ملخص
من يستمع إلى موسيقى خاتشادوريان يكتشف بسرعة أنه كان على حق، وفي الأقل بالنسبة إلى مراحل إنتاجه التي تبدأ مع عام 1934
كان عام 1943 حافلاً وبائساً في مسار الموسيقي الأرمني السوفياتي آرام خاتشادوريان، إذ على رغم أنه كان المكلف رسمياً وضع عمل موسيقي كبير احتفاء بالذكرى 25 لقيام ثورة أكتوبر (تشرين الأول)، لم توفره الانتقادات الرسمية لا هو ولا زملاؤه شوستاكوفتش وبروكوفييف وحتى رخمانينوف في منفاه، الذين ستطالهم عصا جدانوف الغليظة والمستندة إلى دعم مطلق من ستالين.
ومن هنا لأن خاتشادوريان كأرمني حقيقي وأيضاً كبريختي من طراز رفيع، آثر أن ينحني أمام العاصفة في انتظار أن تحين ساعته. ولقد شعر أنها حانت بالفعل بعد سنوات وتحديداً في عام 1953 يوم مات ستالين وزال عهده القامع خصوصاً لحرية الفن، لكن خاتشادوريان آثر أن يكون ثأره ذكياً. من طريق إبداع عمل لا يبتعد كثيراً عن الخط "الرسمي" لكنه يعود إلى الجذور الثورية التي كان الرسميون الستاينيون قد نسوها.
ومن هنا كان تلحينه الرائع لباليه "سبارتاكوس" في "انسجام مع الالتزام "الماركسي – الشيوعي"، لكن بالتعارض مع ما كان قد بدأ يعتبر "نسفاً للبعد الثوري"، من قبل مبدعين أحسوا أن زوال شبح ستالين قد حررهم وهو إحساس سيتعزز مع "تقرير خروتشيف في المؤتمر 20 للحزب الشيوعي السوفياتي" قبل أن يعود كل شيء لينهار أمام عنف الحرب الباردة، لكن هذا موضوع آخر طبعاً.
باليه راقص للثأر
موضوعنا هنا هو هذا الباليه الذي سيتضح لاحقاً أن خاتشادوريان إنما استخدمه ليثأر من جمودية العهد البائد. وليس أدل على ذلك من كونه قد سرع في تلحينه صيف عام 1953 قبل 70 سنة من اليوم، كما ليس ثمة ما هو أدل على ذلك من كون الرقابة -حتى في زمن نزع الستالينية المبكر– لم تسمح بعرضه الأول إلا عام 1956 بالتواكب مع المؤتمر الحزبي المذكور وتحديداً لكونه من إمارات "نزع الستاينية".
الباليه يدور وكما يعرف كثر منا حول حياة وآلام سبارتاكوس زعيم انتفاضة العبيد ضد الرومان المعروفة بحرب العبيد الثالثة، حتى وإن كان خاتشادوريان قد حور في الأحداث التاريخية كي يدرك جمهوره مراميه "الراهنة".
يدور موضوع الباليه الذي صممه ليونيد جاكوبسون إذن، من حول الثورة التي قادها الثائر سبارتاكوس متزعماً العبيد المنتفضين، لكنه يروي الحكاية من دون أن يهتم كثيراً بأن يكون بالتالي متماشياً في ما يرويه مع الحقائق التاريخية، وذلك لأن ما يريد قوله هنا ليس متعلقاً بالماضي التاريخي بل بما حدث ويحدث في القرن 20.
هذا ما أدركه القائمون على السلطات الثقافية ملاحظين من خلال الموضوعية التي اختارها الموسيقي الأرمني وشفافيتها، كم أنه يوجه سهاماً قاسية إلى الذين تواطؤوا ضد سبارتاكوس وثورته وبالتحديد منذ "الخيانات" التي أدت إلى وأد الثورة السباركية بقيادة روزا لوكسمبورغ وحزبها تاشيوعي المسمى بالتحديد سبارتاكوس، عام 1919، بعد الهزيمة الألمانية في الحرب العالمية الأولى.
ذوبان الجليد
علامة على "ذوبان الجليد". ومن هنا لا شك أن جائزة لينين للتأليف الموسيقي إذ أعطيت لخاتشادوريان في عام 1954 وعامان قبل تقديم العرض الأول للباليه، إنما كانت مؤشراً سياسياً على ما سيسميه إيليا إهرنبرغ "ذوبان الجليد" مع انتهاء عهد ستالين تلك النهاية المذلة. ومهما يكن من أمر ظل الانتظار سيد الموقف حتى العرض الفعلي للباليه الذي انطلق آخر ديسمبر (كانون الأول) 1956 على خشبة مسرح مارينسكي العريق في لنينغراد معلناً إعادة الاعتبار الشاملة لفن خاتشادوريان قبل أن يبدأ الباليه بالتجوال في المدن والبلدان والقارات متواكباً مع السمعة الجديدة التي باتت للإبداع السوفياتي وإشارة لا تخطئ إلى نهاية ستالين وجدانوف في المجال الفني واستعادة "الثورة الحقيقية" في الفنون مسارها الذي كان قد انطلق مع حماسات "ثورة أكتوبر 1917".
