Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أشباح العنبر رقم 12 يتوارون خلف حصاناتهم الحصينة

سنوات ثلاث على تفجير مرفأ بيروت: خيوط تربط سلسلة اغتيالات دالة، وفي الخلفية قضاء لا ينوي المحاسبة

مشهد الدمار الذي خلفه تفجير مرفأ بيروت بعد يومين على وقوعه (رويترز)

ملخص

لقمان سليم، جوزيف سكاف، منير أبو رجيلي، جو بجاني. أربعة أسماء. أربعة اغتيالات. قاسم مشترك واحد: يعرفون أكثر مما ينبغي.

في 3 أغسطس (آب) 2023، نشرت مجلة "كرونيك"، الصادرة عن منظمة العفو الدولية، تحقيقاً للصحافي كريستوف بولتانسكي قام في سياقه بجولة أفق على أربعة اغتيالات يعتقد أنها ذات صلة في جريمة تفجير مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020. فعشية الذكرى الثالثة لأكبر انفجار غير نووي في التاريخ، ما زال المشهد قاتماً ومحزناً ومحبطاً. قل إنه لغز في لوحة متجمدة عاث فيها الزمن، شأنها شأن عدالة اعتاد الشعب على ألا يسري مجراها على أصحاب النفوذ، فيفلتون من المحاسبة، والسلام على العقاب.

235 ضحية، وأكثر من 6500 جريح، و77 ألف شقة مدمرة.

يجهد محامون وصحافيون وناشطون وغيرهم لاختراق جدار الصمت القائم. فكيف يمكن لشحنة متفجرات أن تدخل مرفأ بيروت، وتكدس في عنبر لمدة ستة أعوام، وتنفجر في غضة طرف، فتسقط ضحيتها عاصمة برمتها، وعلى الهامش، تسقط آخر أقنعة دولة تبين في النهاية أنها ليست واحدة؟

اقرأ المزيد

تستهل مجلة "كرونيك" التحقيق بسرد وقائع اغتيال الشخصيات الأربع موضوع المقال، التي لا تبدو مرتبطة بعضها ببعض في الظاهر، ولكنها كلها على علاقة بمرفأ بيروت. لماذا اغتيل هؤلاء الأشخاص؟ هل كانوا على اطلاع على معلومات خطرة؟ أبسبب المناصب التي شغلوها؟ هل كانوا ليكسروا حاجز الصمت لو تركوا في قيد الحياة؟ هل كان بكلامهم أن يكتمل المشهد لنرى الصورة الكبرى؟

لقمان سليم. تاريخ الاغتيال: 4 فبراير (شباط) 2021.

 

كان أول من اقترح منهج التعاطي مع قضية تفجير مرفأ بيروت المتشعبة، تفادياً للغرق في تفاصيل قد تضيع الحقيقة، فقال في مقابلة له على قناة عربية في 15 يناير (كانون الثاني)، "نحن أمام مشهد تكتمل تفاصيله"، ودعا إلى النظر إلى القضية ككل بدلاً من النظر إلى الجزئيات التي تشكلها. وفيما سعت بعض الجهات السياسية إلى اختصار تفجير المرفأ بأنه مجرد إهمال إداري، ندد لقمان سليم بجريمة حرب أطرافها كل من روسيا وسوريا و"حزب الله". وبعد مرور 20 يوماً على المقابلة، وجد سليم مقتولاً رمياً بالرصاص في سيارته.

اليوم، يرقد لقمان في حديقة "فيلا سليم" في حارة حريك، معقل "حزب الله". هو المثقف والكاتب والناشر والمترجم والباحث والناشط السياسي الموصوف بكلمته الحرة والمقتضبة والعلمانية والموزونة والمدوية أحياناً، ابن محام شيعي معروف، يرقد حيث الأزقة الشعبية مطلية باللون الأصفر والأبنية موشحة بصور "شهداء" حزب سياسي عسكري لم يتوان يوماً عن انتقاده.

