ملخص
التأخر التاريخي الذي رافق هذه الصناعة في العالم العربي مرده إلى عدم استيعاب مفهوم الحداثة في بعدها الجمالي داخل الفنون.
كان للتحولات التكنولوجية التي عرفتها الوسائط البصرية تأثيرها على الفيديو كليب، ذلك أن هذا التأثير لم يلامس فقط الجوانب التقنية منه ومحاولة تحديثها، بل أصبح مؤثراً في البنية الداخلية للعمل الفني، ولم يعد مجرد ممارسة فنية تلقائية تدفع بالموسيقيين والمغنين إلى تصوير كليبات خاصة لأغانيهم بقدر ما أصبح صناعة أصيلة مفروضة على الفنانين.
هذا الأمر تتحكم فيه بشكل داخلي عوامل قد لا يفهمها إلا الفنان كون الصوت وحده لا يستطيع التأثير في المتلقي. لهذا يلجأ الفنان إلى الصورة لفرض نوع من السلطة البصرية على المشاهد من دون أن يحدس بها.
إن الصور الأيقونية التي يستخدمها النجوم والتي تكون مرافقة لأغانيهم قادرة على إنجاح الأغنية جماهيرياً وتضمن لها ذيوعاً كبيراً مقارنة مع الصوت الذي يبقى تأثيره محدوداً بالنظر إلى مباهج الصورة وتقنياتها المختلفة والمتنوعة.
بدايات مرتبكة
أصبح الفيديو كليب اليوم صناعة قوية يصعب التخلي عنها لحظة إصدار الأغنية، بل إن هذا الوسيط البصري بمثابة مختبر فني لتكثيف القول والتعبير، ذلك أن الكليبات المعاصرة تتواشج فيها مجموعة من الخطابات الفنية المتنوعة ويصعب القبض عن فن واحد.
من الموسيقى والغناء إلى الرقص والتمثيل يتوزع الكليب على هذه الأجناس الفنية التعبيرية وقضايا جمالية جدد نفسه بها منذ بداية الألفية الثالثة. وتبقى هذه الكليبات المركبة التي تضمر في اشتغالاتها فنوناً تعبيرية عدة قادرة على البقاء في ذاكرة الناس، كونها تستطيع أن تنسج معهم علاقة قوية قوامها المتعة والابتكار. فإذا كان الفيديو كليب القديم لم يرق إلى التكثيف البصري المركب في استخدام الصور، فإن نظيره الجديد أكثر قوة من هذه الناحية. وإن كان الكليب القديم يظل صادقاً من حيث تركيب الصور وحرارتها الجمالية فإن الأخير يعمل وفق نمط ارتجالي يسعى إلى التمويه والتوليف أكثر من الإبداع والابتكار.
طالما تجنب المخرجون العرب العمل على إخراج فيديو كليبات على أساس أن هذه الصناعة لا تقارن بشغفهم السينمائي الغني. كونها في عمقها تجارية لا علاقة لها بفعل الإبداع. مع أن تجارب غربية متعددة تظهر العكس كما هي الحال مع المخرج ديفيد فينشر الذي أخرج عدداً من الكليبات المميزة على رغم قدومه من عالم السينما. ولم يستوعب المخرجون العرب بعد أن الأمر له علاقة بنظام بصري موحد قد يمكنهم من اختراع شخصيات وتوزيعها على فضاءات تتماهى مع خطاب الأغنية.
فالكليب في جوهره وطريقة إخراجه يشبه العمل السينمائي مع اختلاف في طريقة التصوير واختيار الإطار. ويعتقد النقاد أن الكليب لا يتوفر على حكاية، لكن إذا دققنا النظر سنعثر على حكاية تنسجها الصورة، فكل صورة في عمقها حكاية. والفيديو حامل لخطاب فكري ترويه الصورة ويتشكل من مشهد إلى آخر. فحكاية الكليب عبارة عن توزيع للمشاهد وانتقال للقطة من وضعية بصرية إلى أخرى. إنها حكاية مبنية ومؤسسة على تدرج الصورة، في حين أن الفيلم قد يقلب هذا النظام البصري من طريق "الفلاش باك" وغيره.
جماليات جديدة
لقد حظي الكليب باهتمام بالغ داخل الساحة الغربية من خلال كليبات أخرجها عديد من المخرجين استطاعوا التعبير عن ملامح مشاريعهم الجمالية التي ستتكرس لاحقاً داخل منجزهم السينمائي، بل إن هذه الكليبات كانت بمثابة شهادة ميلاد لمواهبهم وتفكيرهم وأحلامهم. وبقدر ما نجحت هذه الكليبات نجحت أيضاً أفلامهم. والسبب هو إيمانهم بأن الصورة، تلفزيونية أو سينمائية أو حتى فيديو كليب، تستطيع أن تطويع ذائقتهم الجمالية وتحويلها إلى عمل فني باق في الذاكرة والوجدان.
إن الكليب يتميز بخصائص فنية قد لا تتيحها السينما بسبب تركيبيتها. فالفيديو كليب يسهل تصويره، لأنه يكون دائماً محدداً بإطار زمني ووحدة بصرية لا يستطيع المخرج تجاوزها، في حين تبقى السينما مفتوحة على نوع من التجريب البصري الذي يحولها إلى مختبر فكري.
لم يهتم العرب بصناعة الفيديو كليبات إلا في سنوات متأخرة. ليس وعياً منهم بأن صناعته لا تضاهي السينما ومتخيلها، بل لعدم فهم معنى حداثة الأغنية المعاصرة. منذ الثمانينيات اعتبر المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه أن الصورة خلاص المجتمعات المعاصرة، فهي السر الذي أصبحت تتأسس عليه المعرفة. لهذا فإن التأخر التاريخي الذي رافق هذه الصناعة في العالم العربي مرده إلى عدم استيعاب مفهوم الحداثة في بعدها الجمالي داخل الفنون. وإن كانت تجارب قليلة تفاعلت مع هذا العنصر وحولته إلى نوع من البهرجة البصرية الخالي من المعنى والقائم على الاستعراض.
نحو السينما
لكن مع بداية الألفية الجديدة وتراجع الإنتاجات التلفزيونية والسينمائية، دخل عدد من المخرجين العرب إلى عالم الفيديو كليب وأصبحوا ملزمين بموجب تعاقدات مع مؤسسات موسيقية بصناعة كليبات بعض النجوم. نتذكر هنا القفزات المهمة التي حققتها المخرجة اللبنانية نادين لبكي في عدد من أغاني مواطنتها نانسي عجرم. لقد أسهمت لبكي في شهرة نانسي، فطريقة التصوير وطريقة تقديمها للجمهور باعتبارها امرأة جميلة شابة ترقص أمام الرجال في غنج يخطف الأنظار أسهمت في ذيوع شهرتها عربياً. وقد أنتجت عجرم ظاهرة غريبة في الأغنية الجديد، إذ يستحيل فصل أغانيها عن كليباتها وإلا أصبحت مجرد لغو.
هذا الافتتان بعجرم لعبت عليه لبكي وحولته إلى موقع لسحر المتلقي، بل أخرجت منها كليشيهات مميزة مع مرور الوقت غدت تتكرر داخل كليبات نانسي عجرم. وقد تميزت كليبات لبكي بتصويرها السريع وقدرتها على التقاط مشاهدة حساسة ومفاجئة من دون أن تلفت الانتباه أو تكون مستفزة بصورها، بل عملت على استغلال تجربتها في الإعلانات التي أعطتها زخماً جمالياً سيكون ممهداً لدخول عالم الإخراج السينمائي.