Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

زكريا محمد خرج بالقصيدة الفلسطينية إلى أفق وجودي

عاش على هامش النضال الشعري وكتب في حقل الآثار والتراث

الشاعر الفلسطيني زكريا محمد الذي رحل قبل أيام (صفحة الشاعر - فيسبوك)

ملخص

عاش على هامش النضال الشعري وكتب في حقل الآثار والتراث

بعيداً من المواقف السياسية والخيارات الأيديولوجية والاشتباك مع الراهن والمعارضة الشجاعة للنخبة السياسية الحاكمة في السلطة الفلسطينية، فإن ما سيبقى من الشاعر والروائي والكاتب الفلسطيني زكريا محمد (أو داوود محمد عيد 1950- 2023) هو شعره، وعمله البحثي على موضوعات تتراوح بين حياة العرب ودياناتهم وأمثالهم وطقوسهم قبل الإسلام ومسائل تتصل بالآثار الفلسطينية ونسب الفلسطينيين وأصلهم في التاريخ. وقد ارتكز بصورة أساسية على التحليل اللغوي، وتأويل العلاقات بين الألفاظ في لغات الشرق القديمة، ومستنداً في ذلك إلى قراءاته وتأملاته، لا إلى البحث الأثري، أو الأنثروبولوجي، لأنه لم يتخصص في هذين المجالين المعرفيين، بل درس الأدب العربي في جامعة بغداد، قبل أن يرتحل إلى بيروت خلال وجود منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان في سبعينيات القرن الماضي.

لكن وبغض النظر عن صحة الاستنتاجات التي توصل إليها في عمله البحثي، وكتبه الكثيرة التي نشرها حول اهتماماته باللغة والأسطورة والنقوش الأثرية أو عدم صحتها، فإن التحليل اللغوي، وما يمكن أن نطلق عليه "البحث الفيلولوجي" (أو الفقه اللغوي)، هو ما تتسم به تلك البحوث أو السوانح المعرفية التي شغلت زكريا بعد عودته إلى فلسطين عام 1994. والحكم على أصالة أعماله البحثية في اللغة والآثار والنقوش والأسطورة وصوابية ما توصل إليه، هو عمل المتخصصين في اللغات القديمة والأركيولوجيا والنقوش ودراسات الأسطورة. وما يتبقى لي لكي أتحدث عنه هو شعر زكريا، الذي ينحو منحى مختلفاً عن الشعر الفلسطيني، ويبدو مسكوناً، منذ البدايات، بموضوعات، ومحتشداً بتيمات وصور واستعارات ومجازات وهواجس، لا نعثر عليها كثيراً في الشعر الفلسطيني، حتى في شعر جيل السبعينيات الذي ينتمي إليه زكريا، مع أنه لم يصدر مجموعته الشعرية الأولى "قصائد أخيرة" إلا عام 1982. ولأن هذه المجموعة لم توزع، ولم تصل إلا إلى أيادٍ قليلة، ولم يطلع عليها إلا بعض أصدقاء الشاعر، لكونها طبعت قبل الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 بقليل، فقد ألحقها الشاعر بمجموعته التالية "أشغال يديوية" (التي ظهرت عن منشورات رياض الريس عام 1990).