لم يأبه لقمان لتحذيرات زوجته المخرجة الألمانية مونيكا بورغمان وشقيقته الصحافية رشا الأمير، اللتين تناضلان اليوم لمعرفة الحقيقة. كان عنيداً، يوجه إصبع الاتهام بشكل مباشر إلى "حزب الله" غير آبه بعدم توازن القوى ولا بالتهديدات الواضحة. كانت الأسباب عديدة وجريمة قتله واحدة.

 

جوزيف سكاف. تاريخ الاغتيال: 4 مارس (آذار) 2017.

كان العقيد الجمركي جوزيف سكاف رئيساً لشعبة مكافحة المخدرات ومكافحة تبييض الأموال عندما دخلت الباخرة روسوس مرفأ بيروت ورست على أرصفته، وقد قام في 21 فبراير 2014 بتوجيه رسالة تحذيرية إلى إدارة الجمارك من خطر الحمولة على "السلامة العامة"، مشيراً إلى أن السفينة محملة بنيترات الأمونيوم "وهي مادة خطرة جداً ومتفجرة"، مقترحاً على الضابطة الجمركية ودائرة ألمانيفست العمل مع السلطات الأمنية لإبعاد السفينة إلى كاسر الموج ووضعها تحت رقابة الأجهزة الأمنية. كان العقيد سكاف أول من ذكر نيترات الأمونيوم، هو الذي كان يشك بعملية تهريب.

السردية الأولى عن سفينة روسوس

وهنا، تفتح مجلة "كرونيك" هلالين لتورد أول سردية عن سفينة روسوس: من مالكها؟ وكيف وصلت إلى مرفأ بيروت؟

بحسب قبطان السفينة، اشترى السفينة رجل الأعمال الروسي إيغور غريتشوشكين، وقد أبحرت في 27 سبتمبر (أيلول) 2013 من جورجيا إلى موزمبيق محملة بـ2750 طناً من نيترات الأمونيوم صنع معمل "روستافي أزوت" الجورجي لصالح شركة خاصة "لا فابريكا دي اكسبلوسيفوس دي موزمبيق". تحت وطأة الديون، رست السفينة في مرفأ بيروت لتحميل حمولة أخرى بالتالي جمع المال الكافي لاستكمال عبورها إلى قناة السويس، لكن الحمولة الثانية التي كانت عبارة عن آلات حديدية لرصد الهزات الأرضية كانت ثقيلة جداً، فتعذر التحميل. هكذا، أعلنت سلطات المرفأ السفينة غير صالحة للإبحار ثم أمرت بحجزها بسبب عدم تسديد المستحقات، واختفى إيغور غريتشوشكين.

وفي التفاصيل التقنية أن استخدام نيترات الأمونيوم يتغير بحسب نسبة الأزوت فيه: إن لم تتخط نسبة الأزوت فيه 33.5 في المئة، يستخدم كمخصب زراعي شائع، وإن تخطت نسبة الأزوت فيه هذه العتبة، يدخل في استخدام المتفجرات. إلا أن القانون اللبناني يمنع استيراد أي مواد عسكرية من دون إذن خاص بذلك، وشحنة النيترات تلك على متن سفينة روسوس كانت تحتوي على نسبة 34.7 في المئة من الأزوت المستخدم في صناعة القنابل، لكن الوثائق الأولية التي أرسلت إلى الجمارك وإدارة المرفأ، من القائمة الموحدة للسفينة إلى مانيفست الوصول، لم تذكر هذا التفصيل، كما لم يؤت في أي من الرسائل المتبادلة على ذكر نوع الحمولة. يبدو وكأن السلطات لم تكن مهتمة إلا بإفراغ السفينة مخافة أن تغرق. وفي 27 يونيو (حزيران) 2014، أمر قاضي الأمور المستعجلة بتخزين الحمولة في "مكان آمن" من دون أن يعرف ماهيتها. وفي الطلب المقدم، تذكر وزارة الأشغال العامة والنقل "مادة خطرة" قد تلوث مياه مرفأ بيروت من دون تحديد أنها نيترات الأمونيوم. كان آنذاك غازي زعيتر وزيراً، ينتمي إلى حركة أمل حليفة حزب الله. وبالتالي، تم تفريغ حمولة الباخرة سريعاً في ليل 22 إلى 23 أكتوبر (تشرين الأول) 2014، وتخزينها في العنبر رقم 12 المخصص للمواد الخطرة، ومن ثم نسي أمرها.

 

يعود التحقيق في مجلة "كرونيك" إلى اغتيال العقيد جوزيف سكاف، ويفيد بأن هذا الأخير سحب يده من ملف سفينة روسوس يوم نقل إلى مطار بيروت، علماً أن الرسالة التي كتبها بقيت من دون جواب، لا بل قبعت في درج من دون أن تصل يوماً إلى من كانت مرسلة إليهم. وبعد مرور سنتين، تقاعد سكاف عام 2016 عن عمر 56 سنة، وخاض الانتخابات النيابية مستقلاً. كان يشارك في عشاء قروي يوم 4 مارس 2017 عندما لم يعد إلى منزله في أولى ساعات الصباح. تفقدته زوجته ولم تجده، فذهب أحد أصدقائه للبحث عنه ليجد سيارته مركونة أسفل المبنى والمصابيح مضاءة والصندوق مفتوح. وعلى بعد مترين تقريباً، وجده جثة هامدة وكأنه انزلق قرب الحائط الذي يؤدي إلى المرأب السفلي. لم يكشف تشريح الجثة عن أي سبب داخلي للانزلاق الذي أدى إلى الوفاة، وقد عزاها التقرير الطبي إلى نزف في الدماغ من دون ذكر تفاصيل أخرى، أي إنها كانت مجرد حادثة. ويبدو بحسب المقربين أن الشرطة لم تعزل ساحة الجريمة ولم تستجوب أحداً وكأنهم يريدون غلق الملف بأسرع ما يمكن. غير أن الطبيب الشرعي الذي عينته العائلة خلص إلى أن سكاف تعرض لاعتداء عنيف وضرب مبرح قبل أن يدفع في الفراغ.

هل كان يمكن للعقيد سكاف أن يحول دون وقوع الكارثة لو لم ينقل إلى منصب آخر؟ على أي حال، قال يوماً لأخيه إنه لن يسمح بتفريغ الحمولة.

في عام 2019، وبطلب من الرئيس ميشال عون، كلف الرائد جوزيف النداف بتأسيس مكتب لأمن الدولة في مرفأ بيروت لمحاربة الفساد، مهمته جمع المعلومات ورفع التقارير عن أي نوع من التهريب. سيكون الرائد النداف ثاني من أبلغ عن وجود نيترات الأمونيوم في العنبر رقم 12 بعد العقيد سكاف. يروي النداف أنه لم يكن يعلم ماهية المواد إلى درجة استشار خبراء. وعاين المكان واستغرب عدم وجود أي حارس. كان باب العنبر مخلوعاً وفي الجدار فتحة من 50 سنتيمتراً رأى عبرها الأكياس المكدسة والتي يمكن لأي كان أخذها. وبدل التقرير الواحد كتب خمسة تقارير، منها واحد في الأول من يونيو 2020 حيث حذر من أنه في حال انفجرت النيترات ستكون العواقب وخيمة على المرفأ، كما أعرب عن شكوكه بأن تكون هذه المواد موضع سرقة لتصنيع المتفجرات.

ويكتب الصحافي كريستوف بولتانسكي هنا أن سرعان ما انتشر تقرير الرائد النداف: ففي 20 يوليو (تموز) بعث أمن الدولة بموجز عنه إلى رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الوزراء حسان دياب آنذاك. أما النائب العام التمييزي في لبنان غسان عويدات فبدل الأمر بنقل المواد وتعداد الأكياس، انشغل بالمطالبة بالتصليح. ويوم 4 أغسطس، عند قرابة الساعة الرابعة من بعد الظهر، حاول ثلاثة عمال تلحيم الباب المخلوع بغياب موظف المرفأ المسؤول عن مراقبة سير العمل. بعد رحيلهم، نشر شاهد عيان على منصة "تويتر" فيديو يرسخ دخاناً أسود كثيفاً يتصاعد من العنبر. وصل فوج الإطفاء بعد أربع دقائق إلى الموقع. وعند الساعة السادسة وسبع دقائق، سمع دوي انفجار، تلاه آخر أقوى عصفاً بعد 13 ثانية.

