Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

يوم تكلم أمين معلوف عن اللغة والتاريخ والآخر في "ليون الأفريقي"

حكاية حسن الوزان نوع من تذكير العالم بالتسامح والفعل الثقافي وزمن الانفتاح الخلاق

أمين معلوف: بداية موفقة (غيتي)

ملخص

حكاية حسن الوزان نوع من تذكير العالم بالتسامح والفعل الثقافي وزمن الانفتاح الخلاق

كان ذلك في أواسط ثمانينيات القرن العشرين حين بدأت روايات الكاتب اللبناني أمين معلوف وكتبه الأخرى تغزو الحياة الثقافية الفرنسية في طريقها لغزو أوروبا وثقافات لغات عالمية كثيرة من بعدها. صحيح أن معلوف كان معروفاً قبل ذلك كصحافي يكتب بالعربية والفرنسية وآثر تحت ضغط الحروب اللبنانية المتعاقبة أن ينقل نشاطه إلى فرنسا، لكنه لم يكن معروفاً كروائي. ومن هنا أتت روايته الكبيرة الأولى "ليون الأفريقي" لتتفجر في فضاء الأدب الفرنسي من حيث لم يكن أحد يتوقع. وبسرعة يومها وجدت طبعات الرواية المتلاحقة مكانها في المكتبات وفي مقروئية مئات الألوف لتبدو بسرعة وبكل وضوح أكثر من مجرد رواية، وليبدو معها كاتبها أكثر من ساع إلى الإنتاج الأدبي حتى وإن بدا ذلك الإنتاج من فوره كبيراً مدهشاً.

اللقاء بديلاً للصراع

ففي "روايته" المبكرة تلك، ها هو الكاتب اللبناني باللغة الفرنسية، يبتعد من التاريخ المباشر الذي كان خاضه قبل ذلك من خلال واحد من أول كتبه "الحروب الصليبية كما رآها العرب" الذي حقق يومها نجاحات محدودة غلب عليها الطابع الأكاديمي نظراً إلى طبيعة الكتاب نفسه، ليدخل في صلب التاريخ الروائي ولكن ليلامس في طريقه القضية نفسها: قضية العلاقة بين الشرق والغرب... ولكن هذه المرة ليس عبر التركيز على الصراع بين المنطقتين، وإنما عبر التركيز على نطاق اللقاء، وإمكانيات الحوار... وكل ذلك من خلال شخصية حسن الوزان، المؤلف والعالم والمفكر المتشرد، المنفي الذي عاش في خضم عصر النهضة الأوروبي، بل شارك في صنعه، بعلمه وفكره اللذين جاء بهما مع أصوله العربية الأندلسية، فكان ذا فعل وتأثير؛ وعرفه العالم كله بالاسم الذي اشتهر به: ليون الأفريقي، وهو نفس الاسم الذي أعطاه أمين معلوف لكتابه، فدخل به صلب الحياة الفرنسية وصار الكتاب ومؤلفه مالئي الدنيا وشاغلي الناس طوال المرحلة التي صدر فيها الكتاب، ولكن قبل زمن من فوز معلوف بجائزة "الغونكور" التي تعتبر أرفع جائزة أدبية فرنسية، عن رواية تالية له هي "صخرة طانيوس". ولعل من حسن حظ الكتاب وحظ أمين معلوف أن يأتي "ليون الأفريقي" في وقت كانت قد راحت تطرح فيه من جديد مسألة العلاقات بين الشرق والغرب، على ضوء الأحداث العنيفة والصاخبة التي بدأت تعيشها هذه العلاقات عند نهايات القرن العشرين، ولا سيما في ما يرتبط منها بفرنسا.

التاريخ مادة مرنة

صحيح أن ذلك الوضع قد يكون ساعد الكتاب، بعض الشيء، على الانتشار والنجاح إذ راحت تباع منه مئات ألوف النسخ ويترجم إلى عدد كبير من اللغات. لكن المهم في الكتاب يقف خارج هذا الإطار: المهم في الكتاب هو أنه حمل أسلوباً جديداً في رواية التاريخ، وفي تحويل التاريخ إلى مادة مرنة سلسة يمكن قراءتها من دون إرهاق أو تعب... وهو أسلوب ندر أن عرفته الرواية التاريخية في فرنسا، على رغم أن هذه الرواية كانت قد عرفت قدراً كبيراً من التطور خلال السنوات العشر السابقة. وفضيلة كتاب "ليون الأفريقي" تكمن أساساً في قدرته الكبيرة على المزاوجة بين ما هو تاريخي (وقع في ماضي الزمان بالفعل). وما هو تخييلي (أي صاغته وركبته موهبة الكاتب)... ولقد كان نجاح الكاتب، في هذا المجال، كبيراً، إلى درجة يعجز معها القارئ عن تحديد ما إذا كان الآن يقرأ في هذه الصفحة تاريخاً أم أنه يقرأ تخييلاً.

