ملخص
"البستاني الدؤوب" بين حكاية حب مريرة والفساد المستشري في عالم صناعات الأدوية
لم ينتظر كثر عام 2005 الذي شهد ظهور النسخة المؤفلمة من رواية جون لوكاريه "البستاني الدؤوب" (2001) حتى يعتبروا تلك الرواية واحدة من أهم ما أبدعه هذا الكاتب منذ روايته الكبيرة الأولى "الجاسوس الآتي من الصقيع" والتي أوصلها الفيلم المقتبس عنها منذ عام 1965 إلى ذروة في أدب الجاسوسية وأدب الحرب الباردة فشكلت المعادل الذكي والمنطقي لموجة روايات وأفلام جيمس بوند التي ظهرت في الآونة نفسها. فمنذ ظهور "البستاني الدؤوب" أدرك قراء لوكاريه أن كاتبهم المفضل هذا لم يكتف بأن يجد لنفسه مساراً أدبياً آخر ينقذه من "مأزق انتهاء الحرب الباردة" الذي كان يهدده بالتقاعد، إذ كان قد جعل من أدبه خلال الثلث الأخير من القرن العشرين مرآة لذلك "الظرف التاريخي المركب"، فما إن انتهى ذلك الظرف حتى اعتبر لوكاريه الخاسر الأكبر وجرى التساؤل عمّ تراه سيكتب بعد الآن؟ ومن هنا كانت مفاجأته الكبرى تمكنه من فتح ذلك المسار الجديد بفتح أدبه على عالم الألفية الجديدة بقضاياه المتشابكة بعيداً من الحرب الباردة التي كانت قد شكلت مصدر إلهامه وموضوعاته. إذا في تحولاته الجديدة آنذاك لم يكتف لوكاريه بفتح المسار الجديد بل خاض من المواضيع ما جعله يبدو من أكثر أبناء جيله تماشياً مع العصر وفي حداثة مذهلة.
بعد دفن الحرب الباردة
ولئن كان هذا التوجه قد ظهر منذ السنوات الأولى التي تلت نهاية الحرب الباردة وربما مع تلك الرواية التي بدت وكأنها لا تزال تتحدث عنها، "أمنا روسية" فإذا بها تبدو وكأنها تدفنها إلى الأبد، فإنه وصل إلى ذروته في "البستاني الدؤوب" التي حملت من الجديد ما جعل لوكاريه يبدو، حتى في لغته والأبعاد الدرامية ناهيك بمواضيعه، يبدو وكأنه ولد من جديد، بحيث بدا منطقياً القول بأن ثمة الآن "لوكاريه ما بعد البستاني" و"لوكاريه ما قبله". وليس قليلاً عدد القراء الذين باتوا يفضلون لوكاريه الجديد على لوكاريه القديم... بفضل هذه الرواية تحديداً معتبرينها قطعة أدبية تنتمي إلى الأدب الكبير على رغم أنه نادراً ما حدث لهذا النوع من الأدب أن اعتبر أدباً كبيراً. فعمّ تتحدث "البستاني الدؤوب"؟
الزمن الراهن ولكن...
عن الزمن الراهن كما أشرنا. ولكن ليس بشكل خطي. وعن النضال ضد موبقات الزمن الراهن ولكن ليس بصورة مباشرة. ففي نهاية الأمر كان لوكاريه أكثر عمقاً وإبداعاً من أن يخوض أدبه على تلك الطريقة، ولا سيما في حلته الجديدة. ومن هنا لم يكن غريباً أن يقدم عملاً متشابك الأحداث رسمت علاقاته بأبعاد تكاد تكون ذاتية ودنا من موضوعه الجوهري دنوا حذراً وبطيئاً بحيث تختلط الأحداث الكبرى التي تطاول المصائر الجماعية، بالأحداث والمصائر الصغرى التي لئن كانت تنفعل بتلك الأحداث فإنها في الوقت نفسه تفعل فيها. أما الأحداث الكبرى فإنها تكاد تُختصر هنا بجشع شركات تصنيع الأدوية الكبرى واستهانتها بالأرواح البشرية على مذبح شعاري "دائماً أكثر" و"كل شيء يبرر المزيد من الأرباح". أما الأحداث الصغرى فتكاد من ناحيتها تُختصر بحكاية عائلية بسيطة هي حكاية زوج دبلوماسي إنجليزي وعالم، تقتل زوجته فيما هي تقوم بمهمة إنسانية في شرق أفريقيا فيتكشف مقتلها عن طبقات متعددة من الأحداث غير المتوقعة والعواطف المتقلبة... والحقيقة أن هذا الإيجاز ليس في مقدوره أن يفي "البستاني الدؤوب" حقها، لكنه يضعنا في قلب إشكاليتيها الرئيسيتين: حياة الأفراد الخاصة على ضوء عالم تنتفي فيه الحدود بكل المعاني، والعولمة التي بدلاً من أن تكون نعمة على البشرية باتت نقمة بالتأكيد.
