Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

التحوط في مصر طوق إنقاذ "تحويشة العمر" من فخ الأزمة

تنوعت أشكاله بين اكتناز الذهب والدولار وشراء الشهادات الادخارية ومتخصصون يرونه ثقافة من رحم التجربة

لم يمضِ فعل التحوط على نسق واحد إذ تعددت أشكاله وصوره بين شراء الذهب وحيازة الأسهم وشهادات الادخار المصرفية (أ ف ب)

ملخص

طوال 16 شهراً اختبر المصريون أشكالاً من التحوط وحفظ القيمة صوناً لمدخرات اصطلحوا على تسميتها بالعامية الدارجة "تحويشة العمر"، فكيف فعلوا ذلك؟

في دفتر أوصاف المصريين، يحظى "الحويط" من الناس بسمعة جيدة، وهو تعبير عامي شائع يرادف في المخيلة الجمعية الشخص الماهر الحذق الحذر الذي يحتاط للشيء ويحسب حساب كل خطاه بدقة، فلا يرفع قدماً حتى يرى موضع الأخرى.

وطوال 16 شهراً اختبر المصريون أشكالاً من التحوط وحفظ القيمة صوناً لمدخرات اصطلحوا على تسميتها بالعامية الدارجة "تحويشة العمر"، تعبيراً عن الشقاء في الجمع والتكسب. وشكلت أزمة البلاد الاقتصادية وعي العامة بثقافة التحوط، ونبهت العقل الجمعي بأهمية الممارسة.

وأمام ثلاثة انزلاقات في سعر صرف الجنيه أمام الدولار وتضخم شره آتٍ في معظمه من الخارج منذ مارس (آذار) 2022، لم يجد معظمهم بداً من الاحتماء بملاذات آمنة كان آخرها الاحتفاظ بالجنيه على حالته المادية كما هو دون تغيير.

وأنفقت القاهرة وبنكها المركزي مليارات من الدولارات منذ تحرير سعر الصرف في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، على تدعيم المركز المالي للجنيه المصري أمام نظيره الأميركي، عبر تنفيذ عمليات البيع والشراء عند مستوى 15.77 جنيه للدولار الواحد، في تعويم مدار ومحكم قبل أن تضطرها ظروف عالمية إلى السماح بتخفيض آخر في العملة المحلية بحلول مارس 2022، ثم خفضين تاليين.

غلفت الحيرة حديث الزوجين رحاب إبراهيم وناصر عبده في شأن ما إذا كانا سيبادران بشراء ما تحتاج إليه ابنتهما من "الشوار" أو الأجهزة الكهربائية اللازمة لتأسيس بيت الزوجية قبل ارتفاع أكبر في الأسعار أم سينتظران طرح أحدث الأجهزة، بخاصة أن ابنتهما لا تزال في التعليم الثانوي.

كما تقول لـ"اندبندنت عربية" تتبنى رحاب إبراهيم وجهة نظر تقوم على شراء مشغولات ذهبية بما لديها من السيولة النقدية على أن تعاود تسييلها بالبيع عند شراء ما تحتاج إليه ابنتها قبل الزواج بأشهر، في حين يتمسك الزوج بالشهادات الادخارية التي طرحتها البنوك المصرية بعائد مرتفع، وبدورية صرف شهرية ينتفعان بها على أن يظل أصل المال كما هو لحين موعد استحقاقه.

يجمعهما على رغم الخلاف اتفاق على ضرورة تحويل مدخراتهم من هيئتها النقدية المتقلبة إلى منتجات أخرى أكثر استقراراً، وهو مذهب أكثر المصريين اليوم، ومن بينهم أيضاً إبراهيم السيد، موظف بأحد البنوك.

وبباع طويل في العمل المصرفي فطن إبراهيم السيد إلى شأن الفائدة السلبية التي قد يتحصل عليها من شراء الشهادات الادخارية التي يطرحها مصرفه ومصارف أخرى، نتيجة لارتفاع معدلات التضخم في البلاد بشكل يفوق الفائدة المقدمة على المنتج المصرفي، وقد استقر على شراء الذهب، بالنظر إلى محدودية من المال لديه حالت دون تحقيق بغيته بشراء عقار، كما يقول لـ"اندبندنت عربية".

