Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الطيب والشرير"... صراع طبقي على "حلبة الساحل" في مصر

الفنانة جوري بكر استهلت معارك الـ"سوشيال ميديا" بسعر زجاجة مياه وأججتها "خناقة شوارع" في أحد المنتجعات

تأسست منظومة "الساحل الشمالي" في المجتمع المصري منتصف ثمانينيات القرن الماضي (مواقع التواصل)

ملخص

حين يحدث خلط متعمد بين المال والسلطة بشكل يفضي إلى تلاشي الحدود بينهما تولد الثروة المتوحشة وهي نتاج غياب ثقافة التعامل مع الثراء والدليل يكمن في صراع الساحل الطيب والشرير.

الطقس في مصر خلال شهري يوليو (تموز) وأغسطس (آب) وجزء من سبتمبر (أيلول) حار رطب جدلي نهاراً ولطيف مع نسمة هواء معبأة بتراشقات لفظية وعراكات بالأيدي وربما الأرجل مساءً.

وعلى رغم أنها نادراً ما تمطر في هذه الأشهر القائظة التي تؤثر سلباً في الحال النفسية لبعضهم وتلقي بظلال الرطوبة الثقيلة على تصرفات بعضهم الآخر، إلا أنها تمطر تغريدات وتدوينات وصوراً وفيديوهات على أثير الـ"سوشيال ميديا" على مدار ساعات اليوم.

ساعات النهار عادة ما تخصص في هذه الأشهر القائظة لتحليل ما جرى في اليوم السابق على شواطئ الأغنياء وما دار في شواطئ الفقراء والبسطاء، على أن تترك مساحة معقولة لما سيجري بثه مساء على أثير برامج الـ "توك شو" الليلية، مما تبع منها الدولة حيث إشارات طفيفة خفيفة سريعة لمعارك الشواطئ الطبقية وما انجرف منها صوب الجماعات الهاربة والمجموعات المتصيدة في مياه المصايف العكرة والصافية على حد سواء.

عادة موسمية

تلك العادة الموسمية باتت لصيقة بشهور الصيف وتنامت وتفاقمت وتغلغلت في العقد الماضي مستفيدة من أجواء الاستقطاب والاستنفار والاستثارة والإثارة التي تفجرت على هامش أحداث يناير (كانون ثاني) 2011 وتفاقمت على وقع أحداث يونيو (حزيران) 2013.

أحداث العامين 2011 و2013 توصف دائماً بمفردات ثورية وسياسية، لكن الجانب الخفي من المفردات التي قلما يلتفت إليها أحد والتي أعادت اكتشافها هذه الأحداث تكشف عن وجهها في صيف كل عام على شواطئ المحروسة لمن استطاع إليها سبيلاً، وعبر ملايين الشاشات ملاذ الملايين الافتراضي في أشهر القيظ، والمفردات المعاد اكتشافها هي "صراع الطبقات وعراك الفئات".

طبقات مصر وفئاتها الملتبسة اقتصادياً المرتبكة سياسياً الملتبكة دينياً تجد نفسها على حلبة الساحل في مثل هذه الأشهر من كل عام، لا سيما في الأعوام الـ 10 الماضية، وفريقان مزمنان يتناحران، فريق أنصار "الساحل الطيب" ورواده من البسطاء والمدافعين عنه من المثقفين والحقوقيين والمهتمين بشؤون السلم الاجتماعي ومعهم الباحثين عن صيد ثمين في أي مياه عكرة تلوح في الأفق لأسباب سياسية بحتة، يقابله فريق أنصار "الساحل الشرير" ورواده من الأثرياء المقتدرين وثلة من المستأجرين شبه المقتدرين المتعلقين بتلابيب الطبقة العليا من دون شرط مطابقة المواصفات أو استيفاء شروط "فورمة الساحل" وأحكامه المتلخصة في العيش في قوقعة تفصل سكانها عن المجتمع.

