ملخص
حلم الحصول على مقبرة ينضم الآن إلى قائمة طويلة من الأحلام المؤجلة لدى قطاع عريض من المصريين.
لم يترك الغلاء في مصر شيئاً إلا وهدده، حتى المقابر باتت أسعارها تنافس بل تجاوز أسعار البيوت، لينضم حلم الحصول على مقبرة إلى قائمة طويلة من الأحلام المؤجلة لدى قطاع عريض من المصريين، بداية من صعوبة الحصول على سكن لائق وحتى استحالة الحصول على مدفن خاص.
ملايين الجنيهات ثمن مقبرة من بضعة أمتار، وفي بعض الأحيان تقوم جهات حكومية بفرض رسوم تميز على بعض المقابر لوقوعها في أماكن مميزة داخل الجبانات المختلفة.
تعد محافظتا القاهرة والجيزة الأعلى سعراً في "بورصة المقابر"، حيث وصل سعر مقبرة بمساحة 150 متراً في "حوش الباشا" بحي الخليفة إلى نحو مليوني جنيه (65 ألف دولار)، فيما يصل سعر بعض مقابر مدينة 6 أكتوبر بالجيزة إلى 800 ألف جنيه (26 ألف دولار).
قوانين منظمة
في الثاني من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1877 صدرت أول لائحة للجبانات ودفن الجثث وتنظيم نقلها إلى الخارج، فحظرت القوانين إقامة أي مدفن خاص إلا لمن يكون أدى لبلاده خدمات جليلة أو قام بعمل خيري كبير أو أي عمل آخر يستحق صاحبه التكريم بأن يكون له مدفن خاص.
وفى الـ29 من يناير (كانون الثاني) عام 1884 صدر الأمر العالي في شأن الجبانات المضرة بالصحة العامة، وتعددت القرارات المنظمة لها في هذا الشأن وما يتعلق منها بممارسة مهنتي "الحانوتية والتربية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بحلول الـ 11 من أبريل (نيسان) عام 1938 صدر مرسوم بإصدار الاتفاق الدولي بنقل الرفات الموقع في برلين في العاشر من فبراير (شباط) 1938، ونظراً إلى حاجة مصر لتشريعات جديدة تواكب التغيرات في مجال الجبانات ودفن الجثث تم إصدار القانون رقم 5 لعام 1966 الذي وضع نظاماً مبسطاً يسمح بإقامة المدافن الخاصة، على أن يصدر قرار من رئيس الجمهورية يحدد المناطق المقرر تخصيصها كمقابر بناء على طلب يقدمه وزير الإدارة المحلية بعد موافقة مجلس المحافظة عليه بهدف تحقيق المساواة بين الناس.
وكلف القانون الجديد المجالس المحلية في المحافظات كل في حدود اختصاصه حصر جميع الجبانات العامة والمدافن الخاصة وقيدها في سجلات وتحديد مساحة الأحواش ورسوم الانتفاع بها.
ونص القانون على أن المقابر تخصص للمواطنين بنظام "حق الانتفاع" باعتبار أراضيها أملاك دولة، ومن حق الدولة إلغاء الجبانة وإبطال الدفن فيها حال امتلاء المقابر، ويجب على ذوي الشأن في حال الإلغاء نقل رفات موتاهم إلى أماكن أخرى.
وفي أبريل الماضي، تقدم أكثر من 60 نائباً في البرلمان المصري بمشروع قانون لتعديل بعض أحكام قانون الجبانات رقم 5 لعام 1966، وتضمنت زيادة رسم الانتفاع الوارد في القانون من 500 مليم للمتر المربع إلى 5000 جنيه (162.45 دولار)، على أن يراعي النظر في تحديد قيمة ذلك الرسم بصفة دورية كل ثلاث سنوات.
وترصد بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري وصول عدد الوفيات إلى 742 ألفاً عام 2021، مقابل 665 ألفاً في 2020 بنسبة ارتفاع قدرها 11.6 في المئة.
الأغلى سعراً
يقول ي. م (يعمل في مهنة الدفن) إن أسعار المقابر تختلف باختلاف المساحة والمكان، مشيراً إلى أن المقابر الأغلى سعراً هي التي تقع في قلب القاهرة مثل مقابر السيدة نفيسة والشافعي والمجاورين، بحيث تتراوح أسعار المقابر من 900 ألف جنيه (نحو 29 ألف دولار) إلى أكثر من مليونين (65 ألف دولار) بحسب المساحة والموقع، ولفت إلى أن تلك المناطق من النادر العثور فيها على مقابر غير مستغلة حالياً.
