Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

من يرسم خيار الحرب الأهلية في السودان؟

إن طبيعة النظام الانقلابي للإسلاميين كانت تعمل باستمرار على تغيير جلدها في محاولة دائمة لإفشال أهداف "ثورة ديسمبر"

كان واضحاً أن حميدتي حين لمس نشاط البرهان في استعادة عناصر النظام القديم، بدا يبتعد عنه عبر أزمات ظلت مكتومة بين الرجلين (صفحة القوات المسلحة السودانية على فيسبوك)

ملخص

كان واضحاً أن انقلاب البرهان– حميدتي على حكومة الثورة لحظة انقضاض أتاحت عودة عناصر النظام القديم إلى مفاصل السلطة بصورة مواربة

يوماً بعد يوم تتضح المصائر التي رسمتها الحرب في السودان، وإرادة صانعيها ممن أطلقوا رصاصتها الأولى، فثمة خيط واضح لا يمكن أن يغفله المراقب للتطورات السياسية السودانية بعد الثورة، خيط له علاقة عضوية بأيلولة الوضع إلى هذه الحرب التي نعيش فصولها المرعبة في قلب الخرطوم، وهو خيط يمكن أن يدلنا بوضوح لا لبس فيه إلى كيفية الوصول إلى المصير الختامي لمناهضي "ثورة ديسمبر" من بقايا النظام القديم في ضباط الجيش، لتوجيه اتجاه هذه الحرب نحو مصير كارثي للسودان، يمكننا معرفته لا من حيث ما انتهت إليه الأمور في هذه الحرب، بل من حيث البدايات والتطورات التي يمكن ربطها ببعضها البعض لتركيب صورة أقرب إلى الحقيقة في تقديرنا.
لقد كان واضحاً أن انقلاب البرهان – حميدتي على حكومة الثورة الانتقالية بقيادة عبدالله حمدوك في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 لحظة انقضاض جديد فتحت فرصة أتاحها قائد الجيش عبدالفتاح البرهان لعودة عناصر النظام القديم مرة أخرى إلى مفاصل السلطة بصورة مواربة، كما كان واضحاً أن قائد قوات "الدعم السريع"، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، حين لمس نشاط البرهان في استعادة عناصر النظام القديم، بدا يبتعد عنه عبر أزمات ظلت مكتومة بين الرجلين.
وهكذا يمكن القول، إنه منذ "مذبحة فض الاعتصام" في الثالث من يونيو (حزيران) 2019 ثم انقلاب 25 أكتوبر 2021، ثم إطاحة "الاتفاق الإطاري" الذي تم التوصل إليه مع جزء من القوى المدنية، بإشعال الحرب في 15 أبريل الماضي قطعاً للطريق على تنفيذه، بعد أن ابتعد خط حميدتي بوضوح عن خط البرهان (لأسباب تتعلق بتحولات حدثت لحميدتي في عام 2022 عقب أخطاء سياسية كارثية ارتكبها، مثل زيارته موسكو في 24 فبراير (شباط) من العام ذاته أي في نفس يوم شن روسيا الحرب على أوكرانيا)، سنرى الفرق الواضح الذي يفسر لنا الأسباب السياسية للحرب.