ومع هذا الفريق من دون شرط التردد على الساحل الشرير ثلة أخرى من المدافعين عن حق من يبحث عن الترفيه بعيداً من أعين المتلصصين والحاقدين والمعتنقين لما يسميه بعضهم "سلفنة الشاطئ" ويراه بعضهم الآخر فرض الالتزام وتعميم الحشمة وربما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إن لم يكن فعلياً فعبر النظرات اللوامة والتمتمات الهجاءة.

قنبلة كل موسم

وجرى العرف على مدى الأعوام القليلة الماضية أن تندلع قنبلة كل عام الموسمية بحدث ساخن مثير مثل أن تمنع إحداهن من ارتياد الشاطئ بـ"البوركيني"، فتملأ أثير الـ "سوشيال ميديا" بكاء على حقها المهدور لمجرد إنها محتشمة، وعلى قيم بلدها الإسلامية الملتزمة التي تبددت في هواء العلمانية المقيتة أو بعرض عقاري لافت يوفر "الستوديو" بـ 10 ملايين فقط لا غير، والشاليه بـ 20، والفيلات تبدأ من 30 وهو ما يتلقفه شعب الـ "سوشيال ميديا" لتوليد الـ "ترند" وتخليق الوسم استهلالاً لمعركة العام وكل عام، وهلم جرا.

صراع الطبقات وعراك الفئات هذا العام تأخر بعض الشيء، ربما بسبب الأوضاع الاقتصادية المؤلمة التي عرقلت وصول المصطافين والمصطافات إلى سواحلهم الطيبة والشريرة، أو لانشغال المسؤولين عن التوليد والتوليع في "ترندات" أكثر آنية مثل توقعات الانتخابات الرئاسية المقرر انعقادها العام المقبل وربما قبله، و"وسوم" أعلى سخونة حيث حادثة دهس يقترفها ضابط أو ملابس مطرب تستنفر قوات الأمن العنكبوتي وحراس الفضيلة الافتراضيين.

قوم الـ"سوشيال ميديا"

لكن المثل يقول "أن تأتي متأخراً أفضل من ألا تأتي على الإطلاق"، ويبدو أن "كل تأخيرة وفيها خيرة" كما يقول المصريون، وإن كانت الخيرة هنا تندرج تحت بند مصائب قوم من معارك وصراعات عند قوم آخر هم قوم الـ"سوشيال ميديا" ومن معهم فوائد.

هذا العام تم استهلال الموسم بطريقة Soft opening أو "الافتتاح الناعم" عبر فقرة مكررة ولكن على يد المذيعة والممثلة جوري بكر التي تمكنت خلال الأشهر القليلة الماضية من صناعة الـ "ترند" وتصدره غير مرة، بين دورها في مسلسل "جعفر العمدة" في رمضان الماضي ثم صور حملها، وبعدها مقولة إن زوجها طلقها وهي في أشهر الحمل الأخيرة، ثم تكذيب المقولة وغيرها.

زجاجة المياه

استهلت بكر الموسم بفيديوهات وصور بصفحاتها على الـ"سوشيال ميديا" أثناء وجودها في "الساحل الشرير" مع زوجها رجل الأعمال بالغ الثراء، ومع صورها وفيديوهاتها كتبت "في قلة أدب بتحصل، وفي ناس قليلة الأدب، وفي قلة أدب في الأسعار، وفي ناس ممكن تقول لي: إيه إللي وداكي؟ (لماذا ذهبت؟) لكن أنا مضطرة، وأنا الحمد لله راضية، لكن ما هذه الأسعار؟"

واستطردت مؤكدة ومتوعدة أن أي مكان سترتاده ولا تعجبها الأسعار ستفضحه فوراً على الـ "سوشيال ميديا"، مضيفة بلهجة استنكارية "يعني إيه عيل صغير يجيب (يشتري) زجاجة مياه بـ 200 جنيه؟! هي مياه من الجنة؟!".