وأوضح لـ"اندبندنت عربية" أن مقابر مدينة 6 أكتوبر الواقعة على طريق الفيوم الصحراوي يبدأ سعر المتر فيها من 8 آلاف جنيه (259.92 دولار)، ويسجل أقل سعر متر للمقابر المميزة في مدينة 15 مايو نحو 43 ألف جنيه (1397 دولاراً)، في ما تبدأ أسعار المقابر العادية بمدينة 15 مايو من 10 آلاف جنيه (324.89 دولار).
ويبدأ سعر المتر في مقابر مدينة القاهرة الجديدة الواقعة على طريق العين السخنة من 8 آلاف جنيه، أما الموجودة على طريق السويس الصحراوي قرب مدينة الرحاب، فيسجل أقل متر مبلغ 18 ألفاً (584.81 دولار)، وفي مدينة نصر يتجاوز سعر المتر 40 ألفاً (1299 دولاراً)، وفي منطقة القطامية 30 ألف جنيه (974 دولاراً).
ويعتبر بعد المسافة عاملاً رئيساً في تراجع الأسعار نسبياً بمدينة العبور، ليبدأ سعر المتر من 4 آلاف جنيه (129.96 دولار)، فيما تواجه مدينة العاشر من رمضان طلباً مرتفعاً على المقابر بسبب الكثافات السكانية بالمدن المحيطة بها مثل بدر والشروق وهليوبوليس الجديدة ومدينتي.
حرمان قانوني
تتنوع جهات الولاية المسؤولة عن مناطق المقابر في مصر ما بين وزارة التنمية المحلية ممثلة بدواوين المحافظات ووزارة الأوقاف التي تمتلك عدداً من المناطق المخصصة للدفن وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة التي تعد المسؤول الوحيد والأكبر عن تخصيص المقابر لسكان المدن الجديدة والتي تجاوز عددها 43 مدينة.
وتحرم لوائح تخصيص المقابر في المدن الجديدة معظم السكان من الحصول على مدفن من المخصص لخدمة تلك المدن، بحيث يجري تحديد المقابر بنظام القرعة العلنية شرط أن يكون المتقدم هو "مالك أصيل" (صادر له قرار تخصيص أرض/ وحدة سكنية مباشرة من جهاز المدينة) وتقع داخل مدينة طرحت مقابر في نطاقها.
مسؤول في هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة (طلب عدم الكشف عن هويته) أكد أن هذا الشرط يحرم ملايين المواطنين من المقيمين في المدن الجديدة من الحصول على مدفن خاص بهم.
وقال لـ"اندبندنت عربية" إن "معظم الملاك في المدن الجديدة اشتروا وحداتهم أو أراضيهم من آخرين حصلوا عليها إما مباشرة من وزارة الإسكان أو عن طريق الشراء من آخرين، بالتالي المالك الأصيل المقصود بهذا الشرط الذي يملك محضر تخصيص باسمه من جهاز المدينة غالباً غير موجود أو غير مقيم في المدينة، وبذلك تضيع فرصة كل من يشتري عقاراً من شركة أو فرد داخل أي مدينة جديدة من حق المنافسة للحصول على مدفن".
وتابع "هذه اللائحة التي لم يجرؤ أحد على تعديلها، ولها وجه آخر تبرر به وزارة الإسكان موقفها، فلو تم السماح للمشترين في المدن الجديدة بالحصول على مقابر باعتبارهم ملاكاً ولديهم مرافق ووحدات مسجلة بأسمائهم أصبح لزاماً على الوزارة أن توفر ملايين المقابر لتغطية الطلب، فمن يملك قطعة أرض كمالك مباشر من الدولة له الحق في مقبرة واحدة، أما إذا باع قطعة الأرض التي في المتوسط تضم 12 شقة سكنية، فتصبح الدولة مطالبة بتوفير 12 مدفناً لكل مالك وليس مدفناً وحيداً للمالك الأصلي".
واستطرد "قوانين المجتمعات العمرانية لا تعترف بوجود المشترين، فهي تحظر في عقود التخصيص تصرف المخصص له في الأرض أو الوحدة التي حصل عليها، بالتالي فهي قانوناً لا ترى كل هؤلاء المتعاملين مع شركات التطوير العقاري أو المشترين من المالك الأصلي ما لم ينقلوا ملكية الوحدة بأسمائهم داخل جهاز المدينة".
وتشترط هيئة المجتمعات العمرانية أن يسدد الراغب في دخول القرعة نحو 30 ألف جنيه كمقدم جدية حجز، إلى جانب شراء كراسة الشروط بنحو 300 جنيه (9.75 دولار)، وأن لا يكون سبق له أو لأحد أفراد أسرته حجز مقبرة وأن يكون من المقيمين في مدينة طرحت المقابر في نطاقها ومخصصاً له وحدة سكنية أو قطعة أرض في المدينة نفسها، على أن يلتزم الفائز باستكمال سداد ثمن المقبرة عقب الفوز في القرعة اليدوية، إضافة إلى سداد مبلغ 5 آلاف جنيه وديعة للصيانة والحراسة ونسبة اثنين في المئة مصاريف إدارية ونسبة واحد في المئة رسوم مجلس أمناء، وذلك بشيك مصرفي مقبول الدفع باسم جهاز المدينة.