مسارب جديدة

وفي الفاصل الزمني بين نشر المجموعتين دلالة واضحة في الإقلال والكثافة والإيجاز في التعبير والرغبة في البحث عن مسارب جديدة ومختلفة للقصيدة الفلسطينية، المثقلة بالبطولي والصوت العالي وغياب الطبيعة وعناصرها والميتافيزيقي وموضوعات الموت، كتيمة من تيمات الوجود الخالص، والعدم بوصفه رعب الكائن ويأسه المقيم. من هنا يبدو شعر زكريا محمد مختلفاً، وكأنه كتب على حدة، على هامش الشعر الفلسطيني الكثير، الغزير، الذي أنجزه شعراء فلسطينيون على أرض فلسطين وفي المنافي. لا يرد اسم فلسطين سوى في مواضع قليلة من قصائد زكريا، لكنها حاضرة من خلال طبيعتها ونباتاتها وحيواناتها وأشجارها ونخلها. إنها غائرة في الأعماق من خلال تيمتي اليأس والأمل اللتين تتبادلان الحضور في قصائد الشاعر، وعبر ميتافيزيقا أرضية تعانق الطبيعة الفلسطينية بعناصرها وموجوداتها، من صخر وتراب وواد وجبل وصحراء وزهور ونباتات وحيوانات وحشرات. كأن الشاعر، بنأيه عن القول المباشر، وتحرير قصيدته من الموضوع الفلسطيني، الشديد السطوع في قصائد مجايليه، كما في قصائد الجيل الذي سبق جيله، يفتح باباً للشعراء الفلسطينيين الجدد الذين أتوا بعده، خصوصاً بعد عودته إلى فلسطين في تسعينيات القرن الماضي، وتأثر كوكبة من الشعراء الشباب بمنحاه الشعري وبمقاربته لموضوعاته، والخروج بالقصيدة إلى آفاق أكثر رحابة، وأكثر اتصالاً بالأسئلة الوجودية، وأكثر اقتراباً من الطبيعة، والعناصر الأولى والهوامش والحكايات الصغيرة والحفر في بئر الأعماق.

في "قصائد أخيرة" (1982) نقع على انشغالات الشاعر الوجودية ويأسه وحيرته ورغبته في الاندراج ضمن كائنات الطبيعة وعناصرها، وهي المغامرة التي ستتبدى واضحة في كل ما كتبه من شعر بعد ذلك. ويعلن زكريا في واحدة من القصائد القليلة، التي ضمتها هذه المجموعة المختزلة، التي تتخذ لها عنواناً مخاتلاً (قصائد أخيرة)، في الوقت الذي تمثل في الحقيقة المجموعة الأولى للشاعر، أنه يتنكب الطريق التي يسلكها أقرانه، مفضلاً سبيلاً آخر، وسعياً مختلفاً، للتعبير عن العالم والمغامرة الوجودية التي يحاول القبض عليها في شعره (آخرون سيكتبون ما يجب أن يكتب/.../ أما أنا فأندفع أندفع/ لا أريد أن أكون حكيماً بشعر أشيب/ الحكماء سهام توقفت لتنظر خلفها/ أما أنا فسيتوقف قلبي قبل أن أتوقف/ سأقطع ألف ميل قبل أن يتوقف قلبي/ والذين سيصلون إلى أبعد مما وصلت/ سيجدونني مبعثراً على الطريق:/ جمجمة مهشمة/ وبراغي/ ومسننات ما زالت ترتعش وتدور" (أشغال يدوية، ص: 91). ولا شك أن مجموعته الثانية "أشغال يدية" (1990) تمثل تطويراً للتيمات الجنينية، التي نعثر عليها في "قصائد أخيرة"، وتوسيعاً للأفق الدلالي لقصائده الأولى، من حيث التشديد على اختلافه، واختطاطه شكلاً من الكتابة التي تحتشد بغريب الكلام، والحوشي منه، مما يجعله أقرب إلى الشعر العربي القديم، في الجاهلية، ويجدل قاموسه اللغوي – الشعري بما عبر عنه شعراء مثل طرفة بن العبد أو الشنفرى (كلماتي أصبحت وحشية/ يترك الحوشي من لفظ القواميس القواميس/ ويجري في لساني/ لكأني الشنفرى/ يلعب في أرجوزتي/ وتقتات اليرابيع/ ويعوي الببر والذيب وعرفاء المساء/ لم أعد آنس زهر البيت والبستان/ لم أعد أعرف أشجاري،/ عليق/ وسويد/ وأرطى/ وأراك/ وأثل/ كلما أغربت واستوحشت/ وتضاريسي نبت/ وأنا أدخل، بعد الآن، أرضاً لم تطأها قدم/ منذ أن ضاعت طريق المسك والبخور/ في الرمل وكثبان الأزل).

