن هنا، يشدّد الغزالي على أن مشاهدة التلازم، التي تجري بين السبب والمسبَّب ليست ضرورية عقلية قط، إنّما تكون وليد العادة لا أكثر، فالله قادرٌ على خرق العادة متى شاء، لذلك يرتفع الاقتران بين مّا يُعتقد في العادة سبباً، وبين مّا يُعتقد مسبَّباً، وهو ما يحدث في المعجزات النبويَّة.
ويردّ ابن رشد قائلاً، "إن للأشياء ذوات وصفات هي التي اقتضت الأفعال الخاصة بموجود موجود، وهي التي من قِبَلها اختلفت ذوات الأشياء وأسماؤها، فلو لم يكن لموجود موجود فعل يخصه لم تكن له طبيعة تخصه، ولو لم يكن له طبيعة تخصه لما كان له اسم يخصه ولا حدّ، وكانت الأشياء كلها شيئاً واحداً ولا شيئاً واحداً".
مثال على ذلك، أن الماء والنار لكل منهما فعل طبيعي يخصه، الماء كونه مادةً سائلةً بها يكون الرَّي والرطوبة، والنار كونها جسماً شفافاً به يكون الاحتراق والضوء. فلو لم يكن لكل من النار والماء طبيعة تخصه لما كان له فعل يخصه، ولكان الماء والنار شيئاً واحداً. ولذلك فإن للأشياء حقائق وحدود هي ضرورية في وجود الموجود وفي صدور أفعاله عنه.
إن إنكار وجود الأسباب الفاعلة، التي تُشاهد في المحسوسات قول سفسطائي، حسب تشخيص ابن رشد. فما السببيَّة إلا التعبيرُ عن هذه الطبائع وما ينتج عنها من أفعال خاصة بها. وهذا بيَّنٌ بحكم العقل، إذ إن العقل، وفق رأي ابن رشد، ليس هو شيئاً أكثر من إدراك الموجودات بأسبابها، وبه يفترق عن سائر القوى المدركة. فمَنْ رفعَ الأسباب فقد رفع العقل، وبذلك فقد أبطل العلم، وأنكر أن يكون هناك علمٌ واحدٌ ضروريٌّ.
ويذهب ابن رشد إلى حدّ أبعد، فيرى: مَنْ جحد الأسباب فقد جحد الصانع (الله)، وجعل وجود المسبَّبات عن الأسباب بالاتفاق وبغير قصد، فلا تكون هناك حكمة أصلاً، ولا تدل على صانع، بل إنّما تدل على الاتفاق. وعليه، فقول الغزالي إن الله أجرى العادة بهذه الأسباب قولٌ بعيدٌ جداً عن مقتضى الحكمة، بل هو مبطل لها، لأن المسبَّبات إن كان يمكن أن توجد من غير هذه الأسباب، فأي حكمة في وجودها عن هذه الأسباب؟ وأي دلالة فيها على الصانع؟
وفي سبيل إثبات ذلك، يقدّم ابن رشد مثلاً: لو لم يكن شكل يد الإنسان وعدد أصابعها ومقدارها ضرورياً في الإمساك، الذي هو فعلها وفي احتوائها على جميع الأشياء المختلفة الشكل، ومافقتها لإمساك آلات جميع الصنائع، لكان وجود أفعال اليد عن شكلها وعدد أجزائها ومقدارها هو الاتفاق، ولكان لا فرق بين أن يُخص الإنسان باليد أو الحافر، وبالجملة متى رفعنا الأسباب والمسبَّبات لم يكن هناك شيء يُردُّ به على القائلين بالاتفاق، أعني الذين يقولون لا صانع هنا. فالحكيم إنّما يفعل لمكان سبب من الأسباب، فإذا رأينا فعلاً ليس في ترتيبه حكمة دلَّ على الاتفاق، وأمّا إذا كانت تتجلى فيه مظاهر الحكمة فلا بدّ أن يكون صادراً عن فاعل حكيم مختار، وصانع مريد متقن صنعته.
ويؤكد ابن رشد أن فكرة الجواز بين السبب والمسببَّ، التي طرحها الغزالي، فإن هذا القول أقرب إلى أن يدل على نفي الصانع من أن يدل على وجوده. وهذا يعني، أنه متى لم يُعقل أن ههنا أوساطاً بين المبادئ والغايات في المصنوعات يُرتب عليها وجود الغايات لم يكن ههنا نظام ولا ترتيب. وإذا لم يكن ههنا نظام وترتيب لم يكن ههنا دلالة على أن لهذه الموجودات فاعلاً مريداً عالماً، لأن الترتيب والنظام وبناء المسبَّبات على الأسباب، هو الذي يدل على أنها صدرت عن علمٍ وحكمةٍ.
وحسب تصوّر ابن رشد، فإن الغزالي ومَنْ يوافقونه الرأي من المتكلمين والأشاعرة في نفي السببيًّة، ظناً منهم أن التسليم بفعل القوى الطبيعية الفاعلة في الوجود، يعني التسليم بوجود أسباب فاعلة للخوارق والمعجزات من غير الله. لكن لا فاعل ههنا إلا الله، وأن ما سواه من الأسباب، التي سخّرها ليست تسمّى فاعلة إلا مجازاً، إذ كان وجودها إنّما هو به وهو الذي صّيرها أسباباً، بل هو الذي يحفظ وجودها في كونها فاعلة، ويحفظ مفعولاتها بعد فعلها، وهو المخترع جواهر جميع الأشياء التي تقترن بها أسبابها لأنه يعلمها، وعلمه بها هو العلة في وجودها، وفي وجود جميع ما يلزم عنها، وفي حفظ وجودها في نفسها.
