ملخص
قلل المراقبون من نتائج مهمة وزيرة الخزانة الأميركية التي استهدفت تحسين العلاقات بين واشنطن وبكين واتسمت بالصعوبة والتعقيد، وهذه هي الأسباب
بينما تسعى إدارة بايدن إلى وقف تدهور العلاقة مع الصين لتقليل أخطار نشوب صراع على رغم تزايد شكوك بكين في نيات واشنطن، حاولت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين تهدئة مخاوف كبار القادة الصينيين الذين التقتهم في بكين بأن الولايات المتحدة لا تسعى إلى الانفصال عن الصين، وأنها لا تريد الفوز بكل شيء، ومع ذلك كان المتخصصون والمسؤولون الأميركيون يقللون من إمكانية حدوث انفراج في العلاقات مع نهاية رحلتها، فما الذي جعل مهمة يلين عسيرة ومعقدة؟
من وحي زيارة نيكسون
في إشارة لا تخطئها عين، حرص المسؤولون الصينيون على استضافة وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين في أماكن ذات دلالة كبيرة مثل غرفة اجتماعات بيت الضيافة التابع للدولة، حيث أقام الرئيس ريتشارد نيكسون خلال زيارته التاريخية لبكين عام 1972، وهي الزيارة التي حولت سياسة أميركا تجاه الصين وفتحت أبواب التعاون بين البلدين على مدى أكثر من نصف قرن، وهو ما يعكس التقدير الذي حظيت به يلين في بكين كشخصية تمثل صوت الاعتدال في الإدارة الأميركية، ولأنها كانت من أبرز مؤيدي الإدارة للحفاظ على العلاقات الاقتصادية مع الصين، وعبرت عن موقفها الرافض للتعريفات الجمركية ضد بكين التي بدأها ترمب، وحثت على توخي الحذر في شأن القيود الجديدة على الاستثمار في الصين، وحذرت مجدداً من أن فصل أكبر اقتصادين في العالم سيكون كارثياً.
وعلى رغم أن يلين وجهت خلال جلسة تأكيد تعيينها كوزيرة أوائل 2021 نبرة صارمة تجاه الصين، واصفة إياها بأنها أهم منافس استراتيجي لأميركا، وتعهدت مواجهة ممارساتها التي وصفتها بأنها تعسفية وغير عادلة، فإنها احتضنت عباءة البراغماتية الاقتصادية، حيث يتأقلم الاقتصاد العالمي مع التضخم والنمو البطيء، وأوضحت بلا تردد أنه يجب عدم السماح لأي خلاف أن يؤدي إلى سوء فهم يفاقم العلاقات الاقتصادية والمالية الثنائية.
وركزت يلين طوال رحلتها على كيفية إعادة كل حكومة رسم الخط الفاصل بين الروابط التجارية التي تدر الأرباح والفوائد على الطرفين، وبين تلك التي تخلق أخطاراً أمنية، الأمر الذي يتماشى مع أهداف الولايات المتحدة في إحياء الاتصالات بين الحكومتين، والتي قطعت إلى حد كبير بسبب العزلة التي أحدثها فيروس "كوفيد" في الصين خلال معظم السنوات الثلاث الماضية، ولكن مع الإبقاء على التنافس الاستراتيجي المفتوح.
أسباب الترحيب الصيني
تبدو أسباب الترحيب الصيني بالوزيرة الأميركية متعددة، فهم يرونها شخصية أكاديمية ومتخصصة اقتصادية تحظى باحترام، منذ أن شغلت منصب محافظ مجلس الاحتياط الفيدرالي الأميركي وحرصها على التواصل مع المسؤولين الصينيين آنذاك، كما أنهم يحبونها كثيراً لأنها تنظر إلى العالم من منظور اقتصادي، وهم مرتاحون للغاية لذلك، وفقاً لما قاله رئيس مجلس الأعمال الأميركي - الصيني كريغ ألين لصحيفة "نيويورك تايمز".
كما اعتبر المتخصص في استراتيجية الصين بمؤسسة هيرتاج مايكل بيلسبري أن المسؤولين الصينيين يعتبرون يلين صديقة وينظرون إليها على أنها صوت العقل وهم يأملون في أن تكون قادرة على تقديم القضية لإدارة بايدن بأن الولايات المتحدة يجب أن تتراجع عن قيود الاستثمار الجديدة، وكذلك التراجع عن التعريفات.
