ملخص
شاب عراقي حول فقدانه أحد أطرافه خلال مواجهات "داعش" إلى دافع لإنجاز في بريطانيا ليعود إلى بلاده ويؤسس فريقاً لكرة القدم لمبتوري الأطراف ويقوده إلى اعتراف محلي ودولي... فما القصة؟
ما إن وضعت معارك العراق أوزارها حتى ظهرت من وراء غبار الحرب تجارب ولدت من رحم المعاناة، عراقيون خلقوا لأنفسهم مساحات للأمل مهما ضاقت بهم الأمكنة فحولوا الحوادث المنهكة التي مروا بهم إلى ذكريات بعيدة، ومنهم من جعل من لعبة المستطيل الأخضر دافعاً لتجديد الأمل وإعادة الثقة بالنفس والحلم بأن يكون على منصات التتويج وحصد الألقاب مهما تألم الجسد من أوجاع.
هنا في بلاد الرافدين، خطف فريق كرة القدم لفاقدي الأطراف العقول والقلوب بعد إعلان على وسائل التواصل الاجتماعي وضعه محمد عدنان النجار الذي فقد ساقه في حرب التحرير من تنظيم "داعش" الإرهابي بسامراء ليعيش بعدها تجربة علاج طويلة، ويتمكن بعد تعافيه من العودة إلى لعبته المفضلة وهي كرة القدم، ولكن هذه المرة وهو يستند إلى العكازات.
الشوق لكرة القدم
رئيس اتحاد كرة القدم لفاقدي الأطراف بالعراق محمد عدنان النجار تحدث إلى "اندبندنت عربية"، قائلاً "في عام 2014 وأثناء حرب التحرير من داعش تعرضت إلى إصابة في ساقي خلال عملية نقل الجرحى في منطقة المكيشيفة بسامراء، وللأسف تأخرت عملية الإنقاذ بسبب اشتداد المعارك وانتهى الأمر بتفاقم الإصابة ولم تنجح المحاولات الطبية في إعادة ربط الشريان، فكان لا بد من بترها. كنت في غيوبة بسبب المضاعفات التي أدت إلى توقف الكلى والرئة ولم أكن أعلم بفقدان ساقي إلا بعد استفاقتي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم يستسلم النجار وبدأ مرحلة التعافي وعاد إلى عمله في وزارة النفط، وتمكن بعد فترة من الحصول على بعثة لدراسة الدكتوراه في لندن، و"تكيفت مع الطرف الصناعي الذي تم تركيبه لي بدلاً من الساق التي فقدتها وبدأت بالعودة للمشي وأداء الأعمال اليومية والاهتمام بأسرتي لكنني كنت أفتقد كرة القدم التي كنت أمارسها قبل تعرض ساقي للبتر".
محطة نادي بورتسموث
في المدينة التي حققت حلم محمد عدنان النجار، في الحصول على الدكتوراه لم يكن يعلم أنها أيضاً ستعيد له القدرة على ممارسة شغفه والعودة للمستطيل الأخضر. "في مدينة بورتسموث البريطانية أكملت دراستي واكتشفت وجود رياضة اسمها (كرة القدم لفاقدي الأطراف)، ولهم بطولات محلية وعالمية تواصلت مع الفريق إلكترونياً وأخبرتهم برغبتي بالتدريب مع الفريق، ومن حسن حظي أن الفريق كان بحاجة إلى لاعب".
ويمضي في رواية قصة نجاحه "بالفعل بدأت التدريب واللعب معهم وتمكن الفريق من الحصول على كأس دوري إنجلترا في عام 2018 وكنت سعيداً بأن كرة القدم أعادت لي ثقتي بنفسي ولياقتي التي خسرتها بعد ترك الرياضة".
بات النجار مشهوراً بين العرب والعراقيين لكونه لاعباً ضمن فريق بورتسموث بل وحصوله على لقب أفضل لاعب في النادي عام 2019.
العودة إلى بغداد
بقي الحلم قائماً لدى محمد عدنان النجار بنقل تجربة نادي بورتسموث إلى العراق وتأسيس فريق كرة القدم لفاقدي الأطراف، ولم يكن من الصعب التواصل مع هذه الفئة في بلد عاش سلسلة من الكوارث والحروب "عدت إلى بغداد في عام 2021 وظل هذا الحلم يخالج ذهني بشكل دائم، وبدأت الخطوة بتواصلي مع مراكز الأطراف الصناعية في العاصمة العراقية، ثم وضعت إعلاناً عن فكرة تأسيس الفريق والدعوة لمن يجد الرغبة في الالتحاق به".
نجح الإعلان الذي وضعه النجار في جذب الكثير من الشباب من فقد أطرافه، وكان يمارس كرة القدم قبل الإصابة أو لديه الرغبة بالعودة إلى الحياة من خلال تجربة جديدة وهي الرياضة.