تحوط واحد وطرق مختلفة

لم يمضِ فعل التحوط على نسق واحد، فقد تعددت أشكاله وصوره بين شراء الذهب وحيازة الأسهم وشهادات الادخار المصرفية ذات العائد المرتفع، في حين احتفظ العقار بوجهة المتحوطين الثقال ممن يتمتعون برؤوس أموال أكبر في البلاد.

وأمام تباين أداء الأوعية الادخارية وارتفاع التضخم في البلاد إلى مستويات قياسية تجاوزت بعض العوائد المحققة، لم ينجح التحوط في حفظة القيمة كل مرة، فقد انتكس البعض وأصاب آخرون في شأن اختيار الوجهة المثلى لمدخراتهم.

ويجمع المتخصصون على أن التحوط على اختلاف أشكاله، كان رد فعل طبيعياً للقلق الذي انتاب المصريين، تجاه تآكل مدخراتهم وتراجع قيمة العملة المحلية على هيئتها السائلة النقدية، وهو ما دفع نحو توجيه تلك المدخرات نحو أوعية ادخارية واستثمارية لحفظ القيمة، وقالوا لـ"اندبندنت عربية" إن العام ونصف العام الماضي شهد تنامياً لثقافة التحوط، وممارسة ملحوظة له من جانب الأفراد والمؤسسات، في إجماع عام على أن تبعات ترك المدخرات على صورتها النقدية مؤلمة وذات كلفة اقتصادية.

ينظر رئيس بنك التنمية الصناعية السابق ماجد فهمي إلى التحوط باعتباره أمراً طبيعياً ناجماً من القلق لدى الأفراد والمؤسسات، في ظل عدم وضوح الرؤية الاقتصادية، ومن أشكاله اكتناز الذهب وشراء الشهادات والأسهم وأذون الخزانة (أدوات الدين الحكومية) والعقارات، وأيضاً الدولار، مشيراً إلى أن الأخير في ظاهرة "الدولرة" هو لب المشكلة.

يتحدث ماجد فهمي لـ"اندبندنت عربية"، في شأن التحوط كرد فعل للقلق من تآكل المدخرات وتراجع قيمة العملة المحلية. ويلفت إلى إقبال المصريين القياسي على الذهب في الآونة الأخيرة باعتبار المعدن استثماراً آمناً بدرجة كبيرة، وهو اتجاه الدول أيضاً وبنوكها المركزية، كما يقول في فترات عدم اليقين الاقتصادي، وهو وعاء ادخاري يناسب الجميع، بخاصة أصحاب المدخرات المحدودة، على النقيض من العقارات التي تتطلب رؤوس أموال ومدخرات أكبر كوجهة محتملة لحفظ القيمة.

ويلفت ماجد فهمي إلى استثمار غالبية الأفراد في الشهادات الادخارية ذات العائد المرتفع في ظل ارتفاع أسعار الفائدة على الإيداع من جانب البنك المركزي المصري، ويشير إلى أن الشهادات كمنتج مصرفي ووعاء ادخاري ظلت ذات شعبية تتمتع بشعبية كبيرة في أوساط المتحوطين، بخاصة كبار السن وأصحاب المعاشات (المتقاعدين) إذ إن دورية صرف العائد تتناسب ودخول تلك الفئة الشهرية، فتعينهم تلك العوائد الدورية على تدبير شؤونهم المعيشية في ظل التضخم المرتفع.

شهادات الادخار شعبية واسعة

على إثر زيادة بلغت 11 في المئة على أسعار الفائدة من جانب البنك المركزي المصري منذ مارس 2022، رفعت البنوك المصرية أسعار العائد أكثر من مرة على منتجاتها المصرفية، وبخاصة الشهادات منذ مارس من العام الماضي، وفي الصدارة منها البنكان الحكوميان، "الأهلي المصري" و"مصر"، وجمع الأخيرين في شهادة الادخار ذات العائد 18 في المئة 750 مليار جنيه (24.23 مليار دولار)، ثم عاودا مطلع العام الحالي، طرح شهادة أخرى بعائد 25 في المئة جمعت 500 مليار جنيه (16.15 مليار دولار)، وعاودا الكرة ثالثاً بطرح شهادتين بعائد 19 و22 في المئة في أبريل (نيسان) الماضي، وجمعا 340 مليار جنيه (10.99 مليار دولار) حتى يونيو (حزيران) الماضي، بحسب تصريحات مسؤولين في البنكين. وانضمت بنوك القطاع الخاص في مصر إلى ماراثون شهادات الادخار ذات العائد المرتفع، لكن ظلت حصيلتها غير معلومة.