مغامرة وجودية

يمكن النظر إلى مجموعتي زكريا الأوليين بوصفهما تمارين للوصول إلى شكل من أشكال التعبير الشعري لا يحفل بالحدث، باليومي في حد ذاته، بل بما يستقر في قلبه من معنى، من جوهر، من غموض واستعارة، وطاقة دلالية تشير إلى الأعماق، إلى مغامرة الوجود نفسها. ولعل الشاعر في مجموعته "الجواد يجتاز أسكدار" (1994) يتوصل إلى حلول تعبيرية لمشروعه الشعري، ويقع على معادل موضوعي يشير إلى الفكرة المخاتلة، التي سعى، منذ بداياته، إلى تجسيدها في قصائده، وأن يكسوها لحماً من الكلمات والصور والمجازات. وهو ما طوره في مجموعاته الأخيرة، وصولاً إلى شكل من الكتابة الشعرية أكثر غموضاً في الدلالة والمعنى وعلاقات الصور والاستعارات والمجازات. صحيح أنه في هذه المجموعة يجرب، ويختبر الأشكال والصور والاستعارات وحقول الدلالة التي تفيض في قصيدته، لكنه يظل حريصاً على المعنى، على الرسالة التي تحملها القصيدة إلى قارئها. وهو ما نعاينه في قصيدة "الحصان" التي يختبر فيها كثافة التعبير الشعري واختزال الكلام، للوصول إلى جوهر المعنى الذي يتقطر من مشهد الحصان الذي يجري، غير عارف أو غير آبه، نحو الهاوية.

ما يتحقق في النص الأول بسطوره السبعة عشر هو تقديم المشهد القوي لحصان يركض، فيما ترقبه الكائنات من عشب وحجر وطير وبشر، معلقة الأنفاس، هلعة من مصيره المحتوم. "الحصان يركض بلا فارس/ الحصان يركض على أرض العشب والحجر/ الطيور التي شاهدته/ أغمضت عيونها/ الرجال الذين رأوه من على التل/ جمدهم الخوف كالبرق/ كلهم رأى الهاوية/ إلا الحصان الذي كان يجري إليها/ هوى الحصان الرائع في الهاوية/ قبل أن يصرخ طير/ وقبل أن يفك البرق قيوده/ هوى الحصان/ لكن ظله/ صار غيمة سوداء/ فوق الوديان" (ص: 25- 26)، أما المختصر الأول للقصيدة فيقدم المشهد من دون تعليق، من دون زوائد، من دون ظلال تحف بالمشهد وتؤطره وتفيض بمعناه. "الشمس تلمع على عنقه وكفله/ الطيور التي شاهدته أغمضت عيونها/ الرجال الذين رأوه جمدهم البرق/ كلهم رأى الهاوية/ إلا الحصان الذي كان يجري إليها" (ص: 27)، فيما يقدم المختصر الثاني كثافة المعنى ودلالة المشهد وجوهر الحكمة التي ينطوي عليها، وصورة المأساة التي يدركها الشاهد ولا يدركها من تسحقه المأساة، وتدفعه نحو الهاوية، في نوع من التصادي المدهش مع التراجيديا اليونانية، التي يدرك فيها الجميع المصير المأسوي للبطل عدا البطل نفسه، الذي يمضي معصوب العينين إلى مصيره المحتوم. "كلهم أبصر الهاوية/ إلا الحصان الذي كان يجري إليها" (ص: 28).

