ملخص
"لم أشعر برهبة المكان كما كنت أشعر من قبل، شعرت بأني في مكان مختلف عن الذي كنت أزوره من قبل، اختفت بعض التفاصيل القديمة للمسجد والضريح"... لماذا انتقد مصريون تطوير مسجد السيدة نفيسة؟
الأضواء تزين الميدان، والابتهالات على كل لسان، وآلاف من المصريين وغيرهم من جنسيات أخرى، داخل المسجد وخارجه، محبة في "نفيسة العلوم".. مشهد سنوي لاحتفالات مولد السيدة نفيسة في القاهرة، ممتدة النسب لبيت النبوة. والمصريون إذ يحبون آل البيت ويذكرونهم في كل حين، وهم "يصلون على النبي"، في فريضة الصلاة وغيرها، فإن تطوير وترميم مساجدهم وأضرحتهم في القاهرة تكتسب زخماً كبيراً.
وآل البيت، هم متصلو النسب لنبي الإسلام محمد، كما في حالة نفيسة بنت الحسن الأنور بن زيد الأبلج بن الحسن بن علي والسيدة فاطمة، وعلي بن عم نبي المسلمين وصهره، وتعمل مصر على تطوير مساجد آل البيت في مصر، في إطار "خطة للدولة المصرية بتعملها للقاهرة التاريخية عشان نستعيد مكانة مصر في هذا المقام التاريخي العظيم في القاهرة التاريخية" بحسب حديث للرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي.
كان حديث الرئيس المصري من داخل مسجد السيدة نفيسة، يرافقه في افتتاح المسجد بعد تطويره، السلطان مفضل سيف الدين، سلطان طائفة البهرة في الهند، في الثامن من أغسطس (آب) الجاري، وهي طائفة تسهم في تطوير عدد من المساجد في مصر، لكن وبعد الافتتاح وانتشار صور أعقبت التطوير، ظهرت انتقادات مختلفة لعملية التطوير، يرى أصحابها أنها أخرجت المسجد والضريح من "حالة الوقار إلى البهرجة"، و"من البساطة إلى التكلف"، فيما كانت هناك جبهة أخرى ترى أن "التطوير لا بأس فيه".
البحث عن السكينة
لسنوات طويلة، كانت ندى عمران، تزور مقام السيدة نفيسة في القاهرة، تجد هناك طمأنينة لا تجدها في مكان آخر، بحسب وصفها لشعورها وهي داخل المكان، لكنها حين زارت الضريح بعد افتتاحه، لمست تغيرات أزعجتها، وإن وجدت أموراً أخرى جيدة تتعلق بالترميم والتطوير "اللونان الذهبي والفضي يغطيان كل شيء، الضريح شكله اختلف، والطرق المؤدية له، كثرة الإضاءات كانت مزعجة" تحكي الشابة، التي تساءلت حول اختفاء اللون الأخضر والإضاءة التي تميز الأضرحة.
"لم أشعر برهبة المكان كما كنت أشعر من قبل، شعرت بأني في مكان مختلف عن الذي كنت أزوره من قبل، اختفت بعض التفاصيل القديمة للمسجد والضريح" تحكي ندى، التي طالعت أيضاً على مواقع التواصل الاجتماعي انتقادات عدة للتطوير، دفعت البعض للسخرية من ذلك التغيير، ووصفه بـ"قاعة أفراح اللؤلؤة".
تقول ندى، وهي واحدة من سكان القاهرة، إن التطوير أمر عظيم، ومن شأنه الحفاظ على تفاصيل فنية داخل الأماكن الدينية، لكن ما حدث في رأيها، طمس لهوية المكان وتغييره على نحو اعتبرته غير لائق، مستنكرة كافة التفاصيل المزركشة التي لا تتسق مع مكان ديني "لست متخصصة في الشؤون المعمارية، لكنني كمواطنة وإنسانة عادية أستشعر الفرق بين التطوير والتغيير، بعض التفاصيل كان يجب أن تبقى لا أن تختفي".