ويقول المتخصص المصرفي إن المصريين لجأوا بشكل كبير إلى التحوط في ظل حديث تقارير دولية وإعلامية عن تعويم مرتقب في سعر الجنيه المصري أمام الدولار، وهو ما يثير مخاوفاً في شأن فقدان قيمة المدخرات النقدية، ويدفع نحو البحث عن ملاذات آمنة لحفظ القيمة، وفي ذلك ينصح الأفراد بالتنويع، عبر توزيع المدخرات على أوعية ادخارية مختلفة من قبيل الذهب والشهادات والأسهم والعقارات، وذلك للحيلولة دون خسارة تلك المدخرات حال تأثر أي وعاء.

وتقف أزمة العملة في البلاد كأحد أسباب موجات الغلاء التي يعيشها المصريون، إذ هبط سعر الجنيه المصري رسمياً أمام الدولار الأميركي من مستوى 15.75 للدولار الواحد في مارس 2022 وصولاً إلى متوسط 30.85 للدولار في أغسطس (آب) الجاري، في حين احتفظت السوق السوداء بأسعار أكبر للدولار عند مستوى قريب من 40 جنيهاً (1.29 دولار بالسعر الرسمي) في المتوسط.

وأضعف شح الدولار من القيمة الشرائية للجنيه المصري عقب دورة التشديد النقدي التي مارستها البنوك المركزية، وفي مقدمتها مجلس الاحتياطي الفيدرالي نهاية عام 2021، وأدت إلى خروج 20 مليار دولار من سوق أدوات الدين الحكومية بنهاية الربع الأول من عام 2022، وتراجع الجنيه المصري أمام الدولار الأميركي 97.7 في المئة عبر ثلاث عمليات من تحرير سعر الصرف.

وأظهرت أحدث بيانات البنك المركزي المصري، الثلاثاء الماضي، أن "العجز في صافي الأصول الأجنبية زاد بمقدار 82.1 مليار جنيه (2.66 مليار دولار) في يونيو 2023 عن الشهر السابق، ليصل صافي الأصول الأجنبية إلى سلبي 837.3 مليار جنيه (27.25 مليار دولار) للمرة الأولى على الإطلاق". وأشار البنك إلى أن المالية العامة المصرية تعرضت لضغوط بسبب النقص المستمر في النقد الأجنبي إلى جانب توسع حاد في المعروض النقدي على مدى الأعوام الثلاثة الماضية.

ويعود رئيس بنك التنمية الصناعية السابق إلى "الدولرة"، فيقول إن حجم الطلب على الدولار للاكتناز مجهول، لكن من المؤكد أنه ضخم للغاية، على رغم عدم وجود تقديرات رسمية لهذا الطلب، لكن الأزمة كما يراها، تكمن في الثقة، والتي هي أساس الاقتصاد.

الذهب ملاذ الحائرين

انهالت طلبات شراء السبائك الذهبية على الشركات في مصر، وقد أصبح الجمع الغفير في محال الذهب مشهداً يومياً متكرراً، حتى إن بيانات المجلس العالمي للذهب وشعبة الذهب بالاتحاد العام للغرف التجارية المصرية يسجلان للمصريين شراءً تجاوز 33.5 طن في النصف الأول من العام الحالي، بنسبة ارتفاع 46.3 في المئة مقارنة بالفترة المثيلة العام الماضي، إذ جاءت الزيادة مدفوعة بنمو مشتريات الجنيهات والسبائك بنحو 173 في المئة إلى 18.6 طن مقابل 6.8 طن، ويعد المعدن أبسط أشكال الاستثمار في مصر وأكثرها شعبية.

