ملخص
تحيا مهنة حفر القبور بالمغرب على الموت ويعاني أصحابها الأجر الزهيد فضلاً عن النظرة الاجتماعية لهم والأثر النفسي السيء على الدوام.
يحمل باحميدة فأسه على كتفه لينهال به بقوة على الأرض لحفر قبر ينتظر ضم جثمان جديد قادم إلى "مقبرة الصديق" في ضواحي العاصمة المغربية الرباط، قبل أن ينتقل إلى حفر قبر آخر مجاور، وهكذا دواليك طوال اليوم.
مهنة باحميدة (50 سنة) هي "حفار قبور"، وهي مهنة يقال إنها تقتات من فواجع ومآسي الآخرين، فالرجل يكسب قوته من حفر قبور الراحلين، غير أن لهذه المهنة فضلاً عن صعوبتها الاجتماعية والنفسية طرائف وغرائب لا تنفك تقع أمام أعين حفار القبور.
مهنة شريفة
يصف باحميدة مهنته بأنها "تحمل في الظاهر بؤساً اجتماعياً، كما أنها صعبة الممارسة وتتطلب صبراً ورباطة جأش وصلابة داخلية"، مشيراً إلى أنه على رغم ما يقال عن هذه المهنة لكنه يحبها ويفتخر بها.
ويوضح الحفار، "وجدت نفسي أحفر القبور بالوراثة عن والدي الذي امتهن المهنة ذاتها، وكنت أرافقه صغيراً وشاباً، ولأنني لم أكمل دراستي فقد كسبت قوت يومي بالنظر إلى أني لا أملك شواهد ولا حرفة تعينني على عوائد الزمن".
وتابع أن حفار القبور كمهنة تظل شريفة ولا يمكن الاستغناء عنها، فهي ملازمة للإنسان ما دامت الحياة مستمرة، فلا يمكن للميت إلا أن يوارى الثرى بدفنه وإكرام الميت دفنه، ومن ثم الحاجة إلى خدمات حفار القبور على الدوام".
ويؤكد الحفار أن هذه المهنة ليس لها مردود مادي كبير، فهي بالكاد تسد قوت يومه باعتبار الأجر الزهيد الذي يحصل عليه نهاية كل شهر من الشركة المكلفة بالدفن في المقبرة، علاوة على بعض التعويض المالي الذي يحصل عليه من أهالي الميت عندما ينتهي من دفنه.
واستطرد أن حفر قبر يكلف في العادة بين 250 و400 درهم (25 و40 دولاراً) بالنسبة إلى المتوفين الكبار، ومبلغ 150 درهماً (15.42 دولار) بالنسبة إلى الأطفال، معتبراً أن "هذه الأسعار متحولة وتخضع لرغبة وسخاء أسرة المتوفى".
"أبناء عزرائيل"
حفار قبور آخر في مقبرة سيدي الضاوي بمدينة سلا يدعى محمد بن حمو أظهر تبرماً وضيقاً نفسياً من ممارسته لهذه المهنة منذ 10 أعوام مضت، إذ قال إن "حفر القبور لا يمكن أن يكون مهنة يفتخر بها مزاولها أمام المجتمع".
ووفق بن حمو فإنه اضطر إلى ممارسة هذه المهنة لأنه لم يجد غيرها، كما أنه لا يتقن مهنة أخرى تتيح له الرزق، فهي مهنة لا تتطلب تعليماً ولا تحتاج سوى القوة البدنية والأيدي الخشنة التي تمسك بالفأس، وتنزع الأحجار من الأرض لتسهيل وضع الميت في قبره.
ويضيف أنه لا يمكنه إخفاء خجله من مهنته هذه خصوصاً عندما يطلب منه ذكر مهنته علانية، حتى إنه كان حريصاً على إدراج مهنة "عامل" في بطاقة تعريفه الرسمية بدل مهنة "حفار قبور"، تفادياً للإحراج والمهانة.