الشخص والمكان

وما حكاية "ليون الأفريقي" سوى حكاية شخص ومكان: الشخص هو ذلك الفتى الذي كان في الثالثة من عمره حين انتهكت مدينته "غرناطة" وسقطت ملغية الوجود الإسلامي العربي في الأندلس، والمكان هو العالم المتحضر آنذاك: هو غرناطة وفاس، تومبوكتو والقاهرة، تلمسان وروما... هو رقعة البحر الأبيض المتوسط، ذلك العالم الذي كان تمازج الأحداث وعمق المتغيرات يعصفان به، ما كان من شأنه أن يؤهل عقلاً فذاً، يحمل في طياته تاريخاً عريقاً، هو عقل حسن الوزان الذي يحمل تاريخه العربي الإسلامي، يؤهله لأن يعيش تغيرات العالم ويسهم في تلك التغيرات. وإذا كان سوء حظ حسن الوزان قد واكبه من ناحية: انطلاقاً من انسحاق غرناطة ونفيه منها، وصولاً إلى احتراق تومبوكتو وتركه لها، مروراً بالطاعون الذي استباح القاهرة مع وصول صاحبنا إليها... الخ. إذا كان سوء الحظ هذا قد حل بحسن الوزان، أينما حل وارتحل، فإنه في الوقت نفسه لم يمنع إرادته الصلبة وعقله الواعي من أن يقلبا مجرى الكوارث والأحداث. فهذا المنفي، المتشرد، الهارب، المجانب للطاعون... هذا الفتى الذي سوف يأسره قراصنة البحر ويبيعونه لينتهي به الأمر في بلاد بابا روما "ليون العاشر مديتشى"، لن يواصل الحظ السيء الغدر به، وذلك لأن رأس الكنيسة الكاثوليكية سوف يتبناه ويعطيه اسمه بعد أن يذهل أمام شخصيته، ثم يعطيه مكانة كبرى ويعينه معلماً للغة العربية في الفاتيكان.

كتاب تسامح

في ذلك الحين كانت اللغة العربية تعني الحضارة العربية كلها... كانت تعني أن من يدرّس لغة العرب، إنما ينقل لطلابه تراث مئات السنين من المعارف الفلسفية والعلمية والأدبية والجغرافية والتاريخية... وبهذا، تمكن حسن الوزان من أن يسهم، وإن كان تحت اسم "ليون الأفريقي" في بعث نهضة فكرية كبيرة في تلك الديار... ولو أن كل ما تبقى لنا من آثاره المكتوبة لا يعدو كتابه الكبير "وصف أفريقيا" الذي كتبه خلال وجوده في روما فاعتبر مرجعاً أساسياً، بل المرجع الوحيد لسنوات طويلة، في جغرافية أفريقيا وتاريخها... لكن الحظ السعيد الذي واتى حسن الوزان على يد البابا ليون العاشر، لم يدم، كما يبدو طويلاً، إذ سرعان ما اندفع اللوثريون ينهبون روما ويدمرونها لحساب الملك شارلكان، عدو البابا اللدود... وفي ذلك الخضم ضاعت آثار حسن الوزان، ولم يعد التاريخ قادراً على أن يقدم لنا عنه ولو حداً أدنى من المعلومات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

استخدام راهن للحكاية

صحيح أن منطلق كتابة أمين معلوف عن "ليون الأفريقي" كان افتتان كاتبنا اللبناني المعاصر، بسيرة وعبقرية ذلك السلف العربي الكبير، ودهشته أمام غرابة تقلبات حياته ومغامراته، لكن الدافع الأكثر حسماً كان إحساس أمين معلوف أن بإمكانه – وفي هذه الآونة العصيبة – أن يستخدم حكاية ليون/ حسن، مؤشراً إلى أن في إمكان العرب، جماعات ولكن أفراداً أيضاً، أن يكونوا ذوي أثر في نهضة العالم، في الماضي، ولكن في الحاضر أيضاً... وأن في إمكان حكاية ليون هذه أن تقدم للعالم كله درساً في التسامح الإنساني وفي الحوار بين حملة الأديان السماوية. فكتاب "ليون الأفريقي" هو – في الدرجة الأولى – كتاب حوار وسلام وتسامح. "هكذا فقط يمكنني أن أفهم كتابي، وأريد أن يفهمه الآخرون" قال أمين معلوف يومها مضيفاً "إن حكاية حسن الوزان، إنما هي مثال حي وحقيقي على أن لنا نحن العرب، انطلاقاً من حضارتنا الإسلامية، دوراً كبيراً نلعبه في مسيرة الحضارة العالمية ونهضة الفكر والعلوم... ولا بد لنا – وهو ما يفعله الكتاب على أي حال – من أن نذكّر العالم كله بأن الدين الإسلامي الحقيقي والحضارة العربية الثرية بروافدها، هما في الدرجة الأولى عوامل انفتاح وإخاء ومحبة... وإنه عندما يكون المسلمون مسلمين، والعرب عرباً، يكون من أسهل الأمور على العالم الوصول إلى حوار ولقاء حقيقيين".

بعيداً من السياسة الوعظية

غير أن هذا لا يعني أن الكتاب كتاب سياسي وعظي وفي الأقل بحسب أمين معلوف الذي استطرد، "إذا كان قد سرني أن النقاد والقراء في فرنسا استقبلوا الكتاب مدركين مغزاه، ومغزى ما أدعو إليه فيه، فإن الذي سرني أكثر هو أن نفس هؤلاء الناس، أدركوا أن العامل الأساسي في الكتاب هو بعده الأدبي والأسلوبي. صحيح أنني ذو رسالة، لكنني كاتب بالدرجة الأولى، اشتغل على الأسلوب واللغة". وإذ سئل معلوف عن السبب الذي يدفعه عادة إلى وضع كتبه بصورة عامة بالفرنسية وليس بالعربية؟ قال بوضوح: "إنني أتمنى أن أكتب قريباً، مباشرة بالعربية وللقارئ العربي. لكني أعتقد أن هناك كثيراً من الأمور التي علينا معالجتها ليفهمنا الآخرون... هناك سبل لمخاطبة العالم، لا بد لنا نحن أن نخوضها بأنفسنا، من دون أن ننتظر من يخوضها عنا: فإذا قيض بعد ذلك لما نكتبه أن يصل إلى قارئنا العربي فالفائدة عند ذلك تكون مزدوجة".

المزيد من ثقافة