يعترف عضو شعبة الذهب بالغرف التجارية عمرو المغربي أن الطلب على المعدن الأصفر في مصر ارتفع بوتيرة قياسية، وكان أهم ما يميز هذا الطلب اتجاهه الاستثماري، إذ ارتفع الطلب على السبائك والجنيهات أكثر من المشغولات، وأمام هذا الطلب الهائل ارتفعت أسعار المعدن بشكل كبير.

ويضيف المتخصص في مجال الذهب في حديثه لـ"اندبندنت عربية" أن الذهب يحظى تاريخياً بكونه أحد أبسط أشكال التحوط والادخار في مصر، وهو رهان جيد وملاذ آمن لحفظ الأموال، وأن المراقب لما حققه المعدن لحائزيه طوال الفترة الماضية، سيتحقق من ذلك.

سجل المعدن في مصر فبراير (شباط) 2022، قبل اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية، 908 جنيهات (29.56 دولار) للغرام من عيار 21 الأكثر مبيعاً، بينما يبلغ سعره اليوم 2160 جنيهاً (70.31 دولار).

ووفق تقرير "المجلس" الصادر مطلع الشهر الجاري، ارتفعت مشتريات المصريين من الذهب خلال الربع الثاني من 2023 إلى 17.3 طن مقابل 16.2 طن الربع السابق، و10.7 طن في الربع نفسه من العام الماضي.

مبيعات عقارية هائلة

وحظيت السوق العقارية بطلب واسع، إذ بلغت المبيعات التعاقدية لأكبر 20 مطوراً في السوق المصرية نحو 317 مليار جنيه بنهاية عام 2022 بمعدل نمو 55 في المئة مقارنة بعام 2021، بحسب ما أعلنه تقرير صادر عن شركة "ذا بورد كونسالتنغ" للاستشارات، والذي أشار إلى ارتفاع الطلب بشكل ملحوظ في النصف الثاني من العام الماضي لتشكل الأشهر الستة الأخيرة من العام 57 في المئة من إجمالي مبيعات 2022.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في حديثه لـ"اندبندنت عربية" يعتقد رئيس غرفة التطوير العقاري ووكيل لجنة الإسكان في مجلس النواب المصري طارق شكري أن شراء العقارات بهدف تعزيز قيمة المدخرات من بين أسباب ارتفاع المبيعات العام الماضي، وفي النصف الأول من العام الحالي.

ويقول طارق شكري إن العقار من أنجح الأوعية الادخارية، وإن الطلب الحالي مدفوع في جانب واسع منه بالرغبة في التحوط، في ظل معدلات التضخم المرتفعة وتآكل المدخرات بفعل تحركات سعر الصرف، مشيراً إلى أن الرغبة في التملك تبقى أكبر من معدلات الشراء الحالية، إذ إن القدرة الشرائية تراجعت لدى كثير من الأسر نتيجة لارتفاع كلفة البناء وغلاء المعيشة.

في شأن المتحوطين بالعقار يعتقد عضو مجلس إدارة شعبة الاستثمار العقاري بالاتحاد العام للغرف التجارية علاء فكري أن الطلب يتراجع من جانب الطبقة المتوسطة من الدخل، والتي تأثرت مدخراتها طوال العام ونصف العام الماضي في ظل موجة الغلاء، وهو ما يجعل الشركات العقارية أكثر استهدفاً لفئة الأثرياء التي تقدرهم بتسعة في المئة.

تلك الطبقة الضئيلة التي لا تتجاوز 10 في المئة من سكان البلاد البالغ عددهم 105 ملايين نسمة، يتحدث عن سلوكها الشرائي، المطور العقاري، فيقول إنها لجأت أخيراً إلى حماية مدخراتها من تقلبات سعر الصرف عبر شراء العقارات بقصد الاستثمار وتنويع محفظتهم الاستثمارية، ومشتريات هؤلاء من الفيلات والوحدات السكنية الفاخرة تتراوح بين ثمانية ملايين (258 ألف دولار) إلى 20 مليون جنيه (647 ألف دولار).

على الأرجح، سيظل التحوط في مصر نهجاً ذا شعبية متنامية، وسيمضي المصريون يفتشون عن طرقاً أبعد ما تكون عن إبقاء جنيهاتهم على هيئتها دون تبديل، ما لم يستقر الاقتصاد وتستتب المعايش وتنهي دوامة الأزمة دورانها.