وتابع بن حمو أنه حتى أبناؤه يتعرضون أحياناً للسخرية والتنمر بسبب هذه المهنة، وينادونهم بـ "أبناء عزرائيل"، في إشارة إلى علاقة والدهم اليومية بالموت ودفن المتوفين، مبدياً أسفه من كون "مكانة هذه المهنة وسط الناس تتسم بالدونية الاجتماعية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
موت لا ينتهي
موضوع الدونية والتنمر حيال مهنة حفار القبور تراه الباحثة السوسيولوجية ابتسام العوفير واقعاً معاشاً بالفعل لا يمكن إنكاره أو التغافل عنه، فالمهن تحدد في الغالب المكانة الاعتبارية للفرد داخل المجتمع، وبالتالي تندرج مهنة حفار القبر وفق هذه الرؤية ضمن أسفل سلم هذه المهن.
وتضيف الباحثة أن مهنة حفار القبور معقدة من الناحية الاجتماعية، فهي بالقدر الذي لا تمنح التقدير المجتمعي المنشود لممارسها، كما لا تمنحه الاكتفاء الاقتصادي اللازم، فهي بالقدر ذاته مهنة لا يستغنى عنها أحد فالموت لا نهاية له، وجميع أفراد المجتمع يلجأون إلى خدمات هذا الرجل لحفر الأرض ودفن الجثمان عندما يتوفى لهم عزيز أو قريب.
وتابعت، "يعيش حفار القبور أيضاً في مكانة اجتماعية ونفسية غير عادية وليست كباقي المهن الأخرى، فهي تعد من ضمن ما يمكن تسميته مهن الموت، من قبيل غسال الموتى والطبيب الشرعي وحارس المقبرة وسائق سيارة نقل الموتى وغيرها من المهن".
وأبرزت العوفير أن هذا التلاقي المتكرر بين الحياة والموت في يوميات حفار القبور يؤثر أحياناً في حياة الحفار اليومية وطبيعته النفسية، مشيرة إلى أن حفار القبور يتعن عليه التكيف مع مهنته والاقتناع بها والنأي عن الفكرة المتداولة بأن حياة حفار القبور تكمن في موت الآخرين، لأن هذا المعطى يخلق نوعاً من الشعور بالذنب أو تأنيب الضمير الذي لا حاجة إليه ولا مستند اجتماعياً له.
غرائب وطرائف
ولأن مهنة حفار القبور لها علاقة وطيدة بشكل أو بآخر بعالم الموت والأموات، فإن عدداً من الوقائع الغريبة والطريفة تجري أمام أعينهم وبحضورهم أو يسمعون عنها من زملائهم في هذه المهنة.
وفي هذا الصدد فمن أشهر الأحداث الغريبة التي حصلت قبل مدة بمدينة القنيطرة غرب المغرب، الجدل العارم الذي رافق دفن حفار قبور لميت قبل أن يروج بقوة أن صوتاً يصدر من القبر، ليعمد أحد الأشخاص إلى محاولة نبش القبر للتأكد من هذه الواقعة، وتأتي أسرة المتوفى التي طلبت من السلطات عدم النبش باعتبار أن المتوفى دفن قبل أسبوع ويستحيل أن يظل حياً.
ومن الوقائع التي يذكرها أحد حفاري القبور الذي فضل عدم ذكر اسمه، أنه مرة جهز قبراً ولما دخل الحفرة ليضع الجثمان فيها أبت الحفرة قبول الميت، وعجز برفقة معاونيه من إدخال المتوفى إلا بعد محاولات عدة وصعوبة ومشقة بالغتين.
ومن الوقائع التي تحصل، وفق المصدر ذاته، أن زميلاً له عندما أكمل عملية الحفر والدفن وغادر الأهل المقبرة صار يشم رائحة جميلة تفوح من ذلك القبر طوال أيام متتالية، ليخبر بنفسه زملاءه الذين تأكدوا من الرائحة التي تعود لسيدة فاضلة مشهود لها بالصلاح وعمل الخير وفق ما كان يُروى عنها.