وسجلت الأسعار الإجمالية للمقابر مساحة 40 متراً التي طرحتها وزارة الإسكان بمدينة العاشر من رمضان خلال الشهر الجاري نحو 140 ألف جنيه (4500 دولار أميركي).
مأساة إنسانية
جنون أسعار المقابر خلق عدداً من الحالات المأسوية التي اضطرت فيها بعض الأسر إلى دفن ذويهم في مقابر عمومية تابعة للمحافظة أو "مقابر الصدقة" التي يخصصها أفراد أو جمعيات خيرية لدفن من لا يملكون مقابر خاصة أو لا يملكون نفقات نقل جثمان المتوفى إلى بلدته الأصلية.
يقول خميس بهنس، وهو أحد العاملين في مجال خدمات المقابر بمحافظة المنيا، إن جميع مناطق الجبانات تخضع لمسؤولية الدولة بشكل مباشر، وبعض الميسورين يشترون مقابر عدة ويخصصونها كصدقة لدفن ضحايا الحوادث من المجهولين الذين لم يستدل على هويتهم، أو من لا يملكون مقابر خاصة لدفن ذويهم، أو بعض المواطنين، بخاصة في محافظة القاهرة على سبيل المثال ممن لا تمكنهم الظروف من العودة لمسقط رأسهم لدفن أقاربهم بسبب خلافات ثأرية وما شابه، لافتاً إلى أن ارتفاع أسعار المقابر منع كثيرين من الحصول على مدفن خاص لعائلاتهم، ونظراً إلى الضغط الشديد على مقابر الصدقة يتم تطهيرها كل 90 يوماً وجمع رفات المتوفين وإخلاء مساحة لاستقبال متوفين جدد.
مقابر بالتقسيط
لا يترك هواة "البيزنس" طريقاً إلا وسلكوه بحثاً عن تحقيق مكاسب مادية، فأزمة ارتفاع أسعار المدافن خلقت سوقاً كبيرة لتجارة المقابر تنتشر في القاهرة الكبرى بشكل ملحوظ وتمتد على استحياء إلى بعض المحافظات.
وتكشف محركات البحث عن شركات كبرى تخصصت في مجال تجارة المقابر، بحيث تعلن الشركات عن مدافن ومقابر شرعية للبيع جاهزة للتسليم وبعضها كامل التشطيب ومرخصة في عدد من مناطق الجمهورية.
إحدى الشركات وجهت دعايتها نحو تشجيع الباحثين عن شراء مدفن على التعاقد معها، قائلة في رسالة على موقعها الإلكتروني "نقدم لك أفضل خدمات بيع وشراء المقابر والمدافن بأفضل الأسعار وأجود خامات البناء، فشركتنا من أولى الشركات في تقديم خدمات بيع المدافن الجاهزة وأجودها لما تقدمه من خدمات مميزة لعملائها الكرام، إضافة إلى خدمات ما بعد البيع وإنهاء الإجراءات والتراخيص فور التعاقد على المدافن وسرعة تسلم المقابر، والالتزام بالأمانة والمصداقية، ويمكن للعميل اختيار المقبرة التي تتوافر بها أهم المميزات التي يحتاج إليها عند الشراء".
وأعلنت الشركة عبر منصتها الرقمية، أرقام هواتف خدمة العملاء لمن يرغب في معرفة العروض واختيار ما يتناسب مع متطلبات وإمكانات كل عميل.
"بيزنس الجنائز"
يعتبر عنصر المفاجأة في حالات الوفاة واحداً من المشكلات التي تواجه الأسر، في ظل غياب الخبرة العامة لدى قطاع عريض بالإجراءات الواجب اتباعها لتكريم المتوفى، ومن بينها توفير وسيلة نقل للجثمان أو توافر مدفن خاص وقريب من مكان المتوفي.
وقبل ثلاثة أعوام ظهرت في مصر أول شركة متخصصة في الخدمات اللوجستية للجنازات، إذ إنها تقوم بتوفير خدمة متكاملة تغطي جميع مراحل تكريم المتوفى بإنهاء الإجراءات الرسمية والغسل وتجهيز الجثمان وتحضير المقابر ونقل المتوفي بسيارات مجهزة إلى أي مكان وحجز قاعات العزاء والتأبين ونشر النعي في الجرائد والوسائل الرقمية وتوزيع هبات الصدقة على روح المتوفي، وغيرها من خدمات الدعم التي شكلت نمطاً استثمارياً جديداً بات معروفاً بـ"بيزنس الجنائز".