"جنة" الساحل الشرير هي حرفياً حلم الملايين، والساحل الشمالي يختلف عن اسمه، فهو جغرافياً يمتد بطول 1050 كيلو متراً من رفح شرقاً عبر شبه جزيرة سيناء إلى السلوم غرباً على الحدود مع ليبيا، لكن الساحل الشمالي المعني والذي بات منظومة وعرفاً ومثار جدل هو الممتد من غرب الإسكندرية مروراً بالعلمين وحتى ما بعد مرسى مطروح بقليل.

السلم الاجتماعي والصيف

منظمة الساحل الشمالي صارت تلخيصاً صيفياً لحال الصراع الطبقي في مصر ووضع السلم الاجتماعي ومكونات الطبقات الاجتماعية حيث المال يغني عن المكانة، لكن المكانة لا تحقق المال اللازم للانتماء لطبقة بعينها في المنظومة الصيفية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تأسست منظومة "الساحل الشمالي" في المجتمع المصري منتصف ثمانينيات القرن الماضي حين شرعت الحكومة آنذاك في بناء منتجعات سكنية شاطئية أبرزها "مراقيا" و"مرابيلا" ثم "مارينا"، واكتسبت هذه القرى شهرة وصيت كبيرين، وكان المصريون من غير الملاك يبذلون جهداً كبيراً لزيارة هذه المنتجعات لبضع دقائق أو ساعات للتعرف إلى هذه القرى السياحية الفارهة الفاخرة، وهم لا يعلمون أن هذه القرى تنهي فصلاً رئيساً من فصول "المصايف المصرية".

جمصة وبلطيم والإسكندرية

المصايف المصرية تاريخياً واجتماعياً كانت شواطئ المدن الساحلية مثل الإسماعيلية وبور سعيد وبلطيم وجمصة ورأس البر والإسكندرية، لا سيما الأخيرة التي طالما عرفت بـ "عروس البحر المتوسط"، وكل من هذه المدن الشاطئية كانت ولا تزال إلى حد ما تحوي شققاً وشاليهات أو فيلات سكنية للأغنياء تتركز في مناطق بعينها، وشقق وعشش (مبنية من الخوص) لأبناء الطبقة المتوسطة وما دونها.

وعلى رغم أن مصر لم تعرف الشواطئ الخاصة إلا في عصر "الساحل الشمالي" حيث شواطئ القرى والمنتجعات السكنية حكر على ملاكها وضيوفهم، إلا أن العرف التاريخي والاجتماعي والشعبي يشير إلى أنه كان هناك شواطئ للأثرياء وشبه الأثرياء، وشواطئ للطبقات المتوسطة وما حولها، وثالثة للبسطاء.

 

لكن لا البسطاء بقوا على حالهم أو الأثرياء احتفظوا بخصوصية شاليهاتهم وفيلاتهم وقصورهم في هذه القرى السياحية الطليعية، فقد كانت فكرة استثمار الساحل الممتد من بعد قرية "مارينا" مثيرة ولا تحمل إلا احتمالات النجاح، ويكفي أن "مارينا" الشهيرة التي يحلو لبعضهم أن يسميها "عزيز قوم ذل"، بدأت مارينا واحدة في الثمانينيات ثم تكاثرت وأصبحت حالياً سبع "مارينات" والثامنة في الطريق، بحسب ما أعلنته هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة قبل أيام.

من حيز العزة إلى براح الذل

أسباب وقوع مارينا من حيز العزة إلى براح الذل كثيرة، ومنها تسارع عمليات البناء والاستثمار على الساحل مع إضافة نقاط جذب إضافية لأصحاب الحسابات البنكية المتخمة أو الراغبين في الانتماء إلى "مجتمع الساحل" الذي بات طبقة اجتماعية تضمن الانضمام إلى أو التشعلق بصناع القرار وواضعي السياسات وأصحاب المال والأعمال والجاه في المجتمع المصري الجديد، كما بزغ نجم فئات اجتماعية اقتصادية جديدة في هذه الحقبة التاريخية تمثلت في العائدين من العمل في دول الخليج ومعهم مدخرات أتاحت لهم الانتقال من منتصف الهرم الطبقي صوب الطوابق الأعلى، إضافة إلى نوعية جديدة من رجال الأعمال ذات تركيبة فريدة.