بدأت التدريبات بعد تأجير ملعب صغير في منطقة الكرادة ببغداد، وبدأ محمد عدنان النجار بتعريف اللاعبين أصول اللعبة التي تفترض أن من فقد أحد أطرافه العليا بأن يلعب كحارس مرمى أما الذي فقد أحد أطرافه السفلى فسيكون لاعباً يتحرك على المستطيل الأخضر، كما أن اللعب يكون باستخدام العكازات كامتداد لليد فلا يجوز أن تمسها الكرة ولا يمكن اللعب بوجود الطرف الاصطناعي كون الحركة فيه تكون بطيئة ومؤلمة على عكس اللعب بالعكازات التي تعطي مرونة وسرعة أكثر.
اعتراف دولي
ضم الفريق الذي دعا إلى تشكيله (محمد عدنان النجار)، عدداً ممن فقدوا أطرافهم بسبب الحرب والانفجارات، وهم النسبة الأكبر، وكذلك من كانوا على نفس الشاكلة لكن بسبب أخطاء طبية أو لخلل ولادي أو حوادث أخرى.
وفي أغسطس (آب)2021، أعلن عن تأسيس الفريق، ومن بغداد اتسعت التجربة لتتأسس فرق أخرى في محافظات الموصل والناصرية والبصرة، لكن لا قيمة لكل الفرق إن لم يتم الحصول على الاعتراف بها دولياً ومحلياً.
هنا سعى النجار إلى الحصول على الاعتراف الدولي وتمكن من نيله بالفعل، ومنح الاعتراف الدولي فرصة للفريق للمشاركة في تصفيات كأس العالم عام 2022، وشارك الفريق في مارس (آذار) من العام نفسه، في بطولة غرب آسيا التي أقيمت في إيران، ونجح في التأهل وحصل على المركز الثالث على المجموعة.
وخلال أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، شارك الفريق في بطولة كأس العالم التي أقيمت في تركيا، وتمكن من تحقيق ثلاثة انتصارات على منتخبات أوروغواي وإيرلندا وألمانيا، وخسر ثلاثاً أخرى، إلا أن هذه الإنجازات جعلت تصنيف فريق كرة القدم لمبتوري الأطراف يحصل على الترتيب (19) عالمياً من أصل سبعين فريق على رغم حداثة التجربة في العراق والتنافس مع فرق لها تاريخ طويل من المشاركات.
الطريق الأولمبي
بعد النجاح بتحقيق الاعتراف دولياً، حصل فريق كرة القدم لمبتوري الأطراف على الاعتراف من قبل وزارة الشباب والرياضة العراقية، ما يضمن استمرارية الفريق وحصوله على الدعم المادي وتخصيص الرواتب للاعبين.
يقول النجار "توافرت الشروط للحصول على الاعتراف من قبل وزارة الشباب والرياضة فلدينا هيئة إدارية ونظام داخلي، وكذلك اعتراف دولي، كل هذا جعلنا نتمكن من الحصول على الاعتراف من المسؤولين العراقيين والانضمام إلى اللجنة الأولمبية، ووفقاً لقانون العام 2021 حصل اتحاد كرة القدم لفاقدي الأطراف على ما يسمى (بصدقية عمل) وسيكون مستقلاً ويحصل على الدعم المباشر من الحكومة".
اليأس مرفوض
"عدت إلى الرياضة تدريجاً، بدأت بالسباحة، وبعدها انتقلت إلى اللعب مع فريق كرة القدم لمبتوري الأطراف، لم أجعل اليأس يغلبني ولم أترك عملي على رغم أن قانون العمل يسمح لي بالتقاعد لأسباب صحية لكنني ما زلت أعمل وأمارس الرياضة التي أحبها"، كلمات أطلقها حيدر رحيم حسين أحد أعضاء الفريق.
ويروي أنه خسر ساقه بسبب تفجير إرهابي عام 2013 بمنطقة شارع فلسطين، وكان يمارس رياضة (الكيك بوكسينغ) في أندية الجوية والجيش، لكنه لم يستسلم للإصابة بل عاد لممارسة حياته تدريجاً بعد تركيب الطرف الاصطناعي.
ويضيف "من الصعب أن تكون معافاً في الصباح وفي المساء قد فقدت أحد أطرافك، تملكني اليأس في البداية ولم أكن أتخيل أنه بإمكاني معاودة ممارسة أي رياضة، وبدا لعب كرة القدم بالعكازات غريباً لي بعض الشيء فالعكازات خصصت للمشي وليس للجري لكن مع الاستمرار في التدريب بدأت اعتاد على اللعب، عودتي إلى الرياضة غيرت حياتي بالكامل وأدركت أن الحياة لن تتوقف على بتر اليد أو الساق".
يتذكر الشاب العراقي كريم حسن بداياته فيقول "كنت أشعر بالخجل من إصابتي ولم أرغب بمغادرة المنزل، أحسست بأن حياتي قاربت على نهايتها، كنت رياضياً قبل الإصابة ولم أتخيل بأنني سأعود إليها".
