Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا لا يرى العرب في الموسيقى أكثر من التطريب؟

لا مشروع فكرياً واحداً اعتمد عليها كفلسفة وقاطرة منهجية لفهم القضايا الراهنة

قليلة هي المعاهد الموسيقية العلمية القادرة على تقديم خطاب معرفي مواز للأغنية العربية وتحولاتها (أ ف ب)

ملخص

الموسيقى تتجاوز دائماً بعدها الترفيهي القائم على الطرب، فهي تضمر في ثناياها اشتغالات فلسفية تحاكي بعض عناصر وسلوكات البشر.

يفتقد الغناء العربي الحديث منه والمعاصر إلى المونوغرافيات الموسيقية، فمن الناحية المعرفية لا يجد المرء كتباً أو دراسات أو مونوغرافيات تسعى نحو تشريح نماذج موسيقية عربية، وهو أمر يعود حتماً لقلة المعاهد الموسيقية العلمية القادرة على تقديم خطاب معرفي مواز للأغنية العربية وتحولاتها. فالعالم العربي يفتقد إلى المعاهد والأكاديميات والمدارس التي من الممكن أن تنتج خطاباً معرفياً يساير نماذج الأغنية العربية ويرصد تحولاتها الموسيقية ويقرأ بعضاً من تجاربها على ضوء ما يستجد في الساحة من مفاهيم.

وعلى رغم وجود معاهد موسيقية في بعض البلدان مثل مصر، لم تستطع هذه الأخيرة أن تنحو منحى المونوغرافيات لأن معظم ما يكتب عن الموسيقى عبارة عن كتب ودراسات تطغى عليها المراجع والمصادر التي تكون في غالبيتها ذات علاقة بفلسفة الموسيقى الغربية أكثر من كونها تراعي السياق الفني العربي. كما أن هذه الدراسات على جدتها تبدو لمن يقرأها وكأنها مكتوبة بلغة عربية واحدة، إذ لا مجال فيها للتجديد والتفكير.

غياب مؤسساتي

بقدر ما يأخذ الخطاب الموسيقي شكله القائم على نوع من النقد الموسيقي المعتاد، ففي هذا الأمر غياب للمفاهيم الخاصة بالموسيقى وجمالياتها. فالموسيقى علم خاص له تاريخه وطرائق تدريسه وليست مجرد وسيلة ترفيهية أو فاصلاً فنياً يمكن أن يدرسه المرء بين المواد العلمية أو الأدبية، وذلك لأن الموسيقى بدورها تستطيع أن تنتج خطاباً معرفياً قابلاً للقراءة والتأمل. فالنقد يتطلب إلى جانب تحليل القطع الموسيقية نوعاً من التأريخ الذي يبتدع في شكل الكتابة ويحولها إلى سيرة فنية باقية في الوجدان والذاكرة، وغياب هذا التأريخ الموسيقي يسهم دوماً في تغريب التجارب الغنائية ولا يجعلها تخضع لمنطق الوعي والمساءلة والنقد من باب التدقيق الفني والتثمين الجمالي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

فهذه الكتب مكتوبة بلغة أكاديمية تقريرية لا تجد فيها أي اجتهاد أو معنى أو لذة ما دام أن المفروض هو استشعار لذة الخطاب النقدي الموسيقي بطريقة تجعل الناقد يتذوق الموسيقى ويستكشف مجهولها وإيقاعاتها ودلالاتها اللحنية.

يقول الباحث الموسيقي نبيل اللو "يحتاج الاستماع إلى الموسيقى الصرفة إلى أذن متمرسة وذوق خاص مستقبل، بل إلى تدريب وممارسة تعتمد على التعلم، فضلاً عن أن الأمر يترجم ثقافة أمة بأكملها، فالمؤلفون الموسيقيون العرب لا تعوزهم المخيلة اللحنية ولا المعارف الموسيقية لكي يؤلفوا أعمالاً آلية، لكن نتاجهم منها في أحسن الحالات شحيح قياساً إلى نتاجاتهم الغنائية".