في كتابه "قصة الثروة في مصر" (2012) للكاتب ياسر ثابت يرصد تطور الثروة وهوية أصحابها خلال الربع الأخير من القرن الماضي فيقول، "مرت علاقة السلطة والمال في مصر بمرحلتين، الأولى كانت الثروة فيها تابعة للسلطة، وكان على من يريد جمع ثروة أن يصل إلى أحد مناصب السلطة".

الثروة المتوحشة

ويقول ثابت إن ملامح هذه المرحلة تجسدت في قيام الدولة بصناعة مجموعة من رجال الأعمال من طريق دعمهم بوسائل مختلفة، منها منحهم مساحة شاسعة من الأراضي بأسعار مخفضة مما حقق لهم مكاسب مليارية.

ويشير إلى أن المرحلة الثانية تضم رجال أعمال لم تصنعهم الدولة، لكنهم صنعوا أنفسهم ووجدوا أن الارتباط بالسلطة هو الطريق الوحيد لتعظيم ثرواتهم، فانخرطوا في لعبة السياسة من دون أن يبتعدوا من أعمالهم وتجارتهم، وهو ما أثار عدداً من الشبهات والتساؤلات التي عادة تشغل بال الشعوب حين تغيب الحدود الفاصلة بين المالين العام والخاص، ويصف ثابت هذا الخلط بقوله "حين يحدث خلط متعمد بشكل يفضي إلى تلاشي الحدود بينهما، تولد الثروة المتوحشة وهي وليدة غياب ثقافة التعامل مع الثراء، وأخطر مساوئها أنها تنجب حرائق بدلاً من أن تتجنبها".

حرائق الرأي العام كل عام يمكن تفسيرها في ضوء نظرية "الثروة المتوحشة" التي تطورت هي الأخرى لتحوي مكونات ونماذج مختلفة إضافة إلى ما ذكره ثابت في كتابه الذي لم يصل في رصده وتحليله للمكونات الإضافية للثروة المتوحشة في العقد الماضي، وأصحاب هذه الثروات المتوحشة ينسب لهم الفضل في إرساء دعائم الساحل إلى طيب للبسطاء وشرير لغير البسطاء.

وإذا كان تداخل وتشابك السلطة والمال شهد قدراً من التراجع على مدى العقد الماضي، فإن هذا لا يعني عدم بزوغ نجم طبقة من القادمين الجدد جهة مجتمع الساحل الشمالي، فهذه الطبقة الجديدة انضمت إلى القديمة التي ارتبطت بعصر الرئيس السابق الراحل محمد حسني مبارك، سواء بشكل مباشر عبر السلطة أو غير مباشر عبر الانتفاع منها، وتماهت الطبقتان وأسهمتا في ترسيخ أقدام منظومة الساحل عموماً، وتقسيمها إلى طيبة وشريرة بوجه خاص.

التبرؤ من الثروة الفاحشة

واللافت أن المسألة تعدت مرحلة الدعابة أو الفكاهة أو السخرية وباتت وسيلة يتبرأ بها بعضهم من شبهة الثراء الفاحش أو غير المبرر أو الانفصال عن الشعب وبقية طبقاته، فنجد ممثلاً يدلي بتصريح مفاده أنه يقضي الصيف مع زوجته وأبنائه في الساحل الطيب ولا يتردد على الشرير إلا إذا دعاه أصدقاء أو زملاء، كما أن الـ "ترند" الذي نجحت الممثلة والمذيعة جوري بكر في صناعته حول أسعار زجاجات المياه في الساحل الشرير، على رغم أنها من رواده، يحوي تبرؤاً من شبهة الانتماء للساحل الشرير حيث إن زوجها يحبه وهي مضطرة إلى لذهاب معه، ثم تذيل ذلك بقولها "لكن أنا راضية الحمد لله" وكأنها تشير إلى حدث بائس لا ينقصه إلا إضافة عبارة "والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه".