كان كريم منتسباً في وزارة الدفاع العراقية قبل خسارة ساقه بسبب العمليات العسكرية في الموصل عام 2014، وعن هذا يقول "الإعلان عن تأسيس هذا الفريق والانضمام له كان بمثابة العودة للحياة، الآن أمارس رياضة كرة القدم فضلاً عن ألعاب القوى في نادي الجيش".
قبل وبعد الإصابة
قدر للاعب علي محمد أن يفقد ذراعه وهو الذي كان يلعب حارس مرمى في براعم نادي القوة الجوية، وفجأة سقط عام 2007 وسط جحيم الانفجار في منطقة باب الشرقي بالقرب من محل أخيه، لينتهي الأمر بفقدانه ذراعه التي كان يحلم بأنها ستصد كرات الخصم ولعله يتوج مستقبلاً كأفضل حارس مرمى.
يحكي علي "كان شيئاً غريباً جداً أن أعود من دون ذراعي لممارسة لعبة كرة القدم وأكون حارساً للمرمى. عانيت في البداية من التكيف على الوضع الجديد لكن مع التدريب تحسن أدائي وما زال الحلم يراودني بالصعود إلى منصات التتويج".
"تعاني شريحة ذوي الحاجات الخاصة في مجتمعاتنا من التنمر، وغالباً ما يؤدي ذلك إلى عزلة الشخص عن ممارسة حياته بشكل طبيعي ولكن الوجود مع أشخاص من نفس الفئة وتعاني ذات المشكلة يمنحهم فرصة البدء للتكيف مع الحياة مجدداً"، هذا ما يراه علي جبار باسم، الذي فقد ساقه بعمليات التحرير من "داعش" في منطقة سامراء عام 2014.
ويتابع "كنت منعزلاً، وعانيت من زيادة في الوزن، لكن الالتحاق بهذا الفريق دعمني صحياً والأهم هو الدعم الاجتماعي فالفريق خلق أجواءً من الصداقة بين هذه المجموعة ونقضي الكثير من الأوقات خارج الوحدات التدريبية".
في السياق نفسه، يوضح علي نبيل محمد الذي يعاني خللاً منذ الولادة، "أن الوجود بين الأصحاء واللعب معهم كان يعرضني لكثير من التنمر أما وجودي في هذه المجموعة يشعرني بالراحة بسبب غياب التنمر".
كما وجد اللاعب علي سمير المصاب بشلل الأطفال انسجاماً كاملاً ضمن مجموعة فريق كرة القدم لمبتوري الأطراف "أنا محب للرياضة جداً وعندما وجدت الدعوة للانضمام لهذا الفريق أدركت أن حياتي ستتغير فالوجود مع مجموعة تحارب اليأس من أجل الرياضة يمنحني الأمل والشعور بعدم العجز".
الدعم المالي
يضم اتحاد كرة القدم العراقي لمبتوري الأطراف، حالياً، 70 شخصاً بين لاعب وإداري وكذلك مدربين وحكام متطوعين لخدمة هذه الشريحة. يقول المدرب المتطوع لتدريب الفريق وعضو الاتحاد مصطفى كامل، إن التعامل مع هذه الفئة خاص جداً، فالبعض منهم يجرب كرة القدم للمرة الأولى والبعض كان لاعباً قبل الإصابة والآن يلعب وهو فاقد أحد أطرافه فخلق التحدي والإرادة من خلال التدريب المتواصل ليس سهلاً ويحتاج مزيداً من الجهد والاهتمام من قبل الجميع".
كامل الذي كان مدرباً في اللجنة البارالمبية ومدرب نادي الذري لذوي الاحتياجات الخاصة، يرى أن الفريق بحاجة إلى الدعم المالي لتوفير معسكرات التدريب الخارجية وتخصيص رواتب للاعبين فحصول الفريق على نتائج مرضية خلال كأس العالم منحهم الإصرار والأمل لتحقيق نتائج أفضل خلال المشاركات المستقبلية المقبلة، وهي بطولة آسيا 2024 وبطولة العرب وكأس العالم في 2026.
وبسبب غياب التخصص المالي للفريق يعتمد المنتخب حالياً على المنح التي تقدمها وزارة الشباب والرياضة لضمان ديمومة وحداته التدريبية ومشاركته في البطولات.
ويختتم طبيب المنتخب العراقي لفاقدي الأطراف عمر محمد الحديث بقوله "أرى وجودي مع هذا الفريق هو أنبل رسالة أقدمها خلال عملي في ظل صعوبة هذه الرياضة كونها تعتمد على الأطراف العليا أكثر من السفلى، فنسبة الإصابات تكون عالية في الكتف والمرفق والرسغ التي يقع عليها تركيز وزن الجسم"، وتتطلب لياقة وقوة تحمل واستمرارية بالتدريب. البعض من اللاعبين عندما بدأ اللعب كان يعاني وزناً زائداً والآن مع التمرين أصبحت لديهم لياقة عالية وبإمكانهم مواصلة التمرين لمدة ساعتين من دون توقف.