حديث ندى غير المتخصصة في العمارة والآثار الإسلامية، جاء متوافقاً مع متخصصين نشروا عبر صفحاتهم وحساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي انتقادات لذلك التطوير، كان منهم المعماري المصري عصام صفي الدين، الملقب بـ"شيخ المعماريين"، حين نشر في أوراق عدة رؤيته لذلك التطوير، بعدما زار مسجد السيدة نفيسة في أعقاب تطويره، عقب جدل كبير شمل المكان.
"افتقاد للروحانيات"
يقول صفي الدين، إنه لاحظ زيادة كبيرة للون الأبيض، ونصوعه على الواجهة، يما قد يمحي أصل اللون الحجري المصري الأقدم، والأنسب لقيمة المكان التاريخية، معتبراً أن تنظيفه بمهارة وحسن ترميمه ومعالجته في أضيق الحدود، كان الأفضل. ثم تناول شعوره تجاه المكان، وافتقاده روحانيته وتراكمات الماضي، لتاريخ وأثر إنساني "بل أحسست كأني متجه لبناء جميل وحديث يستعرض زخارف وألواناً".
كان هذا ما سجله صفي الدين، حول المسجد من الخارج، لكن من الداخل فإنه دون ثمان نقاط، شعوره ورؤيته للتطوير الداخلي، كانت بدايتها من افتقاده لـ"الإحساس بالتواضع المكاني المعتاد، على رغم قيمته المعنوية" وافتقاده خفوت الصوت وصداه المناسبين، بعدما زادت حدتيهما بسبب كثرة الرخام والدهانات والمواد العاكسة للأصوات بدرجة أكبر من الامتصاص.
"وجدت أني في وسط زينة إضاءة كهربائية منتشرة متعددة المواضع، أزالت ما كان للمكان من خفوت نسبي للضوء، وأزالت ما كان موجوداً للون الأخضر" وهو لون محبب في المقامات والأضرحة، ومقبول لدى الجميع، منذ أن تعارف الناس عليه واعتادوه، ثم تحدث المعماري حول الزخارف الهندسية الأصلية والمستحدثة، معتبراً أن الأخيرة لم تكن في إطارها المحدد.
أزمة الرخام
وحول الكتابات الخطية، قال صفي الدين إن "بعضها كان في مواضعها الأصلية، والبعض الآخر في مواضع مستحدثة "لكن على ما يبدو أنها مستنسخة بالحاسب الآلي، ولا أثر فيها للعمل اليدوي لأصحابها الأصليين، من عظماء الخطاطين المصريين والأتراك والسوريين"، ملاحظاً أنها لم تكن متضمنة توقيعاتهم التي كانت في الأعمال الأصلية، إضافة إلى أنها كانت داخل إطارات غير مناسبة من حيث الشكل والسمك المناسب، كما كانت الإطارات الأصلية المتوافقة مع عمومية ما حولها.
كان الرخام وزخارفه محل جدل أيضاً، وعبر عنه "شيخ المعماريين" بأنه "أرضيات رخامية في غاية الفخامة، ومصقولة ولامعة، وذات زخارف هندسية بديعة، لكنها جذبت انتباهه بصرياً، وشغلتني بحداثتها عما هو محيط بها". وبحسب عصام صفي الدين، فإن تلك الزيارة لمسجد السيدة نفيسة لم تترك في نفسه الأثر الروحاني الذي اعتاده في سنوات شبابه، وإن عبر عن سعادته بدخول مزارات ومقامات ومساجد آل البيت في جدول العناية والارتقاء، بحسب ما دون على حسابه الشخصي بموقع "فيسبوك".
