بعد إطلاق سراح جعفر بناهي من السجن في فبراير (شباط) الماضي عقب يومين على مباشرته إضراباً عن الطعام، حُكم على سينمائي آخر بالسجن لمدة ستة أشهر قبل أيام، وهو سعيد روستائي، المخرج الصاعد البالغ من العمر 35 سنة. وكأن السلطات الإيرانية لم تتعلم أي شيء، ولم تستفد من تجارب الماضي.
اضطهاد الفنانين عدو أي نظام، تنتشر أخباره كالنار في الهشيم، ويحدث ضجة وتضامناً على نطاق دولي، وهذه إجراءات لا تخدم سمعة نظام الملالي التي أصبحت في الحضيض، خصوصاً بعد الانتفاضة الشعبية الأخيرة والقمع الممارس للحد منها، ومع ذلك تصر الجهات القضائية على معاقبة السينمائيين ومحاسبتهم، فقط لأنهم يمارسون عملهم.
التهمة الموجهة إلى روستائي هي المشاركة في مهرجان "كان" 2022 بفيلمه "إخوة ليلى" الذي عرض في مسابقة تلك الدورة. صحيفة "اعتماد" الإيرانية نقلت عن المحاكم الثورية الإيرانية حكمها على سعيد روستائي وجواد نوروزبيكي، وهما مخرج "إخوة ليلى" ومنتجه، بستة أشهر من السجن.
فبحسب تلك المحكمة، أسهم هذان في مشروع البروباغندا الذي تقوده المعارضة ضد النظام الإسلامي في إيران. مع ذلك، لن يقبع المتهمان في السجن إلا تسعة أيام، أما بقية المحكومية فسيبقى مفعولها سارياً طوال خمس سنوات، وعلى روستائي ونوروزبيكي أن يمتعنا عن الانخراط بأي نشاط يتعلق بـ"جريمتهما" خلال هذه الفترة كلها، أي العمل السينمائي.
مخرج الفيلم ومنتجه ليسا الوحيدين اللذين كانا ضحية هذا النظام وعسفه. فالممثلة الرئيسة تارانيه أليدوستي كان قد قبض عليها بسبب دعمها لحركة "امرأة، حياة، حرية"، على حسابها في "إنستغرام"، كما أنها خلعت حجابها واحتجت على إعدام عدد من المتظاهرين. سجنت أليدوستي ثلاثة أسابيع، قبل أن يطلق سراحها.
دعم عالمي
فور نشر الخبر، سارع المجتمع السينمائي إلى التضامن مع روستائي، فصرح المدير الفني لمهرجان "كان" السينمائي تييري فريمو، قائلاً "تريد السلطات الإيرانية كم أفواه السينمائيين الإيرانيين الشباب. كان الغضب أول رد فعل عندما بلغنا الخبر، خصوصاً أن هذا القرار تطلب أكثر من عام ليصدر. كنا نعلم أن الفيلم أرسل إلينا من دون تصريح من السلطات الإيرانية، فروستائي كان مقتنعاً بأنه لن يناله لو طلبه. عرض الفيلم في (كان)، ونال صدى طيباً. إنه فيلم في غاية الجمال. الاحتجاج الدولي على ممارسات السلطات الإيرانية له أثر كبير في إيران. نحن عبرنا عن رأينا ضد هذه المحاكمة، وكذلك سينمائيون مثل مارتن سكورسيزي، وجهات كجمعية السينمائيين الفرنسيين. من الضروري أن يشعر المضطهدون بأننا نفق في صفهم، وهم يعرفون أننا في صفهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال فريمو إن "إخوة ليلى" ليس بياناً سياسياً ضد الحكومة الإيرانية، بل فيلم ينتمي إلى "سينما المؤلف" ويروي الحياة اليومية لعائلة في إيران، لكن في نظر الحكومة الإيرانية، إن كل فنان يحقق النجاح خارج بلاده يصبح مذنباً ومتهماً. في نظر فريمو، هذا السلوك يضع مستقبل السينما الإيرانية على المحك. فمعظم السينمائيين ما عادوا يتقدمون بطلب تصاريح لتصوير أعمالهم، لأنهم يعرفون أنهم لن يحصلوا عليها، وهذا في نظر فريمو دليل على القسوة التي صار عليها هذا النظام الذي "نعلم مدى تأثيره السلبي في النساء".
وذكر فريمو بقضية المخرج علي أحمد زادة وفيلمه "منطقة حرجة" الذي صور بالسر في شوارع طهران ومن دون أي تصريح، ثم عرض في مهرجان لوكارنو قبل أيام، ونال الجائزة الكبرى، ولكن لم يستطع المخرج الذهاب إلى المهرجان لتسلم جائزته، فالسلطات حجزت جواز سفره وأحالته على التحقيق.
