ملخص
ثقافة "المول العظيم" تسود والنزهات في الطبيعة عادة غريبة عن الجيل الجديد
شهد المجتمع تحولاً على مستوى النزهة من تلك التي كانت تحت عباءة الجماعة، وعلى تماس مباشر مع الطبيعة، وضفاف الأنهار في بردى والبردوني وشط العرب ودجلة والفرات وحوض النيل، وغيرها من المناطق التي تغنى بها الشعراء، إلى تكريس مكانة "المول" بوصفه مكاناً للقاء الرغبات المختلفة، فهو يشبه "البازار" في سعة حيزه الجغرافي، إلا أنه امتلك مدلولاً آخر يتجاوز التبادل والمعاملات بالمعنى التقليدي إلى اعتباره مكاناً تزدحم فيه مختلف أشكال الترفيه والمتعة.
تحفل ذاكرة كبار السن بتلك اللحظات السعيدة التي لا يكفون عن سردها. عندما كانت تقضي العائلة أجمل الأوقات على ضفاف الأنهار، وفي أحضان الطبيعة، وفي الواحات. ولا يخلو بيت عربي من سرديات "الجمعة العائلية"، و"السيران في أحضان الغوطة". كانت لحظات مليئة بالمشاعر والأحداث التي شكلت الهوية و"الذاكرة الجمعية" لجيل بأكمله.
تعود السيدة رهام ستة عقود إلى الوراء، تفتش في خزائن الطفولة عن لحظات رافقتها البسمة. وتعود لتروي عن اجتماع العائلة بكامل أفرادها من أجل الذهاب إلى البرية أو النبع أو ضفة البحيرة. وتلفت "كنا في كل أسبوع نستكشف مكاناً مختلفاً من لبنان، وكان المشوار يتأثر بالأحوال الجوية، والقدرة المادية من مزيارة إلى بشري وحمانا وبعلبك وصولاً إلى عرسال. ففي كل مكان من تلك الأماكن ذكرى وحادثة لا تنسى". وتضيف "كانت المساحات الخضراء تتحول إلى واحات للعب والركض، وكان تسود أجواء التنافس بين الرفاق"، "كانت لتلك الحقبة ألعابها الخاصة التي يغلب عليها الجهد البدني والفكري، حين كنا ننقسم إلى مجموعات، وننتقل من موقع اللاعب إلى المشاهد، وهكذا دواليك. البعض كان يقفز بالحبل، فيما يلعب آخرون بالمضرب والريشة الطائرة أو الغميضة، ناهيك بالسباق والقفز فوق العوائق والسباحة، وكانت الكلل سبباً دائماً للعراك".
تتحدث السيدة التي أصبحت اليوم جدة لثلاثة أطفال بلسان أبناء جيلها "لم تكن الألعاب مؤمنة بأعداد كبيرة، فقد كان أهل القرية ملزمين بما يجدونه في دكان الضيعة، وعليهم الانتظار أسابيع وأحياناً أشهراً في انتظار صاحب الدكان، ليحضر الألعاب والمزامير والبالونات، لذلك كان الشباب يبدعون في صناعة القوس والنشاب وأدوات المنازلة بصورة يدوية". في تلك النزهات كانت تحضر أجواء الفن والطرب، تستذكر "أحياناً كانت العائلة تستعيض عن (الدربكة المثقوبة) - الطبلة - ببعض الأواني، ولا يمكن نسيان الأصوات الشجية، وورديات الزجل، وقصص الفروسية التي يرويها كبار السن لإشعال حماسة الحاضرين"، "كما كانت مناسبة لقطاف الزعتر، وبعض النباتات العطرية المفيدة للصحة".