الرواية الرسمية
وتنطلق الحكاية من تلك العلاقة الغرامية العاصفة التي تقوم بين الدبلوماسي جاستين كوليلي والحسناء تيسا، علاقة تنتهي بالزواج. ويقصد الاثنان نيروبي في شرق أفريقيا، حيث يغوص هو في عمله الدبلوماسي فيما تنصرف هي إلى جمع المعلومات التي قد تدين شركات تصنيع الأدوية العملاقة في تلك المنطقة من العالم بصحبة عدد من مناضلين أفارقة وغير أفارقة. ثم يحدث ذات يوم أن تقتل الزوجة وهي تقوم بتحقيقات تتعلق بتجارب تقوم بها الشركات لأدويتها على سكان المناطق الأفريقية النائية، وكانت في صحبة طبيب أفريقي شاب صديق لها يشاركها جهودها. ولما تتولى السلطات البريطانية التحقيق "تستنتج" أن القاتل "ليس سوى ذلك الطبيب الصديق" الذي يشارك تيسا تحقيقاتها ونضالاتها. وفي البداية يبدو كوايلي مقتنعاً باستنتاجات السلطات الدبلوماسية ما يضاعف من حزنه وغضبه، بخاصة أن تلك الاستنتاجات تحاول الإيحاء بوجود علاقة بين القتيلة والصديق. غير أن سلسلة من الذكريات والتساؤلات وضروب الشك تتوالى لدى كوايلي بالتدريج، في لندن كما في المناطق الأفريقية النائية التي أجرت فيها زوجته تحقيقاتها، ستقوده بالتدريج إلى حقائق تتناقض تماماً مع تلك "الحقائق" التي أعلنتها الدبلوماسية البريطانية.
القتلة الحقيقيون
إن الحقائق الجديدة التي يتوصل إليها كوايلي لا تكتفي بتبرئة زوجته من تهمة إقامة علاقة مع المتهم بقتلها، ولا بتبرئة هذا الأخير من تهمتي العلاقة والقتل، بل ستكشف بما لا يدع مجالاً لأدنى شك عن تلك الحقائق الأخرى المؤكدة هذه المرة: الحقائق المتعلقة بممارسات الشركات العملاقة في مجال اكتشاف الأدوية وإقامة التجارب عليها ودائماً على أولئك الفقراء البائسين الذي يرضون بذلك مقابل دريهمات يواجهون بها الجوع غير دارين أو غير آبهين بما تخلف لديهم من أمراض قاتلة أو مزمنة كثمن لذلك "التقدم" العلمي الذي يعود على الشركات العملاقة بالمليارات. وهذه الحالة يتناولها لوكاريه في هذه الرواية بشكل هو من الشفافية بحيث يمكن لأي متابع جدي أن يشير بأصابعه إلى أحداث حقيقية من هذا النوع تمكنت عبرها شركة تسمى هنا "كارل فينا هادمون" من إحلال البشر – الأكثر فقراً من بينهم طبعاً – محل الحيوانات والفئران في مجال اختبار الأدوية الجديدة، التي ستكون باهظة الثمن بالتأكيد، ويمكنها أن تتصدى لآثار جانبية تنتج من العلاج من الإيدز. ونعرف طبعاً أن هذا الموضوع لم يكن وليد خيالات جون لوكاريه، بل كان حقيقة واقعة خلال السنوات التي سبقت كتابته رواية "البستاني الدؤوب" أيام استشراء الإيدز والفضائح التي اندلعت ولا سيما مصحوبة بأخبار تتوالى آتية لتتحدث عن انتشار غريب لهذا الوباء في المناطق الأكثر فقراً في الشرق الأفريقي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بين لوكاريه وجيمس بوند
ومن هنا اتسمت رواية لوكاريه بذلك الطابع الواقعي الذي لم تأت الحكاية الشخصية للدبلوماسي العالم كوايلي كزينة له إنما أتت لتسبغ عليه ذلك البعد الدرامي الذي أنقذ الرواية من فخ الخطيّة والمباشرة وكان في ذلك قوة هذه الرواية التي فتحت كما أشرنا لجون لوكاريه (1931 – 2020 واسمه الحقيقي دافيد كورنويل) آفاقاً أدبية جديدة عوضت عليه ما خسره بانتهاء الحرب الباردة، ما أدخله مرة جديدة عالم السياسة ولكن دائماً بعيداً من أساليب الأبيض والأسود التي تقسم العالم أخياراً وأشراراً... وهو بعد نعرف أن لوكاريه مارسه حتى في رواياته عن الحرب الباردة حيث غالباً ما عامل فريقي الحرب من منظور أخلاقي عادل. بالتالي لم يكن غريباً عليه في توجهه الذي ختم به حياته عبر ما يزيد على دزينة رائعة من روايات تناول في معظمها شؤون العالم الحديث لكنه "زار" في بعضها حنينه إلى العالم القديم وإلى رفاقه في ذلك العالم، ولكن دائماً عبر مواقف عادلة وإنسانية تضعه إلى جانب غراهام غرين على سبيل المثال، في تناقض تام مع كاتب كمواطنه إيان فليمنغ جعل من بطله جيمس بوند و"خزعبلاته" جزءاً من أكاذيب تلك الحرب الباردة وتخريفاتها الكبرى. نقول هذا من دون أن يفوتنا طبعاً أن نجاحات بوند وأمثاله كانت وتبقى أضخم كثيراً من نجاحات لوكاريه... وما الانحطاط الذي تعيشه البشرية في العقود الأخيرة سوى إشارة حية إلى أسباب ومجريات ذلك التفاوت... أليس كذلك؟