العنف المكبوت

من التيمات الأساسية التي يطورها زكريا محمد في شعره شكل من أشكال التعبير عن القسوة والرغبة في التدمير والعنف المكبوت، كمعادل لعنف الوجود وقسوة الطبيعة وقوتها التدميرية الخارقة. فالشر المحايث للطبيعة وعناصرها يتجلى في كثير من قصائد الشاعر كقوة خالقة، وطاقة مانحة للصمود ومقارعة الشدائد، والتسلح بالقسوة لكي يستطيع الكائن العيش في هذا العالم المرعب، الذي يهدد بالعدم والفناء. "أريد هذه الوردة:/ أريد أن أكسرها بين يدي مثل مزهرية/ أريد أن أذبحها مثل ديك حبشي/ أريد أن أختنها بالحجر/ أريد هذه الوردة/ أريد أن أمر بها كالحصبة على الجسد والروح/ أريد أن أضعها عيناً مكان عيني العوراء/ أريد أن أمحو بها لوح السماء/ وطباشير النجوم/ أريد أن أرمي بها في الغيمة كي تنفجر" (الجواز يجتاز أسكدار، ص: 7)، أو كما في هذه القصيدة من مجموعة "ضربة شمس" (2002)، التي تقطع المرأة فيها صلتها بوليدها بأسنانها، في معادل موضوعي للقسوة ورغبة الكائن في النجاة بنفسه من عنف الوجود وسطوته القاهرة. "لا أريد أن أكون شجرة في التلال/ الريح تجرحني/ والرطوبة في الأعماق تضرب رئتي/ ولا أريد أن أكون صخرة في منحدر/ الشمس تتلف ذاكرتي/ والماء يقطع إصبعي/ أريد أن أكون امرأة/ الألم ثمرتها من حبيبها/ وبأسنانها تقطع ما يربطها بوليدها" (ص: 26).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن جذر التعبير الشعري لدى زكريا يقوم على الحيرة وافتقاد اليقين، في ما يتعلق بفعل الكتابة وعلاقة الكلمة بالكلمة والسياق، ومعنى الشعر وما يمكن أن ينقله الشعر إلى قارئه. تلك هي التيمة الأساسية التي تتردد في معظم مجموعاته الشعرية، خصوصاً الأخيرة منها. فالبحث عن معنى من خلال استعمال الكلمات وابتداع علاقات جديدة بين الألفاظ وتشقيق الكلام بعضه من بعض محفوف بالشك وعدم اليقين. "أعرف الكلمة ومرادفها/ أعرف كيف أربط كلمة بأخرى/ بواو العطف/ أو بما هو ألعن منها/ غير أنني حين أرمي الكلمات على الطاولة/ تصير خنافس سوداء مقلوبة على ظهرها/ إنها أمامي على الورقة/ تلعب، هكذا، بأرجلها المضحكة في الهواء/ بلا معنى" (ضربة شمس، ص: 68).

فمن أين يجيء المعنى في كتابة تتنكب الأساليب المعهودة في الشعر العربي الذي يكتب الآن، بأشكاله الإيقاعية والنثرية، كما تخرق الإجماع، وتدير ظهرها للأنساق السائرة المتكررة في هذه الكتابة الشعرية؟ لا شك أن هذا السؤال الصعب خطر ببال زكريا محمد كثيراً، وهو يكتب نصوصاً كثيرة، لم يضع لها عناوين (أي أنه لم يوفر لقارئه أي متكأ، أي دليل يمسك به ليطل على أعماق نصه)، في مجموعاته الشعرية الأخيرة: "كشتبان" (2014)، و"علندى" (2015)، و"زرواند" (2021). وهو يقر في نصوصه، التي تقترب مما يسمى في قصيدة النثر "قصيدة الكتلة"، باستحالة العثور على المعنى، بعبثية تعيينه، في نصوص تزداد إعتاماً وغموضاً واستعصاءً على مدى تجربة الشاعر: "من يقدر أن يعطب لي ثلاثاً من الحواس الخمس التي ورثتها عن القردة العليا؟ لست في حاجة إليها. أستطيع أن أتدبر أمري باثنتين فقط. طيور تطير واطئة، وتدلق بأجنحتها قهوتي/ لا يمكن الوصول إلى المعنى. يمكن المرور قربه عبر ممر التشابيه، لكن التشابيه متاهة. تشبيه يقود إلى تشبيه. باب يقود إلى باب/ ولا يمكن النكوص عن المعنى أيضاً. سحبت نصف رصيدي في البنك كي أشتري قطعة صغيرة من المعنى" (علندى، ص: 28)، لكنه يختم بالقول في نص آخر: "ليس لديَّ ما أخبركم به فوق هذا. فالعلامات كلها أمامكم على الكيبورد، والنجوم تلمع كالسكاكين في السماء" (ص: 181).

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة