ملخص
"يوميات" العاشقة الروسية تكشف وجها مضطربا لصاحب "الأبله"
يتناول كتاب "سنوات القرب من دوستوفيسكي: اليوميات، القصة، الرسائل"، تفاصيل العلاقة التي ربطت بين الكاتب الروسي الشهير وأبولليناريا سوسلوفا التي تنحدر من أصول ريفية، وكانت "روسية قحة"، بحسب الناقد الأدبي أركادي دولينين (1880- 1958). والكتاب ترجمه إلى العربية أنور إبراهيم لحساب المركز القومي المصري للترجمة، وهو من تحرير س. ف. باخروشين، وم. أ. تسيافلوسكي.
ويرى دولينين في تقديمه هذا الكتاب أن سوسلوفا كانت روسية شعبية بسيطة، "منشقة" من ناحية عنادها وتمسكها بفكرة واحدة، وكذلك من ناحية "طابعها التسلطي". تعرفت على دوستويفسكي قبل أن ينشر لها قصة في مجلة "الزمن" (صيف العام 1861). كانت تلك القصة - كما يقول دولينين - "ضعيفة للغاية، وبالتالي فإن قراره نشرها لم يكن عن تقييم موضوعي". وعلى أية حال فإن بطلة تلك اليوميات "كانت تتظاهر بأنها فتاة متحررة من الخرافات ومن المعايير السائدة"، لكن عاطفتها كانت "ساذجة"؛ بتعبير ابنة دوستويفسكي.
التقارب بينهما جرى في بطرسبرغ واتخذ طابعاً حميمياً قبل الرحلة الثانية التي قام بها دوستويفسكي إلى أوروبا عام 1863. ولكن ما الذي جعل استمرار علاقتهما أمراً مستحيلاً؟ تكتب سوسلوفا محاطبة دوستويفسكي: "لقد كانت علاقتنا بالنسبة لك علاقات مهذَّبة. كنت تتصرف كشخص جاد. شخص مشغول لا ينسى أن يستمتع أيضاً على أساس أن طبيباً بارزاً و فيلسوفاً قد أكد له أن من الضروري للمرء أن يسكر حتى الثمالة مرة في الشهر".
الأمير والدجال
كانت هناك رغبات متأججة ولحظات حسيّة عارمة لكنها على الأرجح لم تكن سعيدة فيها على الإطلاق، وفي الوقت نفسه كان هناك رجل يمتلك منهجاً صارماً قاسياً. لعله كان في كل مرة يأتي فيها إليها ومعه معاناة لا خلاص منها ويبعث في نفسها إحساساً بالمتعة الخاطئة والإهانة العميقة التي لا تنسى رغم أنها تردد: "أنا لست ممن يتمسكون بالمظاهر والطقوس". كان ينشطر أمامها – بتعبير دولينين، إلى نموذج للمتألق: "الأمير" و"الدجال". اعترفت لزوجها الثاني روزانوف بأنها طلبت من دوستويفسكي أن يطلق زوجته الأولى ماريا ديميتريفنا، لكنه رفض لأنها كانت تحتضر. ويقول دولينين إن يوميات سوسلوفا تنفي تماماً هذه "الأفكار"، كما تنفيها رسالتها إلى دوستويفسكي، وكذلك رسائل الأخير إليها وإلى أختها.
سوسلوفا لم تكن تعيش في بطرسبرغ وإنما في فلاديمير وفي موسكو. سبب الفراق تحديداً يكمن في طبيعة حبه ذاته في تلك الفترة الأولى في بطرسبرغ التي كما يبدو أنه لم يعكر صفوها أي شخص. وها هي ذي الفكرة الرهيبة تظهر مرات عديدة، إذ تشهد سوسلوفا ضد دوستويفسكي في يومياتها لتشتعل لديها أحياناً مشاعر الكراهية، التي لا أساس لها نحوه؛ لتقودها الطرق كلها نحو الزمن الأول لعلاقتهما.
كثيراً ما تتردد في يومياتها، نبرة الشك نحو أفكار عصرها ونحو الذين يؤمنون بهذه الأفكار. كانت سوسلوفا تتفهم دوستويفسكي بصعوبة بالغة. كان يبدو لها شخصاً ذا وجهين: تراه مرة في هالة المثل الأعلى، ومرة من جانبه المظلم، الثقيل، الشهواني. كانت الإهانة أكثر تعذيباً لها باعتبارها امرأة عندما كانت تنظر فترى أن الذي سبَّب لها هذه الإهانة هو هذا الرجل صاحب "الهالة". كان الضوء يتضاءل أمام الظلال السوداء، التي تخرج منه، وكان ذلك أمراً لا يُحتمل.
علاقة وثيقة
من خلال متن هذا الكتاب يمكن القول إن سوسلوفا كانت لسنوات طويلة على علاقة وثيقة بدوستويفسكي، ومثّلت النموذج الأصلي لعدد من شخصياته الروائية النسائية. ثم في ما بعد أصبحت زوجة الناقد والمفكر فاسيلي روزانوف، وكان من أفضل شراح دوستوفسكي. وهكذا لعبت دوراً كبيراً في حياة اثنين من أعظم رجال عصرها. كانت هي ذاتها شخصية بارزة في الحياة الأدبية في زمنها، ستينيات القرن التاسع عشر. كانت قوى خارقة تكمن في روحها بتعبير أركادي دولينين، علماً أنّها كانت لها محاولة غير مكتملة لكتابة القصة.
وتكمن قيمة يوميات سوسلوفا بدرجة كبيرة في وجودها بذاته، بكل ما تضمه من عبارات بدائية، على الرغم من البرودة المتعمدة في نبرتها وغياب "الأسلوب" والنزعة العاطفية الباهتة فيها. وتحت ستار الواقعية المعتدلة، المميز بدرجة كبيرة للمزاج الفكري للعصر، راحت هذه الروح الحماسية المضطربة تبحث دوماً عن ذاتها. عانت بشدة، منذ أن خرجت مبكراً إلى الشارع لتصبح واحدة من أوائل ضحايا فكرة زمانها، الفكرة التي طرحت على نحو ساحر وجذاب أمام الجيل الشاب آنذاك. لقد كانت قوة روحية هائلة، فضلاً عن تمتعها بحساسية فطرية تجاه أصوات العصر، لتخدم بذلك فكرة لم تأت إليها من خارجها، أو وضعها لها آخرون، وإنما تمخضت عنها هي ذاتها لتجعل منها موضوعاً لإيمانها وعقيدتها.
حياة عميقة
ليكن أن سوسلوفا - يقول دولينين - لم تحقق في حياتها أي مجد، ولم تقدم في واقع الأمر أي شيء لمجتمعها: لم تصبح في ذلك الوقت لا المرأة – الطبيبة الأولى، ولا الكيميائية أو المهندسة، ولا هي كانت المؤسسة لأي من الفصول الدراسية في مجال التمريض أو التوليد، بل إنها لم تصبح كاتبة يشار إليها بالبنان، لكنها عاشت حياة طويلة وعميقة: حياة مفعمة لأقصى درجة بالتوتر وقد حملت جسدها وروحها قرباناً للمثل الأعلى الساحر للشخصية الإبداعية الحرة. وفي هذا المعنى ينبغي اعتبارها واحدة من أكثر مَن مثّلوا زمنها على نحو نموذجي. أما باطناً قكانت أقل من الجميع تبصراً وأكثرهم فتوراً، على الرغم من أن "فلسفة العصر" كانت مبنية آنذاك في توافق تام وحتمي "مع الحقيقة التي عرفت لتوها، وهي أن الإنسان ينحدر من سلالة القرد"!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما هو فكانت مشاعره سهلة، واضحة وقوية وبسيطة. ومن ثم كان إحساسها بتلك المشاعر في البداية مكتملاً وسعيداً. على أنّ من البديهي أن الأمر جرى على هذا النحو في البداية فقط. ولكن، ألم تكن سوسلوفا امرأة ذات طبيعة مركَّبة على نحو استثنائي، امرأة متناقضة في كثير من جوانب شخصيتها؛ حتى وهي تعيش في سعادة؟ عندما راحت تتأمل الحياة التي عاشتها في الماضي القريب، أخذت تحكي في يومياتها بإيجاز عن حالتها النفسية في تلك الليالي التي كانت تستيقظ فيها فجأة لتتذكر في فزع ما حدث لها طوال اليوم، فتجري هنا وهناك في أنحاء الغرفة وهي تبكي. كان مرجع الفزع أنه كانت ترى مرة أخرى صورة الوحش تتكرر أمامها على ما يبدو في صورة أكثر بشاعة، الأمر الذي كان يجعلها تتصرف وكأنها تدفعه بعيداً عنها.