غير أن صحيفة "وول ستريت جورنال" اعتبرت أن الترحيب الصيني يعود إلى أسباب اقتصادية واضحة تتمثل في ضعف الاقتصاد الصيني، الأمر الذي يجعل الأمر أكثر إلحاحاً بالنسبة لبكين للسعي إلى علاقة مستقرة مع الولايات المتحدة. وبينما تعمل الولايات المتحدة على كبح جماح التضخم تواجه الصين مشكلة عكسية تتمثل في ضعف نمو الأسعار، كما يعود التحدي الذي تواجهه بكين بشكل جزئي إلى انتعاش أضعف من المتوقع منذ أن رفعت جميع القيود المتعلقة بالوباء تقريباً.
ومن بين الخيارات التي يقول الاقتصاديون إن بإمكان بكين توظيفها لإنعاش اقتصادها، خفض أسعار الفائدة، أو إضعاف عملتها، أو تقديم النقد وغيره من الحوافز للشركات أو الأسر ضمن إجراءات يمكن أن تنتشر عبر الأسواق وتؤثر في الولايات المتحدة أيضاً، ولهذا أرادت يلين الحصول على قراءة واضحة من المسؤولين الصينيين حول الاتجاه الذي يسير فيه اقتصاد بلادهم.
هل نجحت الزيارة؟
قبل أن تبدأ يلين زيارتها التي استغرقت أربعة أيام، كانت التوقعات بوقف دوامة الهبوط في العلاقات بين الجانبين قليلة بحسب ما يشير ديفيد دولار، المبعوث السابق لوزارة الخزانة الأميركية إلى الصين، والمتخصص في مركز جون ثورنتون الصيني التابع لمعهد بروكينغز.
وأكد هذه الرؤية رايان هاس، الذي شغل منصب مدير مجلس الأمن القومي لشؤون الصين وتايوان ومنغوليا خلال إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، حيث قال في مقال كتبه لموقع مجلة "فورين بوليسي" إنه لن يكون هناك أي إعادة ضبط أو تحسن كبير في العلاقات الأميركية - الصينية خلال الأشهر المقبلة، لأن كلاً من الجانبين لن يتخلى عن الإجراءات التنافسية أو يقلل من الجهود لدعم الدفاعات ضد الآخر.
ولكن مع انتهاء الزيارة، ظهر بعض الأمل في إمكانية إعادة التواصل بين المسؤولين في الحكومتين بشكل أفضل، وبخاصة لتحسين التعاون الاقتصادي والتجاري بعدما أوضحت يلين أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى قتال تكون فيه الفائز الذي يحصل على كل شيء من الصين، كما قللت من أهمية الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة للحد من حصول الصين على التكنولوجيا الحساسة، والتي تخشى واشنطن أن تعزز من قوة الجيش الصيني، الأمر الذي يعد مصدر إزعاج خاصاً لبكين، التي بدأت بالرد بقوة أكبر، وكشفت قبل زيارة يلين عن ضوابط جديدة على تصدير معدنين مهمين لإنتاج أشباه الموصلات وغيرها من الأجهزة الإلكترونية، وهما الغاليوم والجرمانيوم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مهمة صعبة
غير أن ما واجهته يلين في زيارتها وما قد يواجه أي مسؤول أميركي آخر في المستقبل يعود إلى صعوبة إصلاح العلاقة بين الولايات المتحدة والصين، بينما يستمر التصعيد من الجانبين، مما يترك أثره في الأجواء التصالحية التي يتحدث عنها القادة السياسيون، حيث دفعت الصين بسفن حربية قرب تايوان، بينما كانت يلين في الصين، كما أعلنت بكين عن قيود على تصدير مادتين استراتيجيتين ضروريتين لصنع أشباه الموصلات، وصرح نائب وزير التجارة الصيني وي جيانغو بأن ذلك ليس سوى مجرد بداية، وأن صندوق أدوات الصين به عديد من أنواع المقاييس المتاحة.
