في الـ 23 من يوليو (تموز) كل عام تمر الذكرى السنوية لثورة 1952 في مصر التي أطاحت بالنظام الملكي ونفت الملك فاروق الأول إلى إيطاليا ليتحول نظام الحكم في مصر إلى جمهورية رئاسية.
ولا شك في أن الثورة المصرية اصطدمت ببريطانيا ومصالحها الاستعمارية في المنطقة، لا سيما قناة السويس التي أسهمت في تدشينها وكانت خاضعة لإشرافها وتدار من قبلها، باعتبارها ممراً دولياً ذا أهمية عسكرية واستراتيجية واقتصادية قصوى.
ماذا قال البرلمان البريطاني؟
ينقل لنا سجل النقاشات التي شهدها البرلمان البريطاني ومراسلات وزارة الخارجية في الأرشيف الوطني البريطاني، توجهات رجالات الدولة البريطانية وموقف الحكومة من الأزمة التي تصفها الوثائق بأنها بدأت باعتصامات لأفراد الشرطة المساعدة في القناة مطالبين برفع رواتبهم من قبل الإدارة البريطانية، لكنهم واجهوا الرفض وتطورت الأحداث حتى تدخل الجيش المصري وحصل الانقلاب.
"أهمية قناة السويس تتجاوز كل موضوع آخر في مصر والشرق الأوسط، وعملياً ليس لها مثيل أو تشبيه في العالم باستثناء قناة بنما على الأرجح، وهناك فرق شاسع بين الاثنتين، وهناك قاسم مشترك بينهما، إنهما حلقة وصل في حركة المرور الدولية والتجارة العالمية، لكن قناة السويس من وجهة النظر هذه أهم بكثير من قناة بنما، وعندما جرى تصميم قناة بنما للمرة الأولى من قبل شركة ’ديليسبس‘ التي دشنت قناة السويس، جرى تصورها أيضاً كممر مائي دولي سيظل مفتوحاً للعالم أجمع إلى الأبد". (برلمان المملكة المتحدة، مجلس اللوردات: 17 كانون الأول/ديسمبر 1953، غرفة اللوردات في بريطانيا ومصر، العمود 190).
ويشير سجل نقاشات مجلس اللوردات البريطاني في الـ 17 من ديسمبر (كانون الأول) 1953 إلى سخرية أحد اللوردات من أسلوب معالجة الأزمة في مصر عام 1952، "أتذكر أن الجنرال بولفين كان لديه مهمة إيقاف فوضى التخريب التي كانت موجودة في جميع أنحاء مصر، وأتذكر مدى صعوبة المهمة والخسائر فلقد سمعت جنوداً يقولون إنه إذا أردنا أن يكون لدينا موقع قوي في مصر (طبعاً ليس هناك أمة منذ زمن نابليون لم تكن تطمع بموقع قوي في مصر) فسيكون من الأفضل بكثير إرسال جيش ليأخذها عندما نريدها بدلاً من إبقاء جيش يحتفظ بها، وفي بداية العام كانت لدينا دبابات ’سنتوريون‘ في الإسماعيلية ثم توجهت إلى قرية في مكان ما أسفل طريق السويس وفي وقت لاحق لإظهار الحزم، وكانت هناك قوة شرطة إلى جانب قوة من الشرطة المساعدة بنحو 600 من أصل 700، وقد تعرضوا للهجوم من قبل الدبابات في مبنى يسمى مكتب سانيلان، وبعد ساعتين من القتال العنيف ظهر عدد من الرجال معظمهم مسلحون بالبنادق، فقتل 44 ولا يمكن أن يكون لدينا مثال أفضل من ذلك على نوع الحزم الذي أراده اللورد رينيل، فماذا كانت النتيجة؟ وماذا كسبنا؟ وكيف كانت الخاتمة؟ كان هناك إضراب للشرطة، وقالت الشرطة المساعدة إنها لم تكن مستعدة للاستمرار إن لم تكن مدعومة، وعندما أحرقت القاهرة كانت الشرطة تنظر وكل هذا مسجل في الصحافة، وقد أدى نهب القاهرة إلى الثورة وإقالة فاروق وإقامة ديكتاتورية عسكرية في عهد الجنرال نجيب، وأدى إنشاء الديكتاتورية العسكرية وانشقاق شخص كان من المفترض أن يكون أحد أعظم أصدقائنا، عبدالرحمن، إلى خسارة السودان، والآن هذه الديكتاتورية العسكرية التي يدعمها بلا شك الرأي العام بالإجماع أصبحت تطالب بحقوق معينة لبلدها، وأود أن أسأل اللورد رينيل لأنه يتمتع بخبرة كبيرة في الإدارة المدنية بعد الحرب، هل تم التفكير في يناير (كانون الثاني) 1952 أو 1953 أنه يجب علينا إنشاء إدارة في القاهرة والاستيلاء عليها؟".
