ملخص
لطالما لعبت السياسة الإيرانية على وتر الصقور والحمائم تجاه استعادة العلاقات مع أميركا
تزايدت خلال الفترة الماضية الرسائل والرسائل المضادة بين طهران وواشنطن حول فحوى اتصالات متكررة في أوروبا أو دول المنطقة لإحياء الاتفاق النووي. بدأت تلك الرسائل بتصريحات متفائلة لوزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان الذي يعرف عنه تسابقه عادةً إلى إعلان ما يجيش في خاطره لتسجيل نقاط سياسية لحكومته التي وصفت بأنها أكثر حكومات إيران تشدداً والتصاقاً وتبعية للمرشد، تلتها تلك التسريبات الصادرة عن تل أبيب، والتي أدت إلى انزعاج كبير في واشنطن.
وتبع انزعاج الإدارة الأميركية تصريحات لمستشار الأمن القومي، وصولاً إلى تجريد المبعوث الخاص إلى إيران روبرت مالي من تصريحه الأمني، وإحالته إلى التحقيق، لإساءة التعامل مع سرية الوثائق، وهي التهمة التي أبرزتها الصحافة الأميركية في تناولها لطبيعة طلب الاستجواب الذي دعا إليه مجلس النواب الأميركي حول المبعوث، ومطالبته لوزير الخارجية أنتوني بلينكن بمعلومات مفصلة حول الموضوع، و"المخاوف الجدية للجمهوريين في الكونغرس في ما يتعلق بسلوك مالي، وما إذا كانت وزارة الخارجية قد ضللت الكونغرس والرأي العام الأميركي".
وأشار رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأميركي، الجمهوري مايكل ماكول، قبل أيام، إلى أنه "في حين أن تعليق تصريح المبعوث الخاص روبرت مالي، هو أمر مزعج، إلا أن قلقنا يتفاقم بسبب فشل وزارة الخارجية في الاستجابة للجنة العلاقات الخارجية التي تشرف على مفاوضاتها مع إيران، وسياساتها تجاهها". وفيما يختلف الجمهوريون والديمقراطيون حول إيران، تشير تقارير إعلامية أميركية إلى قرب توصل أميركا إلى صفقة مع إيران من شأنها إطلاق سراح أميركيين محتجزين في إيران، وتجميد برنامج إيران النووي.
من جانبه يؤكد مالي أنه يتوقع أن يتوصل التحقيق إلى نتائج إيجابية قريباً. وهذا الشد والجذب بين البيت الأبيض الديمقراطي، ومجلس النواب الذي يفرض فيه الجمهوريون سيطرة قوية، يعكس جدية الإدارة لإحياء الاتفاق النووي حتى قبل 17 شهراً من نهاية الولاية الرئاسية الأولى للرئيس جو بايدن، وهو توجه يقابل بترحاب شديد في طهران ممن يطلق عليهم "الإصلاحيين" المنفتحين على أميركا في مواجهة المحافظين المتشددين.
ظريف... نموذج لخطب الود
لطالما لعبت السياسة الإيرانية على وتر الصقور والحمائم تجاه استعادة العلاقات مع أميركا، وهذه اللعبة يرافقها صف طويل من عناصر القوة الناعمة تلتقي مع ما يمكن تسميته اللوبي الإيراني في واشنطن، الذي كان -ولا يزال- يعزف على وتر إمكانية انتصار الإصلاحيين داخل النظام الإيراني متناسين نظام الخميني وطبيعته الأيديولوجية العنيفة.
ومن بين من يتهمون في طهران بالعمالة للغرب ولأميركا تحديداً، يقف وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف، الذي يوصف بأنه العقل المدبر للصفقة الإيرانية المعروفة بالاتفاق النووي، والتي حققت انفراجة قوية لصالح نظام الملالي على الساحة الدولية حتى مايو (أيار) 2018، عندما أعلن الرئيس السابق دونالد ترمب انسحابه من الاتفاق، مما أحدث صدمة في أوساط النظام الإيراني، الذي اعتقد بإمكانية الاستمرار في سياساته الإرهابية لزعزعة الأمن والاستقرار الإقليمي، مع تطبيع العلاقات مع الغرب.
ظريف قدم بداية الشهر الماضي عرضاً لمرويته الشخصية عن بطولاته الخارقة لخدمة إيران، ومعاركه الكثيرة لإفشال مساعي "الحرس الثوري" خلال حوار مفتوح في منصة "كلوب هاوس" Clubhouse امتد لست ساعات ونصف الساعة بعد منتصف ليل السادس من يونيو (حزيران) الماضي في طهران، وكيف تدخل "الحرس الثوري" في مسؤولياته على مدى فترة طويلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن بين المزاعم التي أطلقها ظريف أن الرئيس ترمب كان يتطلع إلى صياغة اتفاق جديد مع إيران عقب الانسحاب من اتفاق عام 2015، وأنه عرض لقاء ظريف في مناسبتين في عام 2019، كانت الأولى خلال مشاركته في نيويورك في مؤتمر المراجعة لمعاهدة حظر الانتشار النووي، والثانية خلال دعوته للمشاركة في فرنسا في القمة الـ45 لمجموعة الدول السبع، لكنه لم يتلق موافقة مكتب المرشد على إجراء اللقاءين مع ترمب، متهماً بعض المسؤولين من المستويات الوسطى بعرقلة جهوده.
واستفاض ظريف بالحديث عن إنجازه العظيم، الذي تحقق لإنقاذ إيران التي كانت على شفا كارثة، وكيف أسهم الاتفاق في الوصول إلى الموارد المالية، وتدفق الاستثمار الأجنبي، وصفقات الاستثمار مع شركتي "إيرباص" و"بوينغ". ودافع في حديثه عن أهمية علاقات بلاده مع أميركا التي درس في جامعاتها، ومتباهياً بعلاقاته الودية مع (وزير الخارجية الأميركي السابق) جون كيري، وغيره من المسؤولين في الإدارات الأميركية المتعاقبة. وأضاف أن فشل جهوده، وعدم منحه الفرصة لبحث الأمر مع الرئيس ترمب، كانا بسبب المتشددين الكارهين لأميركا، الذين يحتكرون المشهد السياسي والإعلامي الحالي، ويمسكون الهيئات المنتخبة وغير المنتخبة في إيران بقبضة فولاذية، مؤكداً أنه تعرض -ولا يزال- لسيل من الهجمات ممن يصفون أنفسهم بالأنصار المخلصين للثورة، الذين يصفونه بـ"الكفر" أو "المستغرب" الذي يتوق إلى أسلوب الحياة والملذات الغربية، والذي باع إيران لأميركا.
المايسترو يرغب في ذلك
في واقع الحال فشهادات ظريف عن أيامه الخوالي، من وجهة نظر مؤيدي نظرية الصقور والحمائم وإمكانية انتصار الإصلاحيين فيما لو لقوا سنداً غربياً قوياً، تعكس وجود الانقسام في مختلف مستويات السلطة في طهران بين المعتدلين والمتشددين، ولكن تلك التصريحات تؤكد أيضاً عدم جدوى الحديث عن إصلاح النظام الإيراني الحالي، لأن لعبة الصقور والحمائم تنتهي عند بوابة الولي الفقي الذي هو فوق الخطأ باعتباره ممثلاً "للذات الإلهية"، وهو الذي يقرر كل شيء في مصائر الإيرانيين، المسؤول عن قتل المتظاهرين وتسميم تلميذات المدارس، والعنف المنفلت لـ"الباسيج" و"الحرس الثوري"، والقرصنة المتكررة على ممرات الملاحة الدولية في الخليج، وهو في الوقت ذاته الإمام الملهم.
كما يؤكد حديث ظريف بما لا يدع مجالاً للشك استحالة أن يتمكن الإصلاحيون المفترضون من إحداث تغيير ملموس، وإنما هم جزء من النظام الذي انتفض الشعب الإيراني ضده، وهم يلعبون أدواراً في سيمفونية يقودها المرشد ولا تقبل العزف النشاز، إلا إذا كان فيه مصلحة للنظام، في توزيع للأدوار بات مفضوحاً، فالرئيس الإيراني الحالي إبراهيم رئيسي هو أحد المقربين من الحرس الثوري ولا يمكن أن يدعي أنه رجل الإصلاح والاعتدال. وما لم يكن ظريف جزءاً من النظام، فكيف يسمح له بهذا القدر من الحركة والمشاركات في البرامج الحوارية الشعبية الأميركية، ووجوده الثابت في مراكز الأبحاث الغربية، وقول ما يقول من داخل طهران، في الوقت الذي يعدم فيه نائب وزير الدفاع الإيراني على رضا أكبري بتهمة التجسس لصالح الغرب، وهو الذي كان مقرباً من الغرب ضمن أوركسترا خامنئي.
هذا الظريف يراه غلاة المحافظين عميلاً للغرب، فيما ينظر إليه من قبل المعارضة الإيرانية في الخارج باعتباره أخطر أدوات النظام للتلون كحرباء، وما زال يمتلك صدقية المفاوض لدى المفاوضين الغربيين، ليثير حفيظة وزير الخارجية الحالي الذي يحاول جاهداً لعب الدور. ومما لا يختلف فيه اثنان أن ظريف يتمتع ببراعة دبلوماسية، حتى إنه يكرر في أحاديثه كيف أن هنري كيسنجر أطلق عليه صفة "الخصم المحترم"، فقد لعب دوراً محورياً في العلاقات الحميمة التي أقامتها حكومة الرئيس السابق حسن روحاني مع الغرب، على رغم خضوعها لحراسة مشددة من "الحرس الثوري" الذي كان يعد عليه أنفاسه لقياس المرغوب وغير المرغوب في قوله.
في الأخير، إن لعبة النظام في طهران تشبه كثيراً لعبة كارتون الأطفال للقط والفار "توم أند جيري"، ممتعة للمتابعة، ولكنها باتت معروفة النهايات من كثرة تكرارها. وستبدي لنا الأيام ما نجهل من هذا الأمر، أو كما قال طرفة بن العبد، وقد ينقشع التحقيق الذي يجري في واشنطن مع المبعوث روبرت مالي عن اتفاق لإحياء عظام الاتفاق النووي المهترئة، والله أعلم.