ملخص
من يحل لغز أحجية الغاز العراقي؟
ما إن يبدأ فصل الصيف في العراق الذي تتجاوز فيه درجات الحرارة 50 درجة مئوية حتى تبدأ معه الأزمات المتكررة لقطاع الكهرباء وغياب شبه كامل لتزويد الطاقة الكهربائية في بعض المحافظات العراقية، ومع استمرار هذه الأزمة التي يصفها العراقيون بـ "المزمنة" بعد تعذر حلها منذ سنوات، تطرح كل عام التساؤلات عن كيف يمكن لبلد يعتمد اقتصاده بشكل أساس على القطاع النفطي أن يعاني من مشكلات الطاقة الكهربائية ويواجه باستمرار المشكلات التي تتعلق باستيراد الغاز من إيران التي تتحكم بقطع الإمدادات لأسباب مالية أو فنية، في حين أن بغداد تحرق ملايين المكعبات من الغاز المصاحب لاستخراج النفط.
تاريخياً بدأ العراق إنتاج النفط عام 1927 حيث كان الغاز المصحاب لعملية الإنتاج النفطي يهدر ويحرق، أما القسم المتبقي فاختصر استخدامه في الحقول لتوليد الطاقة، وفي أواخر الستينيات من القرن الماضي بدأ استثمار الغاز في حقل كركوك النفطي من خلال إنشاء معمل استخلاص الكبريت الذي يعتمد على الغاز الطبيعي لتوليد الطاقة ومن ثم نقل الفائض عن الحاجة إلى معمل التاجي ليقوم بدوره بتوفير غاز الاستهلاك المنزلي وبعض المنشآت الصناعية.
حقبة ذهبية
السنوات الذهبية لاستثمار الغاز الطبيعي كانت في السبعينيات، إذ قامت الحكومة العراقية بربط شبكة أنابيت بين الحقول المنتجة والمراكز المستهلكة، وتشييد عدد من محطات توليد الطاقة الكهربائية على الغاز الطبيعي، منها محطة الهارثة والنجف والناصرية والحلة وخور الزبير، وكذلك بناء مجموعة من مصانع البتروكيماويات والأسمدة في محافظة البصرة مما أدى إلى زيادة الطلب على الغاز الطبيعي.
استثمار الغاز توقف في الثمانينيات بسبب الحرب العراقية–الإيرانية، وتوقفت خطوط نقل الغاز الطبيعي نحو المحطات الكهربائية وبعض المنشآت لتعود للعمل بعد نهاية الحرب، ثم تتوقف مرة أخرى بسبب العقوبات الاقتصادية التي فرضت على العراق عام 1991 لتأتي مرحلة الاحتلال 2003 وما نتج منها من تدمير للبنى التحتية وما رافقها من أعمال تخريب طاولت كل القطاعات ومنها قطاع النفط والغاز.
استخراج واستثمار
المتخصص في مجال النفط والطاقة بلال خليفة قال إنه بعد توقيع الجولتين الأولى والثانية من عقود جولات التراخيص النفطية عام 2009 دخلت شركات عالمية وبخبرة حديثة في هذا القطاع بعد انقطاع عن التطور والتحديث منذ 1991 لكن الإدارة ركزت على الاستخراج لدوره "الرئيس في زيادة الإيرادات المالية، لا سيما وأن العراق يحتاج لأموال كثيرة من أجل إعادة الإعمار".
ويرى خليفة أن ما يؤخذ على عقود التراخيص النفطية هو إهمالها للغاز المصاحب لعمليات الاستخراج إذ إن "70 في المئة منه لم يتم التركيز عليه، وكان من المفترض أن تسير عملية استغلال الغاز جنباً إلى جنب مع الاستخراج".
وأشار المتخصص في مجال النفط والطاقة إلى أنه "بعد تدارك العراق لمشكلة منح جولات التراخيص النفطية التي أغفلت استثمار الغاز، أعلن في عام 2010 عن ثلاثة حقول غاز حر وهي عكاز والمنصورية وسيبة، وعلى رغم ذلك لم يتم استغلال الغاز المصاحب وكان حجم المحروق أكثر من المستغل والذي بلغ إجمالي 2800 مليون قدم مكعبة".