غداة الفاصل الهيروشيمي الشنيع، وبينما كان الناس يبحثون عن أشلاء أحبتهم بين الركام والدمار، سرب أحدهم رسالة العقيد جوزيف سكاف وهو في قبره على مواقع التواصل الاجتماعي، فأثارت استغراب حتى الأقربين إليه الذين أكدوا أنهم لم يكونوا يعلمون بوجودها. من سرب الرسالة ولماذا سربها في هذا التوقيت؟

 

منير أبو رجيلي. تاريخ الاغتيال: 1 ديسمبر (كانون الأول) 2020.

كان العقيد الجمركي المتقاعد الشاب منير أبو رجيلي يبني منزلاً له في قرطبا، فقصده في الأول من ديسمبر 2020 ليتابع سير العمل، وقد اختار قضاء الليل فيه منعاً للقيادة في الضباب. لم يرد أبو رجيلي على زوجته عندما اتصلت به في الصباح، فقررت الاطمئنان عليه بنفسها لتجده مضرجاً بالدماء وقد ضرب حتى الموت بآلة حادة على رأسه. لم يترك المعتدون، وكانوا ثلاثة على الأرجح، أي أثر للجريمة: لا خلع ولا كسر ولا هاتف منسي ولا سرقة. "ضربة معلم" لم تفلح الشرطة في كشف ملابساتها. وكيف تفعل، فالأبعاد سياسية.

كانت زوجة سكاف أول من اتصلت به زوجة أبو رجيلي بعيد اكتشاف الجريمة لتخبرها بمقتل منير تماماً كما قتل جوزيف، فهما كانا زميلين في المرفأ وصديقين، وأفادنا مقرب إليهما بأنهما كتبا معاً رسالة جوزيف الشهيرة.

 

جو بجاني. تاريخ الاغتيال: 21 ديسمبر 2020.

كعادته في كل صباح، عند الساعة السابعة صباحاً، يخرج جو بجاني من منزله المجهز بكاميرات مراقبة في الكحالة، يشغل سيارته ونظام التدفئة فيها، ثم يحضر ابنتيه ليصحبهما إلى المدرسة قبل التوجه إلى مكتبه في شركة "ألفا" للاتصالات. يوم 21 ديسمبر 2020، وبعد أن دخل جو سيارته، هجم عليه رجل يعتمر قبعة سوداء وقتله بمسدس صامت. تبعه شريكه في الجريمة وعلى رأسه خوذة لقيادة الدراجات النارية، وفي يده علبة عدة. دخل السيارة وأخذ تليفون جو وأغلق الباب. ومن ثم هرب المجرمان عبر حرش حيث كانت بانتظارهما دراجة نارية. لم يكونا ملثمين. كان أحدهما يضع كمامة طبية والآخر خوذة، على رغم أنهما ارتكبا جريمة بإحدى أكثر المناطق المراقبة أمنياً لمحاذاتها القصر الجمهوري ووزارة الدفاع. تعرف الشرطة وجوههما والطريق الذي سلكاه، غير أنها لم تتمكن من القبض عليهما. فكيف يعقل ذلك؟

