ملخص
الملاحظ في البيانات الرسمية الخاصة بزيارات كبار المسؤولين الأميركيين للمنطقة هو تأكيد تعزيز الشراكة الأمنية مع السعودية وغيرها من دول المنطقة
عندما زار مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان الرياض، نهاية يوليو (تموز) الماضي، تحدثت وسائل الإعلام الأميركية عن رغبة واشنطن في تشكيل تحالف في الشرق الأوسط على غرار "الناتو"، يجمع الدول الصديقة لإبقاء النفوذ الأميركي في المنطقة والضغط ضد التوسع الصيني والروسي الآخذ في الازدياد مع الضغط على إيران واحتواء تهديداتها، على أن يرتكز هذا التحالف على علاقة سلام جديدة مع إسرائيل.
تعكس زيارات كبار مسؤولي الإدارة الأميركية المكثفة للمنطقة ولا سيما السعودية، في الآونة الأخيرة، رغبة إدارة الرئيس جو بايدن في العودة إلى إصلاح ما أفسدته سنوات من التراجع وتآكل النفوذ الأميركي لصالح منافسيها الجيوسياسيين، فزيارة سوليفان هي الثانية للرياض خلال شهرين، إذ التقى، في مايو (أيار) الماضي، ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وفي يونيو (حزيران)، استقبل ولي العهد السعودي وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بقصر السلام في جدة.
حماسة أميركية
الملاحظ في البيانات الرسمية الخاصة بزيارات كبار المسؤولين الأميركيين للمنطقة هو تأكيد تعزيز الشراكة الأمنية مع السعودية وغيرها من دول المنطقة، وهو يتعلق بخطة أوسع تحظى بتوافق أميركي داخلي بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، تستهدف إنشاء هيكل أمني شرق أوسطي يضم القدرات العسكرية للقيادة المركزية الأميركية Centcom، وقوات الدفاع الإسرائيلية وجيوش الدول العربية المجاورة للكشف عن التهديدات الصادرة عن الأعداء الإقليميين، بخاصة إيران.
العام الماضي، كجزء من قانون تفويض الدفاع الوطني لعام 2023، أقر الكونغرس قانون ردع قوات العدو وتمكين الدفاعات الوطنية، وهو ما يسمح لوزير الدفاع الأميركي بإنشاء نظام دفاع جوي وصاروخي متكامل مع إسرائيل وغيرها من جيوش الدول الشريكة في الشرق الأوسط، وحظي مشروع القانون بتأييد واسع من مجلسي الشيوخ والنواب ومن الحزبين عند تقديمه، وبمجرد إلحاقه بقانون تفويض الدفاع الوطني، تم تمريره.
ويهدف المشرعون الأميركيون للمضي قدماً نحو مزيد من القوانين التي تدعم تلك العلاقة الأمنية مع الشرق الأوسط، فالسيناتور الديمقراطية جاكي روسن والنائبة الجمهورية كاثي ماكموريس روجرز، بدعم من زملائهما الأعضاء في تجمع "اتفاقات أبراهام" بالكونغرس، قدما قانون الهندسة البحرية والاستجابة للإرهاب الدولي في الشرق الأوسط أو ما يعرف اختصاراً بقانون MARITIME وفي بند مشابه لمشروع قانون العام الماضي، يخول مشروع القانون الجديد وزارة الدفاع لإنشاء قدرة متكاملة للتوعية بالمجال البحري مع شركاء القيادة المركزية الإقليميين للحراسة المشتركة لبعض الممرات المائية التجارية الأكثر ازدحاماً في العالم في شبه الجزيرة العربية وحولها.
في أعقاب ذلك قدمت روسن مشروع قانون إضافي يعزز التعاون في الشرق الأوسط في شأن تهديدات الأمن السيبراني، ووفق وسائل إعلام أميركية، فإن لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ يبدو أنها أدرجت نسخاً من مشروعي القانون ضمن قانون تفويض الدفاع الوطني لعام 2024، مما يضمن على الأرجح تمريرهما إلى قانون، وتقول مجلة "فورين بوليسي" إن هذا الحماس الواضح للتكامل الأمني الإقليمي في الشرق الأوسط ليس مجرد ظاهرة في "الكابيتول هيل"، بل يحظى بدعم البيت الأبيض والبنتاغون والقيادة المركزية نفسها التي تعمل بجد لإنشاء أنظمة دفاع متكاملة تحت قيادة قائد الجيش الأميركي الجنرال إريك كوريلا.