فإذا كان واضحاً أن انقلاب البرهان في 25 أكتوبر 2021 هدفه الاستيلاء على السلطة بمساعدة حميدتي، واستعادة بعض عناصر النظام القديم، فإن هذه الحرب التي تقع مجرياتها اليوم بين حميدتي والبرهان (بعد أن افترق خط الأول عن الثاني بانحياز الأول إلى الاتفاق الإطاري نتيجة لإكراهات وضغوط دولية كبيرة عليه) هي بكل تأكيد محاولة لتكرار سيناريو الاستيلاء على السلطة الذي حدث بانقلاب البرهان على المدنيين، وإذا كان قد سهل على البرهان عزل المدنيين عن السلطة وإيداعهم السجون آنذاك، لأنهم لا يملكون جيوشاً ولا أسلحة، لكن الرجل، بعد أن اختلف مع حميدتي على خلفية الموقف من "الاتفاق الإطاري" أراد إعادة السيناريو الانقلابي ذاته ولكن هذه المرة ضد حميدتي. وبما أن حميدتي يملك جيشاً قوامه 110 آلاف جندي، كان لا محالة من وقوع الحرب التي تجري اليوم.
هكذا وبناء على ما أسلفنا، يمكننا استنباط كثير من الوقائع والمواقف التي تفسر لنا ما كنا على قناعة به منذ بداية هذه الحرب، ألا وهو ضلوع طرف ثالث. فما كشفت عنه وكالة "رويترز" قبل أيام من قتال تخوضه كتائب أمنية إلى جانب الجيش (مثل كتيبة البراء) تنتمي إلى جهاز أمن النظام السابق وهم ستة آلاف عنصر انضموا إلى الجيش قبل أيام من بداية الحرب، يضع كثيراً من النقاط على الحروف، لأنه مما يمكن ربطه تحليلياً مع طبيعة أعمال الجيش على مدى أربع سنوات بقيادة البرهان منذ بداية هذه الثورة وبعد إزاحة البشير، وهي أعمال كنا نشهد فصولها بوضوح في أجندة الثورة المضادة، من ناحية، وفي عمليات فض الاعتصام وشد الأطراف والانقلاب مرتين على الاتفاق مع المدنيين، من ناحية ثانية.
ولئن كان حميدتي متماهياً مع البرهان في بعض فصول أعمال الجيش خلال السنوات الأربع الماضية، فإن استحالة استمرار سلطة برأسين عسكريين سرعان ما كشفت عن تناقضاتهما الحادة والعنيفة، لا سيما مع أخطاء حميدتي السياسية الكبيرة خلال عام 2022 التي سرعت من وقوعه تحت ضغط دولي دفعه نحو تسوية مع الغرب جعلته يصطف إلى جانب "الاتفاق الإطاري"، وهو اصطفاف قد لا يكون نابعاً عن قناعة حميدتي بالديمقراطية، بقدر ما هو قراءة منه لحسابات دقيقة في علاقاته مع قوى إقليمية ودولية آثر معها الاصطفاف إلى جانب الاتفاق الإطاري.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