ولكن، من هو جو؟ بحسب المقربين منه، لم يكن له أعداء ولا أخصام، فهو لا يتعاطى الشأن السياسي، لكنه كان مولعاً بكل ما هو عسكري منذ نعومة أظفاره إلى درجة أنه كان يمضي وقته في تصوير العسكر والعتاد. وبفضل حسن علاقته بالجيش اللبناني، حصل على بطاقة صحافة، سمحت له بتصوير الجيش في الميدان وفي المناسبات مجاناً. في 14 أغسطس 2020، نشر على حسابه على منصة "تويتر" صورة سرعان ما تناقلتها مواقع التواصل الاجتماعي، وقد علق عليها بالتالي: "يمكن أن نرى في الخلفية الإهراءات والعنبر رقم 12 حيث وقع التفجير". تعود الصورة لعام 2017 وقد صورها خلال مراسم تسليم دبابات أميركية إلى الجيش اللبناني. هل كان يملك جو صوراً أخرى؟ إثر اغتياله، أخذت الشرطة كل ما يملك من آلات تصوير وحاسوب ومفاتيح "يو أس بي" وكاميرات المراقبة، وأعادوها لعائلته بعد أسبوعين فارغة. مذلك الحين، تعيش زوجته وابنتاه في فرنسا حرصاً على سلامتهن.

تحقيق القاضي طارق البيطار المتعثر

إذا كان التحقيق في ملفات اغتيال كل من جوزيف سكاف ومنير أبو رجيلي وجو بجاني قد وضع طي النسيان، فهل يكون مصير التحقيق في جريمة تفجير المرفأ على يد القاضي طارق البيطار مشابهاً؟ فالذين يشعرون بالخوف من التحقيقات يشنون حرباً ضروساً على البيطار الذي تلقى حتى الآن أكثر من 40 دعوى طلب رد، والذي كلما خطا خطوة إلى الأمام يواجه ألف عثرة.

علاوة على ذلك، تأتي مجلة "كرونيك" على ذكر احتمال أن يكون التفجير نتيجة ضربة صاروخية إسرائيلية لأن العديد من الناس أكدوا سماع تحليق طيران على علو منخفض قبيل دوي الانفجار الأول. إلا أنه تم استبعاد هذه الفرضية يوم 6 أغسطس 2020، على يد فريق خبراء فرنسيين قدموا إلى بيروت في إطار العمل على التحقيق كون ثلاثة من الرعايا الفرنسيين قضوا في التفجير معللين استنتاجهم بالحريق الذي نشب عند الساعة الخامسة والنصف تقريباً. وبالتالي، لو كانت الضربة صاروخية، لما نشب حريق قبلها. أما عما أدى إلى اندلاع الحريق إياه، فالأسباب غير واضحة وقد تكون إما التلحيم أو عطل كهربائي أو سيجارة مشتعلة أو أي عمل تخريبي مخطط له.

فرضية لقمان سليم: أصابع الاتهام موجهة إلى سوريا

وتفيد مجلة "كرونيك" أيضاً بأن وكالة الاستخبارات الأميركية أرسلت هي أيضاً خبراء وكان استنتاجهم كالآتي: 550 طناً من نيترات الأمونيوم فقط انفجر يوم 4 أغسطس. فباقي الشحنة إما أحرقت، لأن الحريق يسبق الانفجار في حال التفجير، أو أنها سرقت. ثمة احتمال سرقة من الشحنة إما قبل تفريغها في العنبر رقم 12 أو بعده. غير أن التحقيق الاستقصائي يفيد باحتمال وصول الشحنة ناقصة إلى المرفأ بسبب استحالة تفريغ كل هذا المحتوى في يوم واحد كما أتى في الوثائق. فالحمولة تحتاج إلى يومين لتفريغها ورصيف المرفأ أضيق من أن يسع لـ2750 كيساً مرة واحدة.

كل ما سبق يدفعنا إلى النظر إلى البلد المجاور الذي كان يستخدم مادة نيترات الأمونيوم بكثرة، ولكنه لم يكن قادراً على استيرادها بسبب العقوبات الدولية المفروضة عليه. فمنذ عام 2013، لجأت سوريا إلى سلاح جديد في حربها، ألا وهو برميل المتفجرات الذي يحتوي على النيترات من بين عناصر أخرى، وقد استخدم طيلة عام 2014 لسحق مدن برمتها. وتجدر الإشارة إلى أنه ما من إثبات ملموس يدين سوريا مباشرة، بل مجرد خيوط يصدف أنها منطقية.