فتور عربي
لكن على رغم حماس واشنطن يتحدث المراقبون الأميركيون عن فتور لدى الشركاء العرب في المنطقة تجاه تلك المبادرات، ففي مايو الماضي أعلنت الإمارات انسحابها من قوة بحرية مشتركة تقودها الولايات المتحدة في الخليج، تعمل قبالة إيران وفي مياه البحر الأحمر على حفظ الأمن في المنطقة الاستراتيجية التي غالباً ما تشهد هجمات ضد سفن وناقلات نفط، في حين لم تقدم أبوظبي تفسيراً للقرار، لكن كانت هناك حالة استياء عامة في شأن حوادث بحرية متزايدة في مياه الخليج، اتهمت واشنطن وعواصم غربية طهران بالوقوف وراءها، من دون أن تتخذ خطوات لمعاقبتها.
ويقول مدير برنامج أمن الشرق الأوسط لدى مركز الأمن الأميركي الجديد جوناثان لورد، وهو أيضاً عضو سابق في لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب الأميركي، إن شركاء واشنطن في الشرق الأوسط فتحوا في السنوات الأخيرة أبوابهم أمام مجموعة واسعة من شركاء الأمن القومي، الأصدقاء والخصوم على حد سواء، بدلاً من الاصطفاف بشكل وثيق وحصري مع الولايات المتحدة، كما كانوا يفعلون في الماضي، بينما رفض البنتاغون الاستسلام لذلك التغيير، وواصل حملته للدبلوماسية الدفاعية واستثمر الوقت والموارد في التدريبات العسكرية المشتركة التي تم تصميمها خصيصاً لإظهار القوة الجماعية للقوات الأميركية والإقليمية، مثل Eagle Resolve 23 مع السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي الشريكة وIntrepid Maven مع الأردن وResolute Union 2023 مع القوات المسلحة اللبنانية والعراقية.
ولا يشعر الشركاء في الخليج بأولوية أمنهم لدى واشنطن التي تحول تركيزها منذ العقد الماضي صوب منطقة المحيطين الهادئ والهندي، حيث تشتد المنافسة الجيوسياسية مع الصين، إذ تكون في الولايات المتحدة إجماع بين الحزبين على أن بكين تمثل التهديد الرئيس للولايات المتحدة، فوفقاً لما أعلنته إدارة بايدن في استراتيجيتها للأمن القومي لعام 2022، فإن "الصين هي المنافس الوحيد الذي ينوي إعادة تشكيل النظام الدولي، ويملك القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية للقيام بذلك، بشكل متزايد"، وتتماشى تلك التقييمات المتعلقة بالتهديد الصيني بشكل ملحوظ مع استراتيجية الأمن القومي لإدارة الرئيس السابق دونالد ترمب لعام 2017 واستراتيجية الدفاع الوطني لعام 2018.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى رغم أن القوة العسكرية الأميركية تبقى لا مثيل لها في الشرق الأوسط، فإن التجارب السابقة قد تثير الشكوك لدى الشركاء في الخليج حول إمكانية قيام الولايات المتحدة بتوظيف فعلي لقوتها العسكرية عندما تستدعي الحاجة، فعلى رغم التدريبات المشتركة التي شهدتها المنطقة، العام الحالي، وغيرها من الإجراءات القانونية الإقليمية من قبل البنتاغون والكونغرس والزيارات المكوكية لكبار المسؤولين الأميركيين إلى المنطقة، يبدو أن دول مجلس التعاون الخليجي، بخاصة السعودية والإمارات، غير متأثرة، وعلى سبيل المثال، يشير لورد إلى شكوى رئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في شأن ما يعتقد أنه لم يكن رداً كافياً من واشنطن عندما تعرضت أبوظبي لهجوم من صواريخ الحوثيين، في يناير (كانون الثاني) 2022، ومنذ ذلك الحين، يرفض جهود إدارة بايدن لإصلاح العلاقة، وهو ما ترتب عليه إنهاء الإمارات مشاركتها في فرقة عمل إقليمية بقيادة الولايات المتحدة لمراقبة الممرات البحرية المهمة حول شبه الجزيرة العربية.
الصين تشتت واشنطن
وتقول منظمة الدفاع عن الديمقراطيات (مركز أبحاث سياسية في واشنطن)، إن الصين تمثل التأثير الأكبر لدى صانعي القرار في واشنطن، ودفعتهم إلى تقليص استثمار الموارد العسكرية الأميركية المحدودة في الشرق الأوسط للسماح لوزارة الدفاع بإتمام جهود التحديث المتأخرة حتى الآن والحيوية لردع أي عدوان صيني بشكل أفضل في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وبناءً عليه قامت الولايات المتحدة بتقليل قدرتها العسكرية في الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة، إذ انخفض عدد القوات الأميركية في منطقة عمليات القيادة المركزية بنسبة 85 في المئة عن ذروته في عام 2008، ويرجع ذلك غالباً إلى حقيقة بقاء نحو 2500 جندي أميركي فقط في العراق، بانخفاض من الذروة التي تجاوزت 170 ألف جندي أميركي هناك في عام 2007، كما يرجع ذلك أيضاً إلى حقيقة انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان عام 2021، بعد أن كان هناك تقريباً 100 ألف جندي أميركي في عام 2011.