ويشير متخصصون استراتيجيون في واشنطن إلى أن القضايا التي يتعين حلها بين أميركا والصين شائكة ومعقدة، حتى في الوقت الذي يبدو فيه أن اقتصاد البلدين يتحدى الحديث عن الانفصال كي يحقق الاقتصاد العالمي مكاسب، لكن المراقبين يقولون إن هذا يبدو غير مرجح، حيث يواجه الاقتصاد العالمي قدراً كبيراً من عدم اليقين، ويفقد تعافي الصين بعد "كوفيد" زخمه، وتحاول أوروبا الخروج من الركود الاقتصادي ولا تزال الولايات المتحدة معرضة لركود مماثل.
مصالح متنافسة
والأهم من ذلك أن البلدين لديهما مصالح استراتيجية متنافسة، ووصلت العلاقة إلى أدنى مستوياتها منذ عقود، وتتميز بانعدام ثقة واضح ومتبادل، بحسب ما تقول مديرة شؤون العلاقات بين الولايات المتحدة والصين في مجموعة أوراسيا، آنا أشتون.
وفيما يلي خمسة أشياء تجعل من الصعب على يلين أو غيرها إصلاح العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، بينما يتوافر شيء واحد فقط يحافظ على استمرار العلاقة.
حرب الرقائق
تصاعد الخلاف حول مستقبل أشباه الموصلات في الأشهر الأخيرة، واجتذب هذا النزاع اليابان وأوروبا، حيث لعبت بكين ورقة أخرى رابحة بفرض ضوابط تصدير على مادتي الغاليوم والجرمانيوم المهمين لصناعة الرقائق العالمية بعد شهر واحد من فرض بكين عقوبات ضد شركة ميكرون تكنولوجي، إحدى أكبر شركات تصنيع شرائح الذاكرة في أميركا، وذلك رداً على الحظر الأميركي على مبيعات الرقائق المتقدمة إلى الصين، والذي أعلنته إدارة بايدن العام الماضي.
ويعتقد المراقبون أن القيود المفروضة على تصدير العناصر الأرضية النادرة، وهي مجموعة من 17 عنصراً تسيطر الصين من أجلها على أكثر من نصف الإمدادات العالمية، قد تكون الطريقة التالية للرد.
في المقابل، قالت وسائل إعلام أميركية إنه من المتوقع أن توسع إدارة بايدن عملية تقييد بيع بعض رقائق الذكاء الاصطناعي التي تضرب صميم طموحات بكين التكنولوجية، حيث تعد الرقائق حيوية لكل شيء بدءاً من الهواتف الذكية والسيارات ذاتية القيادة والحوسبة المتقدمة إلى تصنيع الأسلحة.
مداهمة شركات أميركية
أثارت حملة بكين ضد شركات الاستشارات الغربية قلق الشركات الأميركية بعدما حدثت بكين قانون مكافحة التجسس في مايو (أيار) الماضي، والذي وسع قائمة الأنشطة التي يمكن اعتبارها تجسساً.
وخلال الأشهر القليلة الماضية شن المسؤولون سلسلة من المداهمات على شركات استشارية، بما في ذلك "مينتز" و"كاب فيجين" و"باين كومباني"، التي اتهمت بالمساعدة في تسريب معلومات عسكرية حساسة إلى القوات الأجنبية. ولهذا يشكو مراقبون غربيون من أن تركيز الرئيس الصيني شي جينبينغ على الأمن القومي يخلق أخطاراً سياسيةً تجعل من الصعب على الشركات الأجنبية القيام بأعمال تجارية في الصين، وعلى سبيل المثال، أغلقت بعض الصناديق وشركات الأبحاث مكاتبها بالصين في أعقاب الإجراءات الصارمة، بما في ذلك شركة "فوريستر" للأبحاث وخطة معاشات المعلمين في أونتاريو الكندية.
القيود الأميركية على الاستثمار في الصين
في وقت سابق من هذا العام، كانت إدارة بايدن تدرس فرض قواعد جديدة يمكن أن تحد من الاستثمار الأميركي في أجزاء رئيسة من اقتصاد الصين من قبل الشركات الأميركية، وخلال أبريل (نيسان)، دعت مجموعة من أعضاء الكونغرس الجمهوريين الإدارة إلى استخدام جميع الأدوات المتاحة لمعاقبة شركات الحوسبة السحابية التي لها روابط مع الصين
وستكون القواعد التي تنظم الاستثمار الأميركي في الخارج خطوة جديدة مع الصين، وجزءاً من جهد أوسع لجعل الأمر أكثر صعوبة على الصين كي تطور التقنيات التي يمكن أن تدعم جيشها.