السردية الثانية عن سفينة روسوس

في تحقيق صحافي مشترك مع مشروع تغطية الجريمة المنظمة والفساد، تبين أن المالك الحقيقي لسفينة روسوس ليس الروسي غريتشوشكين بل رجل الأعمال القبرصي شرالامبوس مانولي، الذي كان يدين بمليون دولار إلى بنك "أف بي أم إي" FBME يوم رست السفينة في مرفأ بيروت، والمتهم بتبييض الأموال لصالح "حزب الله" ومركز البحوث والدراسات العلمية في دمشق.

هل كانت سفينة روسوس متوجهة فعلاً إلى جنوب أفريقيا؟ نظراً إلى حالتها المتهالكة، من الصعب جداً أن يسمح لها بالمرور عبر قناة السويس، وبحسب العقد مع إيغور، لا يمكنها الإبحار خارج البحر الأبيض المتوسط. هكذا، اتجهت السفينة إلى طرطوس في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 وغادرت الميناء فارغة بعد مرور خمس ساعات. ترى، ماذا كان على متنها؟

وبالعودة إلى النيترات التي أفرغت في مرفأ بيروت، فلم يشترها الموزمبيقيون قط، بل شركة "سافارو" التجارية الوهمية الذي يصدف أنها كانت مسجلة في لندن ومتخذة محل إقامتها على العنوان نفسه وفي التاريخ عينه لشركتي "هيسكو" و"آي كاي بتروليوم اندستريال" المملوكتين لجورج حصواني وعماد خوري على التوالي، السوريين الروسيين المتهمين من قبل الولايات المتحدة بدعمهما ماكينة حرب بشار الأسد.

العودة إلى لقمان سليم

كان لقمان كما سبق وذكرت مجلة "كرونيك" أول من اتهم النظام السوري و"حزب الله" في قضية تفجير مرفأ بيروت. عشية الحادثة، قصد المرفأ على دراجته النارية. كان يريد أن يرى ويفهم ويعلق. مرت الأسابيع وهو يحاول جمع الوثائق كما اعتاد أن يفعل. فهو يوثق منذ عقود الجرائم التي ترتكب في البلد كي لا تتلاشى طي النسيان. في هذه الظروف الدقيقة، عرضت عليه زوجته مونيكا السفر إلى ألمانيا. رفض لأنه كان يريد البقاء حيث رأى فرصة سياسية يجب انتهازها. كان يعرف أنه يعيش في دائرة الخطر. ففي 2019، هدده مناصرو "حزب الله" بالقتل علناً.

في 15 يناير، ذهب لقمان بعيداً في اتهاماته خلال مقابلة أجريت معه على قناة "الحدث" السعودية. في 31 يناير، بدأ الجيش الإلكتروني المأجور يهاجمه ويتهمه بالعمالة لإسرائيل. كانت حملة مدروسة ومنظمة. وفي 3 فبراير، ذهب إلى منزل صديقه في نيحا جنوب لبنان ليتناول الغداء. كشفت كاميرات المراقبة عن أن خمس سيارات كانت تتبعه. خطف عند خراج البلدة في المساء ووجد فجراً مقتولاً بالرصاص على بعد 40 كيلومتراً.

وتماماً كما في الاغتيالات الأخرى، لم تعزل ساحة الجريمة واختلط الفضوليون بالشرطة لتضييع التحقيق. عند الإعلان عن اغتياله، غرد جواد نصر الله، نجل أمين عام "حزب الله"، تغريدة سرعان ما قام بمحوها لاحقاً، قال فيها: "خسارة البعض هي في الحقيقة ربح ولطف غير محسوب".

إلا أن لقمان كان قد استبق هذا الموقف في ديسمبر 2019 حيث حمل في كتاب مفتوح حسن نصر الله ونبيه بري كامل المسؤولية في حال أصابه مكروه.

المزيد من تحقيقات ومطولات