بعد فيلمه الثاني "المتر بستة ونصف" (2021) عن تعاطي المخدرات في إيران، أنجز سعيد روستائي مع "إخوة ليلى" ملحمة أسرية عن عائلة إيرانية على وشك التفكك. من خلال الساعات الثلاث التي يستغرقها الفيلم، نتابع ما يمكن اعتباره بورتريهاً لبلاد وناس حيث قمع من جانب وعقوبات اقتصادية من جانب آخر، وفي وسطهما المواطن الإيراني، هذا كله يعمق الفوارق الطبقية، فمن في الأسفل ينحدر أكثر، أما الذي في الأعالي فلا يطاوله شيء.
يقول روستائي إن الحكاية صنعت نفسها بنفسها. وجدها في كل مكان كان يذهب إليه، سواء في البيت أو خارجه، في التلفزيون، الجميع كان يتحدث عنها. حكاية فيلمه منتشرة في كل مكان داخل العائلات كلها، ولكن بأشكال متفاوتة. في رأيه، يكفي أن تخرج لتراها. "أفلامي من الحياة وحياتي من الأفلام" يقول المخرج الطموح الذي لا يخفي أنه عندما يغضب يلجأ إلى السينما، فهي وسيلته للسيطرة على الغضب.
منع في طهران
عندما التقيته في مهرجان "كان" 2023، سألته ما إذا كان حراً وهو ينجز هذا الفيلم، فأجاب بضحك "طبعاً، لم يكن سهلاً. واجهتنا صعوبات كثيرة للحصول على التصاريح من أجل التصوير. وإلى الآن، لا أملك إجازة تسمح لي بعرض الفيلم في إيران. هل تعلم أني احتجت من أجل فيلمي السابق إلى عام كامل كي أحصل على تصريح للتصوير؟ ثم بعد ذلك، واجهتنا صعوبات كبيرة لعرضه في طهران. أما عن العرض في مهرجان "كان"، فلا نستطيع أن نتكهن موقف السلطات من شيء كهذا. كان هناك في الماضي أفلام فازت بجوائز في "كان"، وهذا لم يمنعها من أن تواجه مشكلات في إيران، في المقابل ثمة أفلام استفادت من الضجة المثارة حولها، فتعاملت السلطات معها بليونة أكثر. لا أعرف إذا كانت السلطات ستسمح لي بعرض الفيلم، لكن ما أعرفه في المقابل، هو أنه يجب عدم الخوف من فيلم. فهو مجرد فيلم".
في تصريح خاص لـ"اندبندنت عربية"، قال الناقد العراقي زياد الخزاعي إنه في عنوان مقال نقدي له عن الفيلم أشار إلى "العمائم المغيبة"، في محاولة "للتوكيد أن نصه الكبير والمضيء والجسور والديناميكي، لم يكن في هاجسه التعارض بحدة مع سلطة ثيوقراطية برخص إبداعي".
وأضاف "التسيس ينأى بنفسه عن مساءلة تقوى الشخصيات بكثرتها، حتى المشهد الافتتاحي السجالي لمجلس عزاء عائلة ثرية، يصبح باباً للمناكدة الاجتماعية، وليس اجتماعاً للتبتل والترحم، غامزاً بفطنة إلى عمائم مغيبة، لن تظهر على الشاشة بتاتاً، تهيمن على مصائر دنيوية عامة، وتعاند في بسط سطوة غيبية وتعميمها كحالة وحيدة للفرج".
يعلق الخزاعي على قرار محاكمة روستائي ومنع فيلمه بالقول "ما أشرت إليه هو بالنسبة إلى سبب كافٍ كي تسحب يد سعيد من العمل، لكن السماح بالعرض (الكاني) له داخل المسابقة، ورفع علم البلاد فوق الـ(كروازيت)، يصبح مدعاة ريبة في شأن قرار سجنه، بحجة مخالفته لإرادة سياسية ضد عرضه في المهرجان المرموق. استهداف روستائي واعتقاله، وقبله جعفر بناهي ومحمد رسول آف وغيرهما، هو تبيان جلي لتسيس الفعل السينمائي، واستغلاله كمناورة تأديبية".
وأضاف "الجهة الراعية للفن السابع في إيران ما فتئت تضع تهديداتها لجموع المبدعين في هذا القطاع المؤثر والحيوي والخلاق، في اعتبار أن أفراده تابعون إلى (احترازات) أيديولوجية واجتماعية، يتوجب عليهم الخضوع لشروطها، وهي نزعة قهرية آخذة في التعاظم، بحجة استهدافها قيماً مجتمعية وتطامنات عرقية وطائفية وطبقية".