وفي الشهر الماضي، قسمت شركة رأس المال الاستثماري العملاقة "سيكويا" أعمالها في الصين بعد أن جذبت استثماراتها الواسعة في الصين عديداً من شركات التكنولوجيا الناشئة، كما جذبت انتباه المشرعين الأميركيين مع التوترات الجيوسياسية المتصاعدة التي وضعت الشركات في موقف صعب.
في الوقت نفسه، تكافح شركة "تيك توك" لإنقاذ عملياتها في الولايات المتحدة، حيث يثير عدد متزايد من المشرعين في الكونغرس مخاوف تتعلق بالأمن القومي في شأن علاقات الشركة بالصين واحتمالات أن تجمع معلومات عن الأميركيين.
خفض الأخطار
على رغم أن بعض المراقبين دعوا الولايات المتحدة إلى الانفصال عن الصين، فإن الرئيس الأميركي جو بايدن وحلفاءه الأوروبيين أكدوا مراراً رغبتهم في التخلص من الأخطار في العلاقة مع الاقتصاد الصيني لأسباب ليس أقلها الدروس المستفادة منذ أن أمرت موسكو قواتها بالهجوم العسكري على أوكرانيا العام الماضي، بينما كان عديد من الدول يعتمد على الطاقة الروسية والسلع الغذائية الأخرى. ولهذا أثارت الحرب في أوكرانيا مخاوف غربية في شأن تايوان التي هددت الصين بغزوها، وأدت هذه المخاوف إلى جهود لإخراج الصين من سلاسل التوريد التكنولوجية التي يمكن استخدامها لتعزيز قوتها العسكرية، مما قوبل بمعارضة قوية من بكين التي اعتبر مسؤولوها أن الغرب يبالغ فيما يسمى مفاهيم تقليل الاعتماد على الصين بما يقلل من الأخطار المحتملة.
السياسة الانتخابية
مع تحذير المرشحين الجمهوريين للرئاسة مثل نيكي هايلي من أن الصين تستعد للحرب مع الولايات المتحدة، ويشكل النواب الجمهوريون لجاناً في الكونغرس لمحاسبة الصين وإطلاق تصريحات ساخنة في موسم الانتخابات الرئاسية، يجد المرشح الديمقراطي جو بايدن الذي يطمح في دورة رئاسية ثانية، نفسه في موقف يصعب فيه اتخاذ مواقف إيجابية مع بكين، بل يجد المرشحون للرئاسة أنفسهم في سباق لتوجيه سهام النقد إليها في كثير من جولاتهم الانتخابية.
يقول الرئيس السابق لقسم الصين في صندوق النقد الدولي إسوار براساد، إن الصينيين يدركون تماماً دورة الانتخابات الأميركية، وكان هذا أحد أسباب استعدادهم لأن يكونوا أكثر انفتاحاً مع إدارة بايدن والوزيرة يلين في سعيهم لأن تكون العلاقة الاقتصادية لعبة محصلتها إيجابية، وليست لعبة محصلتها صفر.
الرهان على التجارة
لكن على رغم من التوتر، يظل المستهلكون والشركات في الاقتصادين على اتصال عميق بحسب شبكة "سي أن أن"، حيث تعد الصين من أكبر الدائنين للولايات المتحدة، ولا تزال أميركا أكبر شريك تجاري منفرد للصين، حيث قفزت تجارة السلع بين الاقتصادين في العام الماضي إلى ما يقرب من 691 مليار دولار محطمة الرقم القياسي السابق المسجل في 2018، وفقاً لبيانات وزارة التجارة الأميركية.
وزاد العجز التجاري الأميركي في السلع المتداولة مع الصين بنسبة ثمانية في المئة ليصل إلى 382.9 مليار دولار، وهو أكبر عجز على الإطلاق، وحتى مع انفصال سلاسل التوريد الاستراتيجية ضاعفت الشركات متعددة الجنسيات في مجالات أخرى عملياتها بالصين، بينما يحذر رجال الأعمال من أن أكبر اقتصادين في العالم قد ينقسمان إلى أسواق منفصلة ذات منتجات غير متوافقة مع تشديد واشنطن وبكين الضوابط التجارية وإخبار الشركات بتقليل الاعتماد على بعضها بعضاً، الأمر الذي سيضر بالنمو الاقتصادي والابتكار.