ونقلت الـ "تايمز" عنه، "يجري وضع خطط للتقدم إلى القاهرة إذا تدهورت الأوضاع هناك أكثر"، وقال إنه يوصي باحتلال القاهرة إن لم تهدأ الأمور، فهل يعتقد أنه يمكننا إعادة احتلال القاهرة والاحتفاظ بالمكانة التي نحتفظ بها في العالم؟ ماذا سيكون التأثير في الهند وماذا سيكون التأثير في باكستان؟ لنفترض أنك منخرط في حرب مع زملائك المسلمين في مصر، طبعاً ستكون حرباً دموية، هل ستقف باكستان في وضع المحايد؟ لا أقول إنها ستتخذ إجراء لكنني متأكد من أنها ستكون متعاطفة، فهل تفترض أنها ستبقى في الكومنولث في ظل ظروف من هذا النوع؟". (برلمان المملكة المتحدة، مجلس اللوردات: 17 كانون الأول/ديسمبر 1953، غرفة اللوردات في بريطانيا ومصر، العمود 200).
نشاطات السفارة البريطانية في القاهرة
بعد حصول الثورة في مصر ونجاحها كانت السفارة البريطانية في القاهرة تتابع الأحداث بدقة، إذ كانت تزود باستمرار مرجعيتها في لندن بآخر التقارير السرية والمافوق سرية التي تتضمن آخر المستجدات الأمنية والسياسية والاقصادية والاجتماعية على الساحة المصرية بغية معرفة لندن بفرص التعامل مع النظام الجديد وإبرام معاهدة مع مصر.
"مذكرة عقد اجتماع لبعض أعضاء السفارة في الـ 30 من يونيو (حزيران) 1953 لمناقشة المسألتين التاليتين، الأولى المدة المحتملة للنظام الحالي وما إذا كان يزداد قوة أو ضعفاً في قبضته على البلاد، والثانية التأثير في استعدادنا أو إجراء مفاوضات أو إبرام معاهدة".
عمر النظام
يبدو أن النظام الحالي يمر بالعملية المعتادة للحكومات المصرية، أي تراجع الدعم الشعبي بعد بضعة أشهر من توليه السلطة، وهناك أيضاً ضغوط وتوترات أخرى بدأت تظهر مثل الخلاف بين نجيب وجمال عبدالناصر، والآفاق الاقتصادية المتردية بشكل متزايد، والسخط المحتمل في بعض قطاعات الجيش، لكن بما أنه لا توجد وسيلة دستورية للتخلص من هذه الحكومة، وبما أن إلغاء الوصاية قد أزال أيضاً الوسيلة الرئيسة للقيام بذلك، فلا يبدو أن هناك سبباً للاعتقاد بأن النظام سيتخلى عن السلطة في المستقبل المنظور طالما ظل الجيش مخلصاً.
ساعد المستشارون الألمان النظام على إنشاء جهاز استخبارات سياسي للتحكم في ولاء كل وحدة، وإذا نجح هذا الجهاز فإن المفاجأة تبدو غير مرجحة، لذلك قد يتم تعديل النظام في هيكله الداخلي وقد تكون هناك تغييرات مختلفة في المستقبل، لكن في حال فشل بعض الانهيار الاقتصادي أو الصدام مع بريطانيا العظمى فسيظل استمرار بقائه لأعوام عدة على العموم المسار الأكثر احتمالاً.