تاريخ طويل
المسجد الذي يقع في ميدان بات يحمل اسم السيدة نفسية، له تاريخ طويل، أوردت الهيئة العامة للاستعلامات المصرية بعضه، حين ذكرت أنه جاء في خطط المقريزي، أن أول من بنى على قبر السيدة نفيسة، عبيدالله بن السري والي مصر في الدولة العباسية، ثم أعيد بناء الضريح في الدولة الفاطمية، وأضيفت له قبة، في عهد الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، ثم أعيد تجديد القبة في عهد الخليفة الفاطمي الحافظ لدين الله، بعد تصدعات وشروخ حدثت لها، وتم كساء المحراب بالرخام، ثم أمر السلطان الناصر بن محمد بن قلاوون أن يتولى نظارة المشهد النفيسي الخلفاء العباسيون.
لكن شكل المسجد الحالي، يعود إلى أمر من الخديوي عباس حلمي الثاني، بعدما وقع حريق كبير في المسجد عام 1892، فأمر بإعادة بنائه، ليصبح بشكله الحالي، المستوحى من العمارة المملوكية، وفي عهد الرئيس المصري أنور السادات، أضيفت أعمال رخامية للمسجد، وكانت هناك لافتة رخامية تشير إلى أن ذلك جرى في عام 1972.
اختلاف أذواق
الباحثة الأثرية بمتحف فيكتوريا وألبرت في العاصمة البريطانية لندن أمنية عبد البر، دونت ملاحظات تتعلق بتطوير مسجد السيدة نفيسة، لكنها تساءلت حول "رنك" الخديوي عباس حلمي الثاني، واسم الرئيس المصري السابق، محمد أنور السادات، والنجف القديم، وباب الضريح الفضي، واختفائها من المسجد، ضمن انتقادات أخرى شملت عملية التطوير، ولم تكن وحدها من تناولت الأمر عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
خبراء في الآثار الإسلامية، ومشاهير وكتاب وإعلاميون دخلوا على خط أزمة مسجد السيدة نفيسة، كان السياسي ورئيس الحزب المصري الديمقراطي محمد أبو الغار، واحداً منهم، فدون عبر حسابه على موقع فيسبوك نداء وجهه إلى قيادات الدولة المصرية، بحسب ما كتب، قائلاً "أهل القاهرة وأهل الإسكندرية يرغبون بشدة أن تنتقلوا إلى العاصمة الإدارية ومدينة العلمين، وتتمتعوا بأطنان الرخام البراق والبرج الأيقوني العظيم وناطحات السحاب الملتصقة بالبحر وأن تصلوا في أكبر جامع وأضخم كنيسة".
ثم تحدث أبو الغار عن الذوق المختلف "نحن كشعب نريد الحفاظ على تاريخنا وثقافتنا ومساجدنا وكنائسنا القديمة، ذوقنا غير ذوقكم، طريقة تفكيرنا غير طريقة تفكيركم" منادياً بالتوقف عن تدمير تاريخ وجغرافيا وآثار مدن مصر القديمة، مرفقاً صورتين مع ما كتب، واحدة لمسجد السيدة نفيسة، والأخرى للمتنزه بعد عمليات تطوير.