في عين الآخر
مرات ثلاثاً رُسمت فيها صورة سوسلوفا بكلمات وأسلوب فريد لأناس لم تكن لديهم الرغبة، بل ولم يستطيعوا أن يتعاملوا معها برصانة كافية، حتى يتركوا لمن يأتي من بعدهم صورة موضوعية لها. وعلى الرغم من تحيزهم، فقد اكتسبت صورتها التي وضعوها بأنفسهم، مصداقية من نوع خاص. يقول فاسيلي روزانوف: "لم أر روسية مثلها. كانت من ناحية روحها روسية تماماً. منشقة دينية، أو ربما أفضل من ذلك؛ السيدة العذراء لجماعة الخليستيين الذين كانوا يؤمنون في القرن السابع عشر بالتوحد مع الروح القدس. لم يكن بإمكانها أن تعفو عن الضعف البشري أو تفهمه، ولا أن تأسى على الإنسان لعجزه. دوستويفسكي قال عنها: "إنها تطلب من الناس كل شيء: الكمال الذي لا تشوبه شائبة، لا تغفر لهم أدنى نقيصة؛ احتراماً لخصالهم الحسنة الأخرى، وهي تعفي نفسها من أبسط الواجبات تجاه الناس، إنها توبخني بحجة أنني لم أكن أهلاً لحبها. إنني مازلت أحبها حتى الآن (19 ابريل 1869) أحبها بشدة، ولكنني وددت لو أنني لم أحبها... إنني أشفق عليها لأنني أتوقع أن تكون تعيسة إلى الأبد، وأنها لم تجد في أي مكان صديقاً لها أو تحصل على السعادة. إنها لا تسمح بالمساواة في العلاقة بيننا، وترى أن من الفظاظة أنني تجرأت بالحديث إليها وأنني على سبيل المثال أعبر لها عن شعوري بالألم. إنها تنظر إليَّ من عل. لقد شعرتْ بالإهانة لأنني أردت في النهاية أن أعبر لها عن مكنون نفسي، أن أشتكي لها، أن أعارضها".
جاء ما سبق في رسالة كتبها دوستويفسكي عندما بات قاب قوسين أو أدنى من أن يفترق نهائياً عن سوسلوفا، وهو الأمر الذي لعبت هي فيه الدور الرئيسي. على أن عامين آخرين سيمران حتى يصبح هذا الفراق أمراً واقعاً، ليطيب لديستوفسكي بعدها نفساً، عندما يرسل له القدر في النهاية شريكة حياة شابة، زوجة لينة العريكة، توقره وتجله، هي أنَّا غريغويفنا. عندئذ ترتسم من جديد ربما للمرة الأخيرة صورة سوسلوفا، وتعاد فيها ملامح شخصيتها نفسها ، وربما بالكلمات نفسها تقريباً، ولكن في ضوء تأويل مغاير تماماً. إن ما كان ينبغي أن تلام عليه هنا هو أنها وصلت إلى أقصى درجات التطرف الأخلاقي، الذي تمثل في "عدم قدرتها على أن تغفر للناس أي نقيصة فيهم"، بحسب دولينين.