وفي المقابل فإن رواد الساحل الطيب حيث القرى السياحية متوسطة الحال ومعها المنتجعات التي تبكي على لبن الريادة المسكوب وسكانها الذين انزلقوا إلى طوابق أدنى، سواء في أعقاب أحداث 2011 أو بفعل تعقد الأوضاع الاقتصادية الذي بدأ عام 2016 وتفاقم خلال العامين الأخيرين، ينظرون بعيون ملؤها الحسرة على وقوع ممتلكاتهم في "كردون" الساحل الطيب وخروجها من جنة الساحل الشرير.

فورمة الساحل

الساحل الشرير هذا العام بعد أن استهل موسم القيل والقال والشد والجذب بزجاجة مياه الفنانة جوري بكر، دخل بكامل طاقته غازياً الـ "سوشيال ميديا" ومحتلاً أحاديث القاصي والداني بمن في ذلك من لم تطأ أقدامهم أرض الساحل طيبه وشريرة من قبل عبر معركتين، الأولى دارت رحاها في مقهى بأحد المنتجعات الشريرة عندما نشب خلاف بين مجموعتين من الشباب وجميعهم بملابس البحر و"فورمة الساحل" حيث آثار ساعات الجيم الطويلة ومشروبات البروتين وثيقة الصلة بالعضلات واضحة وضوح شمس الصيف.

عراك بالأيدي وتقاذف بالطاولات وتكسير مقاعد على الرؤوس وفضيحة اجتماعية طبقية أشبعت شهية شعب الـ "سوشيال ميديا" المنتظر بفارغ الصبر لممارسة دوره في التنظير السياسي والتحليل الاستراتيجي والتفنيد الاقتصادي، وكذلك الإفتاء الديني وبالطبع الهبد والهبد الآخر، حيث ربط المعركة بالنظام السياسي والأداء الاقتصادي سلباً أو إيجاباً، تنديداً أو تبجيلاً.

النحر ليس مثيراً

قبل أعوام ليست بالكثيرة بدأت تحذيرات جيولوجية ومناخية وبيئية في التحذير من خطر نحر الساحل، فالشواطئ في بعض القرى والمنتجعات تراجعت بمقدار 10 أمتار، وتحذير من الظاهرة الخطرة اتخذ شكلاً موسمياً هو الآخر حيث يبزغ حيناً مع صدور تقرير هنا أو حدوث مزيد من النحر هناك، لكن سرعان يما يخبو ويمضي الساحل قدماً رافعاً شعار "العمل كالمعتاد".

وحتى الأصوات المحذرة من خطورة ما يجري، لا سيما بعد أن ثبت أن أسباب النحر ليست فقط عوامل طبيعية من تغير مناخي وارتفاع مستوى سطح البحر وغيرهما، ولكن التنمية الصناعية غير المدروسة أو المنضبطة والتوسع العمراني الهادر اعتبرا ضمن الأسباب الرئيسة كذلك.

 

وعلى رغم فداحة الموقف وخطورته بيئياً والقدرة على تقليص الخطورة ولو جزئياً عبر التحكم في التنمية غير المستدامة والعمران غير المدروس، إلا أن شؤون النحر وأمور البيئة لا تحظى بالقدر نفسه من الجاذبية العنكبوتية التي تؤهلها للهبد الشعبي والرزع الاجتماعي، كما أنها لا تحمل بين طياتها "توابل" فريق مؤيد وآخر معارض أو محفزات قهر الغلابة في مقابل ظلم الأغنياء.