تعتقد رهام على غرار كثير من كبار السن أن "كل شيء اختلف، وكانت لحظات الماضي أجمل لأنها كانت مليئة بالحب والصحة"، لذلك "تصر في بعض الأحيان على اصطحاب الأطفال إلى البستان لمشاهدة فراخ الدجاج، أو المشاركة في قطاف الثمار لإبعادهم عن الهواتف".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"المول العظيم"
تشكل تسعينيات القرن الماضي بداية القطيعة مع النزهة الجماعية، فقد بدأ "المول" بفرض ثقافته وأخلاقياته في أنحاء العالم العربي. وبات يمثل ذاك المكان العظيم، الذي يحاكي القصص الخيالية القادمة من ألف ليلة وليلة، حيث تجتمع كل وسائل الإبهار التي تخاطب الحواس. ويرتبط ظهور "المول" بعمليات التحديث واسعة النطاق في أنحاء العالم العربي. وبات يشكل المكان المفضل لشريحة واسعة من الجيل الجديد، فهو مكان يخاطب اهتماماتهم وثقافاتهم ورغباتهم. بحسب أحد الآباء "نقترح على أبنائنا الذهاب في رحلة برية أو الذهاب إلى الجرد، ولكننا نجابه بالرفض في أكثر الأحيان"، مؤكداً حضور السؤال الدائم "هل هناك إنترنت في ذاك المكان؟". ويقول "يكرر الأطفال مطلبهم بالذهاب إلى (المول)، لأنه مكان مكيف، ويمكنهم شراء ماركات ملابس شهيرة وتناول الطعام، أو حتى الاستمتاع بألعاب الفيديو الضخمة والمتطورة"، شاكياً الكلفة الكبيرة التي يتكبدها "ففي بعض الأحيان تساوي فاتورة ألعاب الأطفال مبلغاً كافياً لتأمين الحاجات الأساسية لأسرة بأكملها".
من جهتهم، يعبر المراهقون عن تفضيلهم "المول" لأنه "مكان متجدد" و"غني بالأفكار"، ويزخر بكل جديد، كما "يمكنهم العثور على كل ما يحتاج إليه في مكان واحد"، و"هو أفضل مكان للهرب من حر الصيف، وممارسة أنشطة مختلفة ضمن محل مكيف".
لا يتوقف الترفيه عند حدود "المول"، بل هو مسار تطوري وباستمرار، حيث تزداد الفعاليات المبهرة والأماكن التي تؤمن الترفيه والمتعة، ودائماً بقالب بصري مدروس للغاية، وهي أمور تحاكي ثقافة الجيل الجديد. وهذا المد هو مد عالمي، فهي أماكن تؤمن الحرية للأفراد في ممارسة ما يشاؤون من أنشطة، وخدمات تراعي مختلف الأعمار والأجناس والاهتمامات تحديداً خلال عطلة نهاية الأسبوع.
من الجماعة إلى الفرد
يقرأ علم الاجتماع في التحولات التي طرأت على النزهة العائلية، فهي في قلب صيرورة التغير الاجتماعي المستمر، وأبعد من القراءة السطحية للأمور التي تقوم على فكرة ثنائية: القديم والحديث، وصراع الأجيال. توصف مهى كيال المتخصصة في الأنثروبولوجيا الاجتماعية ما يجري على مستوى النزهة العائلية بـ"الانتقال نحو المجتمع الفرداني في ظل الانتقال من العائلة المجتمعة في مكان محدد وتمارس أنشطة مشتركة في آن، إلى الأنشطة الخاصة بكل شريحة من الشرائح المختلفة".
تسلط كيال الأنظار إلى نقطة مهمة تساعد في فهم التحولات الطارئة، وتقول "نحن لسنا أمام ثنائيات، وإنما أمام تحولات دائمة، وعلى رغم هيمنة ثقافة الاستهلاك فما زالت هناك شريحة متمسكة بالنزهة في شكلها التقليدي. وهذا يؤكد أننا بتنا في ظل (الجماعات الاجتماعية) وليس مجتمعاً موحداً، لكل جماعة منها خصائص وهوية مختلفة".
في عالم "المول"، "يظهر الفصل التام بين الفئات ذات الخصوصية، فنجد أن الشبان يمارسون أنشطة خاصة بهم، وكذلك الشابات، فيما يستقل هؤلاء أيضاً عن الأنشطة التي يفضلها الآباء والأمهات، وذلك في حد ذاته، يشكل اختلافاً جوهرياً عن النزهة في صيغتها التقليدية، التي كانت تحصل في أماكن مخصصة ضمن المدن الصغيرة الحجم. أما في الزمن الحالي، ومع اتساع نطاق المدن، والانتقال إلى المجتمع الاستهلاكي، فتكرس الطابع الفردي، مستفيداً من الضخ على مستوى وسائل التواصل، والسيل الدعائي والإعلاني، وصور نمطية مختلفة بالكامل عن الماضي، إضافة إلى مخاطبة الحواس بأساليب العرض والتسويق. ناهيك بانحسار القرية ومعالم المجتمع الزراعي بالمعنى التقليدي، والاختلافات الجينية بين الآباء والأبناء، والحضور الجسدي لا الفكري أثناء اجتماع العائلة".
النزهة في وجوه مختلفة
تستذكر مهى كيال المناطق الخاصة بالنزهة في المدينة العربية، والتي كان يجتمع فيها أبناء المدينة خلال فصول معينة، ومن أجل إحياء بعض المناسبات الرمزية والأعياد مثل "أربعاء أيوب". ففي مدينة طرابلس اللبنانية كان الأهالي يقصدون "الشلفة" وهي منطقة مطلة على النهر من أجل التنزه، وكذلك بساتين الليمون أثناء فصل الربيع تحديداً من أجل الاستمتاع بالمناظر وقطف زهور "الدويك". أما في فصل الصيف فكان الأمر مختلفاً، حيث تذهب العائلات إلى الميناء على شاطئ البحر المتوسط، كما كانوا يجتمعون في المقاهي التي تشرف على نهر أبوعلي، وكانت تزدحم المدينة بالنزهات العائلية.
تشير كيال "في الماضي كان يغلب على النزهات والألعاب الجانب الجماعي والجهد البدني في ظل المجتمع التقليدي. أما في المجتمع الفرداني فتنشأ منظومة قيم مختلفة، واختلاف مفهوم ومعايير وأسلوب التواصل. ولا يمكن إصدار تقييمات تعطي الأفضلية لحقبة زمنية على حساب الأخرى، لأن لكل مجتمع بنية فكرية وأدوات وأساليب عيش مختلفة". وتتحدث عن اختلاف إضافي على مستوى مفهوم "الجسد"، "في السابق كانت النساء الكبار في السن يمارسن لعبة القفز بالحبل، أما اليوم فحل مكانها الانتقال إلى الرياضة في المراكز المتخصصة بسبب التبدلات التي فرضتها الآلة".
ترى كيال في مائدة الطعام مؤشراً إضافياً إلى الاختلاف، إذ "أصبح لكل فئة العالم الخاص بها، ولم تعد العائلة تجتمع من أجل تناوله في النزهة أو في المنزل"، "كما يتبدى ذلك في طرق الاستهلاك، ففي السابق كان هناك المونة المنزلية، وعلاقة مباشرة بين الفلاح والأرض، أما اليوم فأصبح كل شيء بعيداً، ويلعب السوبر ماركت دور الوسيط"، كما تتطرق إلى "فائض التصنيع الذي قضى على النشاط الحرفي اليدوي"، و"هذا كرس مكانة المولات في الثقافة الشعبية لأنها باتت ضرورة لشراء الحاجات".
تطور مستمر
جاء ما سبق ليؤكد الانتقال من العلاقات ذات الطابع الجماعي إلى العالم الاستهلاكي، أي إن العلاقات تأثرت بصورة مباشرة بنمط الإنتاج والحياة التي يعيشها الفرد. ويقود التطور إلى توقع "انتهاء حضارة المول" أيضاً، مع اتساع نطاق المتاجر الرقمية من جهة، وسيادة الأشكال الحديثة للتواصل من بعد، والأنماط الجديدة للحصول على المتعة وقضاء الأوقات في ممارسة الألعاب الإلكترونية. لا تستبعد كيال ذلك، فهذه الظواهر نشأت في ظروف تاريخية معينة وتختلف مع تطور الأمور، لأنه "كما حل (المول) مكان النزهة في الطبيعة، يمكننا توقع الانتقال إلى الحياة الأون لاين عبر الشبكة، وفي ذلك تحول كبير وسريع ومستمر، وسنشهد تطورات أسرع مع بروز الذكاء الاصطناعي، ومستوى الصناعة والتصنيع، وشكل المدينة ووظيفتها".