فقدان الهوية
يقول طارق مري، استشاري الحفاظ على التراث الثقافي، وعضو اللجنة الدولية للتراث بالاتحاد الدولي للمعمارين، لـ"اندبندنت عربية" إن "مشروع تطوير مسجد السيدة نفيسة كان له شقان، الأول متعلق بالمسجد، والثاني متعلق بالضريح"، وعلى رغم تحفظه على ما حدث بالمسجد، من تغيير أبواب وإضافة ألوان بيضاء، أخلت بروح المبنى الأصلي وأضاعت أصالته، إلا أن انتقاده الأكبر كان للضريح وما حدث فيه "لا تشعر أنك في مبنى له تاريخ، ضريح السيدة نفيسة كان يتميز بالشعور بالسكينة وحالة من الخشوع، لكن تغيير المقصورة ووضع رخام كان شيئاً مؤذياً للعين ولم يحافظ على تفاصيل المكان" معتبراً أن ما حدث "حالة من فقدان الهوية التاريخية للضريح".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
جاكلين سمير، وهي مشرف عام على تطوير مساجد آل البيت، قالت في مداخلة متلفزة، إن التطوير لا يكون عشوائياً، وإنما تتم دراسة المكان، كون المعمار له نسق يعرفه العالم كله "الترميم إعادة الشيء لأصله، نعطيه جمالاً أكثر ما هو جميل"، قبل أن تتناول الهدوء النفسي والسكينة داخل مسجد السيدة نفيسة، وقدسيتها الدينية، كونها من آل البيت، لكنها في تصريحات صحافية لمواقع مصرية محلية، ردت على انتقادات شملت التطوير، واعتبرتها عارية من الصحة وغير حقيقية. تقول جاكلين إن مسجد السيدة نفيسة على رغم كونه غير تابع لوزارة الآثار، إلا أنه عومل معاملة الأثر، ولم يغير أي شيء فيه، مؤكدة أن هناك توثيقاً كاملاً للمسجد قبل وبعد التطوير بالصور والفيديو، كون تطوير مساجد آل البيت "ليس لعبة".
الحسين أولا
شملت التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي أحاديث متفرقة حول تطوير مسجد الحسين، الذي افتتح بعد أعمال تطوير وترميم في أبريل (نيسان) 2022، وشملت ترميماً للجدران، وتغييراً لشبكة الكهرباء، وتزويد المسجد بتكييف مركزي، وتنفيذ عزل حراري للأسطح، وتغيير الإضاءة وأنظمة الصوت، وتوسيع مصلى للسيدات، وإضافة مساحة خارجية للمسجد مع بناء سور، له ست بوابات للأفراد وأربع للسيارات.
وانتقد البعض آنذاك عملية تطوير مسجد الحسين، في القاهرة، وتغير شكل قبة المسجد، ووجود سور حوله، وإزالة المناطق المزروعة حوله، بما يغير الشكل المألوف للمسجد ومحيطه، وكان قبلها المتحدث باسم رئاسة الجمهورية، قد أوضح أن الرئيس المصري وجه بضرورة الاهتمام بأضرحة ومقامات آل البيت، وما فيها من زخارف معمارية، تماشياً مع الطابع التاريخي والروحاني للأضرحة والمقامات، ويشمل ذلك مسجد الحسين والسيدة نفيسة والسيدة زينب.
التطوير مستمر
وفي ما يتعلق بمسجد السيدة زينب في القاهرة، وخلال كلمة للرئيس المصري خلال افتتاح مسجد السيدة نفيسة بعد أعمال التجديد قال، "منذ فترة كان هناك تطوير لمسجد الحسين، واليوم نحن في السيدة نفيسة، ومتحركين أيضاً في مسجد السيدة زينب، وفتحناه في رمضان للصلاة، لكن نفس الإجراء اللي بيحصل هنا بيحصل هناك".
وبعد افتتاح مسجد السيدة نفيسة، بدأ الحديث عن مسجد السيدة زينب، وضرورة أن يراعي التطوير المكانة التاريخية للمسجد، وهويته التي اعتادها المصريون. تقول سهير حواس، عضو مجلس إدارة الجهاز القومي للتنسيق الحضاري الذي يتبع وزارة الثقافة، في حديثها لـ"اندبدنت عربية" إن هناك تفاصيل تتعلق بالأماكن الدينية وتطويرها وتصميمها، تضيف شعور الهيبة للمكان الخاص بالعبادة، في ما يتعلق بالإضاءة ولونها وشدتها، وما إذا كانت مباشرة أو غير ذلك، وهي أمور يجب مراعاتها في أشكال التطوير كافة التي تشمل أماكن دينية وغيرها "هناك أماكن كالمحاكم والمساجد والكنائس لها اشتراطات في تصميمها، والزخرفة والإضاءة لو كانتا مبهرجتين، ففي الأمر مشكلة".