وعي موسيقى غير ناضج

ثمة وعي فني معطل في العالم العربي، إذ على رغم حداثة مؤسسات الموسيقى والغناء، فإنها لا تزال تخص نوعاً من السلفية الفنية التي تجعلها بعيدة من كل ما يقع في العالم من تحولات. كما أن غياب الموسيقى والغناء من مشاريع الفكر العربي يزيد الهوة حول موقع المونوغرافيات والنقد الموسيقي عموماً في الوطن العربي. ولا يوجد مفكر عربي واحد جعل من الموسيقى العربية مدخلاً ناجعاً لتحليل بعض القضايا الفكرية، في حين نعثر داخل الثقافة الغربية على مؤلفات فكرية عدة تصدت للموسيقى بالدرس والتحليل مثل بعض مؤلفات نيتشه وأدورنو وغيرهما.

أما في الثقافة العربية، فلا يوجد مشروع فكري اعتمد على الموسيقى أو الرسم أو السينما كقاطرة منهجية تسعفه على فهم القضايا الراهنة من المدخل الفني الموسيقي، وهذا مطلب كثير من الكتابات الفكرية التي تتحدث عن الحداثة من نواح سياسية واجتماعية واقتصادية لكنها تنسى مباهجها الجمالية، فالثقافة العربية الوسيطية مبنية على العقل والجماليات ومن الممكن أن تتحول هذه الجماليات في مجال الموسيقى والغناء إلى مدخل فكري يقودنا إلى اكتشاف بعض القضايا والإشكالات التي ظلت منسية ومهمة في تراثنا الفكري المعاصر.

غير أن التفكير في الموسيقى من وجهة نظر فكرية لغاية كتابة مونوغرافيات يتطلب نوعاً من التدقيق العلمي ووعياً كبيراً بالتاريخ، فالمونوغرافيات ذات ميسم تاريخي بالدرجة الأولى وكتابتها مركبة تمزج بين التأمل الفكري للقضايا والمفاهيم والتحليل الموسيقى للمقاطع الموسيقية، ثم النفس التاريخي الذي يضع الألبوم أو الموسيقى أو الفنان في سياق محدد حتى تبرز إشكالية الكتاب.

عطب فكري

إن الموسيقى تتجاوز دائماً بعدها الترفيهي القائم على الطرب، فهي تضمر في ثناياها اشتغالات فلسفية تحاكي بعض عناصر وسلوكات البشر. كما تستطيع الموسيقى أن تجسد من خلال الآلة بعض المشاعر والأحاسيس مثل الحب والكراهية والحزن والخوف، أي إنها تعبير صوتي عن أشياء لا مرئية تطاول كينونة الإنسان في علاقته بحياته اليومية.

يقول الباحث كمال بومنير "ما من شك في أن الدراسات والأبحاث العربية المتخصصة في مجال فلسفة الموسيقى قليلة ولم تنل إلى اليوم الاهتمام الكافي في دراساتنا الفلسفية وبحوثنا الأكاديمية. وقد لا أجانب الصواب إذا قلت إنه آن الأوان حقاً أن نهتم بفلسفة الموسيقى والخوض فيها بحثاً ودراسة وتنقيباً وأن تدرج دراساتنا الفلسفية على تناولها والخوض فيها والاهتمام الجدي بها قصد تجاوز حال التجاهل الذي لقيته المباحث الموسيقية في دراساتنا أكثر مما لقيته الفنون الأخرى".

في الثقافة الغربية، يعثر المرء على مونوغرافيات فنية حول بيتهوفن أو موزارت مثلاً، لكن يستحيل العثور على نظيرتها في الغناء العربي بالمعايير الفنية والعناصر الجمالية والنفس المعرفي المركب ذاته الذي تكتب به في العادة المونوغرافيات، بل يشعر المرء وكأن فعل الحداثة الذي يغمر الغرب اليوم سيعيشه الفن العربي بعد قرون، وهو أمر يعود بدرجة أولى لغياب هذا النوع من الثقافة الذي يتعامل مع الغناء وكأنه خطاب ترفيهي في المواسم والحفلات والأعراس، بل قد تفرض أحياناً طبيعة الغناء العربي وموسيقاه هذا النوع من التوجه إلى الترفيه بحكم أنه غناء إنشادي يركز بقوة على الصوت ولا يعطي إمكانات جمالية قوية للآلات الموسيقية، كما هي الحال في الموسيقى الغربية، بحيث تدفعك مقطوعة موسيقية إلى التفكير في قضايا فلسفية ذات علاقة بالإنسان والوجود.

اقرأ المزيد

المزيد من فنون