2 - معارضو النظام الذين يتحدثون عن حكومة بديلة لا ينبغي أن يعطوا كثيراً من الصدقية في هذا الوقت، ومن المؤكد أنه ينبغي لنا أن لا نفعل شيئاً علناً لتقويض النظام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
3 - في حين أن الجيش قد زاد بالتأكيد في الحرص واحترام الذات منذ إنشاء النظام في يوليو 1952، فمن المحتمل أنه ليس أداة عسكرية فعالة للغاية، وقد عانى نقل الضباط من واجبات عسكرية بحتة إلى المهمات السياسية والإدارية، لكنه لا يزال قوياً بما يكفي لضمان الأمن الداخلي في البلاد على رغم بعض الشكاوى والتذمر بين الضباط الذين لم تتم ترقيتهم.
4 - بصورة عامة ربما تكون الديكتاتورية العسكرية هي أفضل النظم لمصر ودول الشرق الأوسط الأخرى في حال حدوث تطورات مماثلة، ويضمن هذا النظام وجود سلطة تنفيذية قوية كان غيابها نقطة الضعف الرئيسة في دول الشرق الأوسط خلال الآونة الأخيرة، وقبل كل شيء فهو يضمن الحفاظ على النظام.
مسألة المفاوضات
5 - في ضوء التحليل السابق جرى التوصل إلى الاستنتاجات الآتية:
(أ) لن يكون هناك أي ضرر في الوقت الحاضر من استئناف المحادثات مع الحكومة المصرية إذا كانت نتيجة مبادرة مصرية، ومع ذلك ينبغي ألا نقترح استئناف العمل في الوقت الحاضر، فمن المؤكد أن المصريين ينتظرون رؤية نتيجة مؤتمر واشنطن، ولقد أظهروا علامات على الاقتراب قليلاً نحونا، أي مبادرة واضحة من جانبنا ستزيد سعرها مرة أخرى.
(ب) الخطر قائم من أن يفقد هذا النظام كسابقيه مكانته تدريجياً في البلد ويصبح عاجزاً عن ضمان تنفيذ أي اتفاق قد يتفاوض عليه، وسيكون لذلك تأثير كبير في احتمالات التوصل إلى اتفاق في شأن الشروط الوحيدة المقبولة عسكرياً لحكومة صاحبة الجلالة، ولا يمكننا أن نرى ما إذا كان النظام سيصبح "غير قابل للتفاوض" أم لا عندما نرى مدى نجاحه (على سبيل المثال من خلال السيطرة على الصحافة) في وقف العملية التقليدية للضغوط السياسية الداخلية التي تدفع الحكومة إلى الأنشطة المناهضة لبريطانيا والتعنت، وما لم يكن من الممكن كسر الحلقة المفرغة المعتادة فلن يكون هناك احتمال جيد لنجاح المفاوضات، وقد يتبين أن قدرة الحكومة على كسر هذه الحلقة لا تعتمد على استعدادها للتعامل بلا رحمة مع الصحافة وحسب، بل أيضاً على استعدادها للجمع بين القيادة العسكرية ومشورة الخبراء المدنيين المفيدة، ومن المحبط أنه يبدو في الوقت الراهن أن الفجوة بين القيادة العسكرية والوزراء المدنيين آخذة في الاتساع أكثر من أي وقت مضى، وقد تستلزم تعيين ضباط عسكريين في وزارات أخرى.
(ج) يبدو أن الآراء تختلف في ما يتعلق بالاعتماد على اتفاق بمجرد التوصل إليه، ومع ذلك يبدو من الممكن أن يثبت النظام أنه أكثر قدرة من الحكومات السابقة على تنفيذ اتفاق بمجرد إبرامه، وسيحتاج إلى دعم غربي لبرنامجه للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وقد يكون أكثر تقبلاً للمشورة من كثير من أسلافه، لكنها ستكون في الأساس مساعدة الولايات المتحدة ومشورتها.