إن طبيعة النظام الانقلابي للإسلاميين الذي حكم السودان لـ30 سنة، كانت تعمل باستمرار على تغيير جلدها في محاولة دائمة لإفشال أهداف "ثورة ديسمبر" منذ أن عرف قادة اللجنة الأمنية لنظام عمر البشير (بقيادة البرهان) كيف ينحنون لعاصفة الثورة ويودعون رئيسهم عمر البشير السجن، لكنهم لم يكونوا صادقين في اصطفافهم إلى جانب الثورة التي حاولوا إجهاضها باستمرار في محطات معروفة، والالتفاف عليها أولاً بمذبحة فض الاعتصام في الثالث من يونيو 2019، ثم بعمليات شد الأطراف وإحداث التوترات الأمنية في غرب السودان وشرقه وافتعال النزاعات الأهلية بين المكونات القبلية هناك، فضلاً عن التواطؤ مع أجندة الثورة المضادة، وصولاً إلى انقلاب 25 أكتوبر 2021 بعد فشل كل الوسائل لدفع الشعب السوداني نحو اليأس من حكم المدنيين ومحاولات افشاله المستمرة، وانتهاء بهذه الحرب التي كانت انقلاباً على "الاتفاق الإطاري" ومن اصطف إلى جانبه.
كل المعطيات كانت تؤشر إلى وشك وقوع الحرب، لأنه من ناحية، كانت كل الأساليب والتكتيكات التي ظل الجيش يمارسها في محاولات فرض سيطرته بالتعاون مع فلول النظام قد نفدت، ومن ناحية أخرى، كان "الاتفاق الإطاري" الذي دنا موعد التوقيع النهائي عليه بحلول الأول من أبريل (نيسان) 2023، اتفاقاً ترعاه دول قوية إقليمياً ودولياً، حيث إن الرباعية الدولية من أجل السودان (أميركا – بريطانيا – السعودية - الإمارات) هي التي رعته، وكان جلياً أن دنو أجل التوقيع على الاتفاق النهائي سيعني نهاية حظوظ الجيش بالبقاء في السلطة ومن ورائهم عناصر النظام القديم، فهذه المرة لا يبدو هذا الاتفاق هشاً كاتفاق 17 أغسطس (آب) 2019 الذي رعاه الاتحاد الأفريقي وتم بموجبه تكوين حكومة الثورة بقيادة حمدوك في سبتمبر (أيلول) 2019، بالتالي كانت نقطة الخلاف بين حميدتي والبرهان على خلفية الموقف من "الاتفاق الإطاري" هي لحظة انفجار الحرب في محاولة لقطع الطريق على تنفيذه.
اليوم وبعد ثلاثة أشهر على انطلاق الحرب، يبدو أن الخطة التي وضعها صانعو الحرب قد فشلت في إحداث حرب خاطفة، ورأينا معسكرات رئيسة ومقرات استراتيجية للجيش تسقط في يد قوات "الدعم السريع"، على نحو بدا معه خطر انزلاق الوضع في السودان إلى حرب أهلية، لا سيما بعد الدعوة الصريحة لقائد الجيش إلى الشباب بحمل السلاح وفتح معسكرات تدريب، إذ سرعان ما أدت تلك الدعوة، إلى ردود فعل رأينا أصداءها في إعلان القبائل العربية في منطقة جنوب دارفور دعمها لـ"الدعم السريع".
وإذا بات اليوم من شبه المؤكد أن طبيعة هذه الحرب التي دلت كل مقدماتها منذ أربع سنوات على أنها حرب كانت مؤجلة، فحسب، في وقت تعجز فيه كل أساليب الجيش للاحتفاظ بالسلطة، فلأنها حرب هدفها الانفراد بالسلطة واستعادة نظام حكم الإسلاميين مرة أخرى، على ما دلت شواهد كثيرة، وبكل تأكيد سنجد أن هذا السيناريو الماثل أمامنا في هذا الحراك الحربي المستميت من قبل الجيش بين خيارين، إما حكم الجيش ومن ورائه الإسلاميون، وإما إدخال البلاد في أتون حرب أهلية يكون هدفها نجاة الذين أشعلوا الحرب في ظل الفوضى التي ستعم البلاد حينذاك.
ولعل أبرز ما نراه اليوم من ملامح وسيناريوهات الطبيعة التي يراد بها تحديد هوية الحرب الأهلية التي يتم التحضير لها عبر تلك الدعوات، ما يؤكده الرفض المستمر الذي يبديه البرهان في وجه الدعوات والمبادرات الإقليمية والدولية لإنهاء الحرب والعودة إلى مربع التفاوض للخروج بالسودان إلى بر الأمان، لكن متى ما أدركنا معطيات الوقائع التي رصدناها من خلال هذا التحليل، سندرك الحقائق الصادمة.
ذلك أن أي حرب تقوم على خلفية انقسام سياسي معقلن يمكن احتواء تداعياتها لأن الأفق السياسي للحرب والهوية الوطنية للمتحاربين تمنع في النهاية أي مصير عدمي للحرب متى ما تبين أنها تسير باتجاه حرب أهلية، لكن الذين يضمرون نية الحرب الأهلية المركزية ثمناً لفشلهم في الاستيلاء على السلطة هم الذين يختارون أسوأ الخيارات التي قد تكون نتيجتها دخول السودان في فوضى لا نجاة معها.
ولذلك نرى اليوم المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة يراهن على إنهاء الحرب سلمياً مهما كلف ذلك، لأن الواقع الجيوسياسي للسودان وطبيعة التركيبة الإثنية وتاريخ الحروب الأهلية الطويلة التي ضربت هذا البلد ستكون لانعكاسات انهيار الدولة المركزية فيه وبالاً على المنظومة الجيوسياسية لشرق ووسط وغرب أفريقيا بالضرورة. 

المزيد من تحلیل