وفي "مناهج الأدلة" أشار ابن رشد قائلاً "منْ أنكر وجود المسبّبات مرتّبةً على الأسباب في الأمور الصناعية، أو لم يدركها فهمه، فليس عنده علم بالصناعة، ولا الصانع. كذلك من جحد وجود ترتيب المسبّبات على الأسباب، في هذا العالم، فقد جحد الصانع الحكيم".
الاعتراض على المعجزات
يرى ابن رشد في ردّه على الغزالي بمسألة الاعتراض على معجزات الأنبياء: فشيء لم يقل به إلا الزنادقة من أهل الإسلام (يقصد ابن الراوندي والرازي وبقية الملاحدة). فالحكماء من الفلاسفة ليس يجوز عندهم التكلُّم، ولا الجدل، في مبادئ الشرائع، ومن عرض له تأويل في مبدأ من مبادئها، ففرضه أن لاّ يصرّح بذلك التأويل.
أمَّا قول الغزالي إن الله خلق لنا علماً بأن هذه الممكنات لا تقع إلاّ في أوقات مخصوصة، كأنك قلت: وقتَ المعجزة، إلاّ أن العلم المخلوق فينا إنّما هو أبداً شيء تابع لطبيعة الوجود، فالصادق هو أن يُعتقد في الشيء أنه على الحال التي هو عليها في الوجود. هذه الحال هي التي يتعلق بها علمنا، ويُعبّرون عنها بالعادة، ويعبّر عنها الفلاسفة بالطبيعة.
كذلك علم الله بالموجودات، وإن كان الله علّة لها، فهي أيضاً لازمة لعلمه. ولذلك لزم أن يقع الموجود على وفق علمه. فالوقوف على الغيب، من قبَل إعلام الله للنبيّ، ليس شيئاً أكثر من الاطّلاع على طبيعة الموجودات، وهي تابعة للإرادة الأزليَّة والعلو الأزلي. حصول العلم، فيما ليس عندنا دليل يتقدم عليه، هو الذي يسمّى للناس رؤيا وللأنبياء وحي. فالمنامات والوحي، كما قلنا، إنما هي إعلام بطبيعة الموجودات.
بيد أن مبدأ السببية، الذي يعارض خرق القوانين الطبيعية، الذي التزم به ابن رشد إلى حدّ مّا، جعله ينفي الخوارق والمعجزات. وأشار في كتابه "مناهج الأدلة" إلى أنه "يقضي العقل قضاء كلياً وباتاً على أن هذه الطبيعة لا يمكن أن تتغير، ولا أن تنقلب". لكن الذي ينكر المعجزات، التي يقوم بها النبي، فإنه قلل إيمانه في قدرة الله على كل شيء.
صحيح أن ابن رشد حاول سد هذه الثغرة في فلسفته، فذهب إلى تقسيم المعجزة إلى نوعين: معجزٌ براني، جعله طريقاً للجمهور فقط. ومعجزٌ مناسب جعله طريقاً مشتركاً لكل من الجمهور والعلماء. الأول كنايةٌ عن الخوارق في مفهومها المادي كالمشي على الماء، وفلق البحر وإحياء الموتى وقلب العصا ثعباناً.
أمَّا الثاني فهو المأخوذ من صّلب الرسالة أو النبوة: وضع الشرائع الموافقة للحق في العلم والعمل والإعلام بالغيوب. ونظم هو خارج عن النظم، الذي يكون بفكر وروية، أي أسلوب في البلاغة ليس كأسلوب البلغاء المتحكمين بلسان النبي.
وهنا يجعل ابن رشد من العقل أن يكون فوق الوحي. فإذا أراد الفارابي وابن سينا أن يجعلا من منزلة النبي والفيلسوف متساويَّة بالعقل. وإذا خصّ المعري النبوة وجعلها مقصورة على عقل الإنسان نفسه، فإن ابن رشد جعل من العقل هو الرقيب الوحيد على الوحي النبوي. ويقول في ذلك: "وكل شريعة كانت بالوحي فالعقل يخالطها. ومن سلَّم أنه يمكن أن تكون ههنا شريعة بالعقل فقط، فإنه يلزم ضرورة أن تكون أنقص من الشرائع، التي استنبطت بالعقل والوحي".
ليس هذا فحسب، بل إن ابن رشد أنكر أيضاً مسألة العلم بالغيب عند النبي. وكل الذي أقرّ به هو معرفة النبي بالحوادث البعيدة من غير تأثير فيها أو في أسبابها، وذلك عن طريق إطلاع النبي عليها بوحي من الله. وهذا الحرص على عدم تجاوز السببية لا داعي له، طالما كان الأمر يتعلق بنبوة مُرسلة من عالم إلهي فوق السببيَّة نفسها، لأن الإيمان بالنبوة يجب أن لا يكون محدوداً بحدود القوانين المادية. وهذا الأمر، بصورة أو أخرى، مشابه إلى إصرار الغزالي على إنكار السببيَّة، حرصاً منه على حقيقة النبوة والدين، لكنه بذلك غلق على العقل باباً يُستدل به على قدرة وحكمة الخالق تعالى.
إن السببيّة التي التزم بمبدأها العلمي ابن رشد، أثبتها العلم الحديث، فالسببيَّة أو الحتميَّة أدّت إلى تقدمات كثيرة في الاكتشافات والاختراعات. فالأمر يتعلق بقوانين الطبيعة لا الضرورة العقلية، وسبر غور الطبيعة، يتطلب دراسة وتمحيص العلة والمعلول، لواقع يتفاعل فيه العقل.