هل سيقدم الأميركيون النوع الصحيح من النصائح؟ إذا كان الأمر كذلك فإن الاتفاق الذي سيتم التوصل إليه مع هذا النظام وحده وليس كما حدث عام 1936 مع ائتلاف وطني قد يكون دائماً بشكل معقول، ومع ذلك فمن المحبط وجود بعض الشكوك حول نيات المصريين أنهم يضغطون الآن من أجل التوصل إلى اتفاق يقتصر على فترة قصيرة فقط، وهذا يشير إلى وجود نيات خفية في أذهانهم مما يجعل الاتفاق عديم الفائدة بالنسبة إلينا، وليس من المفيد وجود اتفاق إذا كان المصريون يعتبرونه مجرد نقطة انطلاق لتقليص حقوقنا أكثر عندما سينتهي مثلاً في غضون ثلاثة أعوام، وبدلاً من ذلك سيدفعنا ذلك إلى الوقوف على اتفاق عام 1936، ويجب أن لا نكون في وضع يسمح لنا بالإصرار بشكل فعال على حقوقنا إذا جرى الطعن في اتفاق الحالة (أ).
6 - إن احتمالات نجاح المفاوضات والتنفيذ الموثوق للاتفاق بمجرد التوصل إليه تعتمد إلى حد كبير على استعداد حلفائنا للانضمام إلينا بشكل إيجابي، وأن يكونوا مستعدين لفرض الضغط على المصريين إذا لزم الأمر.
7 - من المحتمل أن يكون التحسن الحالي في موقف الحكومة المصرية تجاه مسألة المفاوضات يرجع إلى مزيج من ثلاثة عوامل:
أولاً، خطاب السير ونستون تشرشل في الـ 12 من مايو (أيار)، وحركة بعض التعزيزات العسكرية إلى منطقة القناة.
ثانياً، موقف السيد دالاس ورئيسي الوزراء الهندي والباكستاني.
ثالثاً، تدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية في مصر، وأخيراً الثقة المتزايدة التي يشعر بها مجلس قيادة الثورة (عن صواب أو خطأ) في قدرته على السيطرة على الوضع الداخلي نتيجة التغييرات الدستورية الأخيرة.
8 - من المحتمل أن يستمر الضمان النهائي الوحيد للمستقبل هو توافر قواتنا العسكرية للتدخل مرة أخرى في مصر إذا لزم الأمر، وينبغي إعادة نشر القوات نتيجة اتفاق مع أخذ ذلك في الاعتبار، لا سيما في الأردن إن أمكن، ويظل هذا صحيحاً على رغم الأخطار التي قد تظهر إذا نشأت الحاجة إلى التدخل فجأة، وهذه الأخطار هي:
(أ) أن المصريين سيحاولون على الفور تخريب القاعدة (أخبر جمال عبدالناصر السفير التركي أنه لا ينبغي للإنجليز العودة أبداً إلا بموافقة مصرية، ولغير ذلك ستكون المنشآت الرئيسية ملغومة).
(ب) أنهم سيحصلون على دعم كبير من الأمم المتحدة في وصمنا بأننا معتدون إذا تدخلنا من دون أسباب كافية.
(ج) أن نشر الخطاب القومي العربي الذي تروج له مصر سيمنعنا في الواقع من تمركز القوات بأعداد كافية في البلدان المجاورة مثل ليبيا والأردن.
9- في ما يتعلق بموضوع العبور الحر لقناة السويس فقد بدا أن هناك انقساماً في الرأي خلال الاجتماع، سواء إذا أردنا إزالة الجزء الأكبر من قواتنا الآن نتيجة الاتفاق الناجح مع مصر لأن المصريين سيتصرفون بسرعة وربما يؤممون القناة، أو ما إذا كانوا سينتظرون حتى انتهاء اتفاق القناة بنهاية عام 1968، ويبدو من المحتمل أنهم في الحال الأخيرة سيفعلون ما في وسعهم من خلال المضايقات والضغوط الصغيرة لجعل الشراكة في القناة أكثر صعوبة، وتسريع "إضفاء الطابع المصري" على الموظفين والتدخل بشكل متزايد في شؤون الشركة قبل وقت طويل من انتهاء الاتفاق.