عمران غير مدروس

وعلى رغم أن العمران غير المدروس والتنمية غير المنضبطة فيهما ما يؤهلهما ليمدا الجماهير الغفيرة بمشهيات بناء القصور على حساب الإضرار بالبيئة وردم البحر وتشييد مراسي لليخوت وبحيرات للملاك من دون الالتفات إلى أثر ذلك على تآكل الشواطئ، إلا أن المعارك البشرية والخلافات الشخصية وفيديوهات التكسير وما قالته الفنانة فلانة عن أسعار المياه وما غرد به الفنان العلاني عن أملاكه في الساحل الشرير له اليد العليا في صراع الساحل هذا العام وكل عام.

هذا العام، وما أن هدأت نسبياً جلبة فيديو تكسير مقهى في الساحل الشرير من قبل مرتاديه من الشباب حتى قفز فيديو يوثق مشاهد هدم أجزاء من مقهى يمتلكه نجل وزير سابق راحل من عصر مبارك في أحد أشهر منتجعات "الساحل الشرير"، وتداول أقاويل تشير إلى أن وراء الهدم رجل أعمال شهيراً.

عوامل تفجير الـ"ترند"

القصة والفيديو والحدث وفرت كل العوامل اللازمة لتفجير الـ "ترند" وتوليع الأثير، فمنتجع مصنف "ساحل شرير"، رجل أعمال ابن وزير سابق، رجل أعمال يقال إنه قريب من النظام الحالي وسبق اتهامه وسجنه في قضية قتل هزت أرجاء مصر والعالم العربي وأججت ولا تزال أثير الـ"سوشيال ميديا".

وكما جرت العادة فقد تم عزف مقطوعات مختلفة بين اعتبار ما جرى دليلاً على فساد النظام الحالي ومحاباة رموزه، أو التلويح بأن النظام الحالي الذي أسقط حكم جماعة الإخوان يدعم "الساحل الشرير" الذي يتسم بـ "البيكيني" والموبقات وليس البوركيني والحسنات في إشارة إلى العصف بمنظومة الإسلام السياسي التي لا يزال بعضهم يبكي على لبنها المسكوب، وميل فريق ثالث إلى الهبد في المطلق، أي التنفيس عن غضبه والتعبير عن إحباطه عبر انتقاد كل من يرتاد الساحل، لا سيما الشرير في ضوء الأوضاع الاقتصادية الصعبة الراهنة.

ولا تزال المقطوعات تتوالى وتتواتر وكل يعزف بحسب هواه ورؤاه، لكن أبرز المقطوعات وأكثرها تكراراً هي مقطوعة الفقراء الذين يعيشون في العراء والأغنياء الذين يسكنون الكومباوندات أو المجتمعات ذات الأسوار، وفي هذه المعزوفة جرى العرف أن تكون الفئة الأولى هي رمز تحلل الأخلاق وتبدد القيم وذيوع الرذائل والخطايا واستعراض القوة بلا خوف من قانون أو حساب لأعراف، أما الفئة الثانية والتي "تسكن في العراء" فهي لا تسكن في العراء بالمعنى الحرفي للتعبير، ولكنها تسكن في عمارات لا تحيطها أسوار كحال كل المصريين حتى ثلاثة عقود مضت.

ظاهرة الكومباوند

ظاهرة الكومباوند أو المنتجع السكني المغلق أو المسور الذي يحيطه سور أو سياج تلقى رواجاً وقبولاً ونجاحاً منقطع النظير في مصر، فكلمة "كومباوند" سواء كان سكنياً طول العام أو شاطئياً في الصيف تعني مكانة اجتماعية يفترض أنها راقية ومقدرة اقتصادية، ويتوقع أن تكون باهرة، وهو ما يؤجج براكين الصراع الاجتماعي والنقاش الطبقي والتناحر حول من يجب أن يمتلك ماذا ولماذا؟

لماذا أصبح الكومباوند أو المجتمع السكني المغلق على أصحابه بأسوار والمتمثل في فكرة "الساحل" مثار شد وجذب عنيفين وتأييد على استحياء وتنديد بالصوت العالي؟ لأن التركيبة الكلاسيكية للسكن في مصر انقلبت رأساً على عقب، فالتركيبة الكلاسيكية، وهي سمة من سمات أي مدينة في العالم، تنص على أن هناك أحياء أو مناطق سكنية مصنفة "أ" و "ب" و "ج" و "د"، أو أحياء راقية وأخرى شعبية وثالثة "بين بينين".

فخفخينا سكنية

ففي القاهرة مثلاً وحتى ثمانينيات القرن الماضي كانت أحياء مثل الزمالك والمعادي ومصر الجديدة والدقي تصنف "راقية"، والظاهر والحلمية والعباسية متوسطة، وبولاق والزاوية الحمراء وإمبابة شعبية، وتدريجاً أطبقت التجمعات المتنامية العشوائية على أنفاس الراقية وكذلك المتوسطة، كما تسللت عمارات فارهة إلى الشعبية واختلطت الهجرة الداخلية بالعائدين من دول الخليج ببقايا الأرستقراطية مما أدى إلى "فخفخينا سكنية" أزعجت بعضهم، وهذا البعض "نجا بنفسه" ولجأوا إلى التجمعات المسورة التي جمعت في بداياتها أناساً يشبهون بعضهم بعضاً اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً هاربين من هجمة سموها عشوائية.

لكن هذه الهجمة العشوائية يسميها حقوقيون وعلماء اجتماع وغيرهم "مداً عمرانياً بتنميط طبقي"، ويراه بعضهم فصلاً عنصرياً "غير مقبول" بين من يملك ومن لا يملك"، أو إمعاناً في تجذير الفروق الطبقية بين الجميع.

لكن الجميع يعرف أن السكن المسور الفاصل بين العالم الخارجي من جهة والداخلي المميز من جهة أخرى يبقى غاية يحققها بعضهم وحلماً يظل بعيد المنال لبعضهم الآخر، وهو الغاية المتحققة في منتجعات الساحل الشمالي بشكل عام والمتجسدة بكل أبعادها المتفردة في الجزء الشرير منه، والطريف أن نسبة لافتة من الحقوقيين والمتخصصين في التنديد بحياة الكومباوندات المغلقة والفصل بين الطبقات هم أنفسهم من سكانها.

سكان الساحل، الطيب والشرير، شأنهم شأن بقية سكان الأرض تنشب خلافات بينهم، وتقع حوادث في منتجعاتهم، وبفعل أو بفضل الـ "سوشيال ميديا" تتحول أي معركة في الساحل، لا سيما الشرير، إلى "خناقة ولاد الذوات" وأي خلاف على أرضه "نزاع القطط السمان" وأي حفلة أو فاعلية على شواطئه إلى خمر ونساء وكل أنواع الموبقات، وجميعها له الأولوية في صعود الـ "ترند" والبقاء على قمته.

واللافت أن خلافات ومعارك وحفلات وأنشطة الشواطئ العامة في بقية أنحاء مصر لا تزيد على كونها عنواناً منزوياً في صفحة الحوادث حتى لو هيمنت فيها السنج والمطاوي وسالت فيها الدماء، أو تنويهاً مقتضباً في منصة المحليات.

ويرى بعض المتابعين لمتلازمة الصيف والرطوبة والساحل الطيب والشرير أن أفضل ما حدث هذا العام، على رغم المعارك الضارية والقيل والقال وشكوى أهل الفن من أسعار زجاجات المياه، هو خفوت نجم البوريكيني في مواجهة البيكيني، وأهل الساحل الطيب الملتزمين ومآلهم الجنة في مقابل أهل الساحل الشرير المنفلتين ومستقرهم النار وبئس المصير.

المزيد من تحقيقات ومطولات