معوقات الاكتفاء
ولفت خليفة إلى أن أسباب عدم الاستثمار في قطاع الغاز يعود إلى غياب الخطط الواضحة لاستغلال جميع أنواعه، كما أن التكلفة عالية، يضاف إلى ذلك نظام المحاصصة السياسي، مما يدفع القطاع النفطي لاتخاذ قرارات سياسية وغير فنية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأكد المتخصص أن تحقيق الاكتفاء الذاتي للعراق من حقوله غير ممكن "لأنه غير كاف في توليد الطاقة الكهربائية، حيث تشير التوقعات إلى إنتاج ثلاثة مليارات قدم مكعبة في حين أن الاحتياج الكلي يقدر بنحو خمسة مليارات".
ولم يقلل المتخصص في مجال النفط والطاقة من أهمية وجود شركات عالمية، لكنه طالب بإدخال شريك حكومي مفضلاً الاتجاه إلى الجهد الوطني لما حققته الخبرة الوطنية من أفضلية في هذا المجال، لكن العقبة الوحيدة التي تواجههم هي التمويل والعجز الكبير في الموازنات.
قبل عامين تم تشكيل لجنة لوضع خطة مركزية لاستغلال الغاز من دون حرق، فارتفع استغلاله لأكثر من النصف حتى وصل إلى 1.6 مليار قدم مكعبة، فيما تهدف الخطة إلى الوصول إلى صفر حرق قبل عام 2028.
ثروة محروقة
يشير باحث الاقتصاد السياسي مصطفى البزركان إلى أن هناك نوعين من الغاز، الأول هو المصاحب لاستخراج النفط ويتم حرقه في العراق منذ عقود طويلة، حيث تحتل البلاد المرتبة الثانية عالمياً بعد روسيا في عدم الاستفادة منه على رغم ما يمثله من ثروة، أما الثاني فهو المستخرج من حقول الغاز ويتم نقله عبر أنابيب للاستفادة منه أو تحويله إلى مسال ليتم نقله بواسطة ناقلات عبر البحار إلى الدول المستهلكة.
البزركان يرى أن العراق بحاجة إلى توجيه الاستثمارات لقطاع الغاز وهو المعلن منذ عام 2005، ولكن ذلك "لم يتحقق لأسباب عدة منها عدم توافر إستراتيجية واقعية للنهوض بصناعة الغاز، بخاصة وهو يمثل عصباً رئيساً في توليد الطاقة الكهربائية".
حقل بن عمر
قامت شركة ربان السفينة وهي أول شركة عراقية تنافس في جولات التراخيص بتشغيل مشروع غاز بن عمر في محافظة البصرة، حيث قال مستشار المشروع منير بوعزيز إنه "إذا كان العراق جاداً بشأن الحد من حرق الغاز المهدر وتقليص وارداته المكلفة من إيران، فيجب أن تكون الأولوية لتطوير حقل بن عمر، لأنه أحد أكثر حقول العراق ثراءً بالغاز، حيث ينتج حالياً من 45 ألفاً إلى 50 ألف برميل يومياً من النفط"، مشيراً إلى أن الحكومة ترغب في زيادة الإنتاج إلى 600 ألف برميل يومياً حتى تكون متزامنة مع إنتاج النفط واحتجاز الغاز.
وأوضح بوعزيز أن أحجام الغاز المتوقعة من حقل بن عمر ستتضاعف تدريجاً، إذ إن "المرحلة الأولى متواضعة نسبياً بواقع 150 مليون قدم مكعبة في اليوم، لكن هذه الكميات ستزداد بمرور الوقت إذ إن المشروع مصمم بشكل أساس لإنتاج 300 مليون قدم مكعبة في اليوم، لكن بعد المعالجة والتجزئة سينتج يومياً 120 مليون قدم مكعبة من الغاز الخام و1000 طن من غاز البترول المسال وأربعة آلاف برميل من المكثفات".
ويرى بوعزيز أن العراق بيئة ملائمة للاستثمار في قطاع الغاز لا سيما بعد توجيهات الحكومة العراقية بأن تكون الشركات المحلية جزءاً من عملية التطوير والتنمية واستثمار الغاز والصناعة النفطية بشكل عام.