ويقول خبراء المؤسسة في ورقة بعنوان "الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية: مسار محتمل للأمام"، إنه على رغم أن وجهة النظر الخاصة بالصين داخل واشنطن مبررة على مستوى معين، فإنها تثير بعض الإشكاليات، فأولاً تحتفظ الولايات المتحدة بمصالح مهمة مرتبطة بالأمن القومي في الشرق الأوسط الكبير، بما في ذلك الحاجة إلى العمل مع شركاء في المنطقة لمواصلة الضغط على الجماعات الإرهابية لمنعها من استعادة قوتها ومهاجمة الأميركيين، كما أن للولايات المتحدة مصلحة حيوية في مكافحة الانتشار النووي في المنطقة، وبشكل خاص في منع إيران من حيازة سلاح نووي، وتجنب سلسلة الانتشار المحتملة التي يمكن أن تسببها قنبلة نووية إيرانية، ومن المصالح الأخرى ذات الأهمية ضمان أن إسرائيل لديها الإمكانات اللازمة للدفاع عن نفسها، وضمان حرية الملاحة وصادرات الطاقة التي يمكن الاعتماد عليها، والتي تعتبر أساسية لأمن وازدهار الولايات المتحدة وحلفائها.
وهنا يكمن التحدي الأساسي بحسب برادلي بومان، مدير مركز القوة العسكرية والسياسية لدى المؤسسة، فبينما ينبغي على الولايات المتحدة تعزيز موقفها وقدراتها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، قد تحرم التخفيضات العسكرية الكبيرة في الشرق الأوسط القيادة المركزية الأميركية من الموارد اللازمة لتأمين هذه المصالح، الأمر الذي يزيد من فرص تحول المشكلات الأصغر إلى أزمات أكبر، مما قد يجبر واشنطن على إعادة إرسال أعداد أكبر من القوات الأميركية إلى الشرق الأوسط مستقبلاً، هذا بالضبط ما حدث بعد الانسحاب من العراق عام 2011، وهو الانسحاب الذي تجاهل الأوضاع على الأرض ونصائح القادة العسكريين.
بنية أمنية مشتركة
وفي حين لن يكون ذلك سبباً يدفع إلى إعادة إرسال عشرات الآلاف من الجنود الأميركيين إلى الشرق الأوسط، ولكنه سبب للحفاظ على ما يطلق عليه الجيش "وضع اقتصاد القوة" في المنطقة وتقوية الشركاء وبناء بنية أمنية مشتركة (تكون السعودية مركزاً لها)، والتدقيق في أي اقتراحات تتضمن عمليات سحب أخرى، بعد كل ذلك، وفقاً لما كتب وزير الدفاع السابق ليون بانيتا، في ديسمبر (كانون الأول) 2020، "يجب علينا أيضاً تطبيق التدقيق نفسه على عمليات الانسحاب (مثلما نفعل مع عمليات نشر القوات)".
ويتحدث المراقبون في واشنطن عن حاجة الولايات المتحدة ودول الخليج إلى ضرورة إصلاح علاقتهما، فيلفت لورد إلى تقارير إعلامية تشير إلى أن الرياض تسعى إلى صفقات أسلحة كبيرة مع الصين حتى في الوقت الذي تستقبل فيه زيارات من كبار المسؤولين الأميركيين في إطار محاولات واشنطن للتوسط في اتفاق لتطبيع العلاقات السعودية مع إسرائيل، لكن في الوقت نفسه يقول آخرون إن الحلفاء في الخليج عليهم أن يدركوا أن الصين تفتقر إلى الإرادة السياسية والقدرة العسكرية لتحل محل الولايات المتحدة عندما يتعلق الأمر بمواجهة التهديد الإيراني وتقديم الضمانات الأمنية، وهذا يقتضي التوقف والتفكير ملياً قبل اتخاذ أي خطوات رئيسة إضافية تجاه الصين.
ويخلص المراقبون إلى أن البيت الأبيض والبنتاغون والكونغرس متوافقة في شأن رؤية للتكامل الأمني في الشرق الأوسط، ومن ثم إذا لم تنتهز إسرائيل وجيرانها هذه اللحظة من إجماع واشنطن النادر للعمل نحو إطار أمني متعدد الأطراف من شأنه أن يفيدهم جميعاً مع التفاهم حول الضمانات والشروط، فقد نستعين بمزحة وزير الخارجية الإسرائيلي السابق أبا إيبان الشهيرة منذ عام 1973، مع تعديلها، بأن "العرب والإسرائيليين لا يفوتون فرصة لتفويت فرصة"، وفق قول لورد.