رعب الزمن الستاليني
أما "إعادة الاعتبار" لخاتشادوريان فترتبط بالطبع بالحكاية السابقة على ولادة باليه "سبارتاكوس"، عندما "جرؤت" اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي، تحت تأثير من جدانوف، على اتهام الثلاثة الكبار من الموسيقيين السوفيات، بالنزعة البورجوازية والتأثر بالغرب، فكان آرام خاتشادوريان، أكثر الثلاثة دهشة لذلك الاتهام، إذ لئن كان من غير المثير للدهشة توجيه تلك التهمة إلى الاثنين الآخرين: شوستاكوفيتش وبروكوفياف، فإن خاتشادوريان، ثالث الثلاثة، لم يكن في الإمكان اتهامه بذلك، هو الحائز مرتين على جائزة ستالين، وكاتب موسيقى النشيد الوطني للجمهورية الأرمنية السوفياتية، والممجد للذكرى الـ25 لقيام الثورة البولشفية كما نوهنا، في واحد من أجمل أعماله ("السمفونية الثانية" - 1943)، لكن آرام خاتشادوريان صمت في ذلك الحين ولم يرد على اللجنة المركزية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بعد ذلك بسنوات، وبعد رحيل ستالين وزوال الجدانوفية، بدأ الموسيقي الأرمني الكبير ثأره، وراح يصب جام غضبه على متهميه، مؤكداً أن تهمته الحقيقية بالنسبة إليه لم تكن نزوعه البورجوازي والغربي، بل العكس تماماً: اهتمامه بالموسيقى الشعبية الأرمنية ونزعته القومية "الشعبوية" وشرقيته.
الحال أن من يستمع إلى موسيقى خاتشادوريان يكتشف بسرعة أنه كان على حق، وفي الأقل بالنسبة إلى مراحل إنتاجه التي تبدأ مع عام 1934 حين كتب سمفونيته الأولى التي طعمها بكثير من التراث الشعبي الأرمني، لكن أيضاً بالتراث التركي والجيورجي والأذربيجاني.
قبل ذلك، كان خاتشادوريان متأثراً ببرليوز ثم برافيل، لكن هذا التأثر الذي طبع سنوات تأليفه الأولى، كان هو بالتحديد ما قاده إلى التراث الشعبي القومي الخاص بالمنطقة التي ينتسب إليها.
أرمني من جورجيا
آرام خاتشودريان الذي رحل عن عالمنا عام 1978، كان ولد قبل ذلك بثلاثة أرباع القرن في تبليسي عاصمة جيورجيا، من أسرة أرمنية كانت تقيم هناك، مثله في ذلك مثل مواطنه السينمائي بارادجانوف، الذي كثيراً ما يشبه به، واحد في مجال الموسيقى والثاني في مجال السينما، حيث إن الاثنين تشبعا باكراً بمبادئ الثورة الشيوعية، إضافة إلى نهلهما من التراث الأرمني - الجيورجي المشترك، بعد تأثر بالغرب طال سنوات عملهما الأولى.
منذ طفولته اتجه خاتشادوريان، كما لا بد أن نذكر هنا، إلى الموسيقى حيث درس أولاً في "غنيزيني" ثم في المعهد التربوي في موسكو، لكن لم يكن ذلك إلا بعد فترة تردد دخل خلالها جامعة موسكو ليدرس البيولوجيا. غير أن السنوات التالية وشغفه بالعزف على البيانو، حددت مستقبله، خصوصاً وأنه في كونسرفتوار موسكو التقى الأستاذ مياسكوفسكي، الذي كان أول من اكتشف المواهب الخفية لدى ذلك الفتى الأرمني. وهكذا من مجرد عازف على التشيلو (الذي سيكتب له خاتشادوريان لاحقاً، كونشرتو كان من أروع إنتاجاته)، تحول الفتى بالتدريج ليصبح واحداً من أكثر المواهب وعداً.
وكان أن تعهده أستاذه وراح يشجعه وأثمر ذلك بالفعل. ومنذ تخرجه في المعهد، بدأ آرام خاتشادوريان يكتب أعماله المتلاحقة. وكان أول ما لفت الأنظار إليه كونشرتو كتبه للبيانو في عام 1936. غير أن انطلاقته الكبرى كانت مع موسيقى باليه "غاياني" التي كتبها في عام 1942، وتضمنت موسيقى "رقصة السيف" الشهيرة التي ستقتبس وتقتبس بعد ذلك من دون هوادة.
إحساس قوقازي
مهما يكن في الأمر، خلال تلك السنوات راحت شهرة خاتشادوريان تتزايد، وصار يعتبر واحداً من ألمع الموسيقيين السوفيات، ثم أتت سيمفونيته الثانية لتعزز مكانته الرسمية في موسكو، في وقت كان بدأ يخف لديه فيه تأثير برليوز والغربيين، وصارت موسيقاه أشبه بأنطولوجيا للموسيقى الشرقية، تعمر بجمل قوية وبتعبيرات كان من الصعب العثور عليها خارج ذلك الإحساس القوقازي الذي كان يغمره. وحسبنا اليوم، للتيقن من هذا، أن نستمع إلى الحركة الثانية من السيمفونية الثانية وإلى معظم الأجزاء المتتالية السيمفونية "ماسكاراد" (1944) التي وضعها انطلاقاً من نص للشاعر ليرمنتوف.
وسيواصل خاتشادوريان طريقه على ذلك النحو على رغم العقبات البيروقراطية واتهامات اللجنة المركزية. وهو سيصل إلى ذروة جديدة في عام 1953، حين كتب باليه "سبارتاكوس" الذي أعاد للحياة باليه قديم كان كتبه عام 1939 بعنوان "السعادة". وسيكرس عالمياً مع سيمفونيته الثالثة، ثم بخاصة مع كونشرتو للتشيلو، كتبه ويشبه كثيرون قوته بقوة كونشرتو دفوراك للتشيلو. وحتى اليوم لا تزال موسيقى خاتشادوريان أكثر حيوية من موسيقى أي من معاصريه، تغري قادة الأوركسترا والعازفين وتطرب الجمهور.