Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صحراء المماليك مدينة موتى توثّق تاريخ العصور المصرية الوسطى

تحوي جثامين ملوك وأمراء من مصر والشام وعلماء ومؤرخين مثل المقريزي وابن خلدون

مشهد من صحراء المماليك (خزانة الكتب المصرية)

ملخص

تحوي جثامين ملوك وأمراء من مصر والشام وعلماء ومؤرخين مثل المقريزي وابن خلدون

يناقشُ كتابُ "صحراء المماليك: بوابة السماء الشرقية" للمؤرخ المصري هاني حمزة (دار العين) موضوعاً بالغ الثراء والأهمية، بخاصة مع حالة الجدل والرفض الشعبي الكبير لهدم مجموعة من الأماكن الأثرية في هذه المنطقة، من أجل مشاريع طرق وجسور تقوم بها الحكومة المصرية في الآونة الأخيرة، مسَّت قبور العديد من القامات السياسية والفكرية والرموز المصرية مثل الشاعر محمود سامي البارودي، وطه حسين وغيرهم، والكثير من المقابر والأضرحة والمآذن التي تحظى بقيمة تاريخية كبيرة لا تقدر بثمن.

ولع بالجبانات

نُشِرَ هذا الكتاب باللغة الإنجليزية في الولايات المتحدة عام 2001، فهو في الأصل أطروحة جامعية في تاريخ الفن والعمارة الإسلامية من الجامعة الأميركية في القاهرة. ومع تلك الأحداث الأخيرة وزيادة الاهتمام بالمنطقة، وبعد قرابة العشرين عاماً، قام هاني حمزة بترجمة كتابه إلى العربية بنفسه، وهو يتعلق بدراسة صحراء المماليك التي تعد منطقة أثرية مهمة للغاية، قريبة من منطقة الأزهر، وتسهل زيارتها مشياً أو في وسيلة انتقال بسيطة مثل الدراجة. ومعظم آثارها للأسف مغلقة أمام الزائرين ومهملة وتحتاج إلى القليل من الاهتمام والصيانة والنظافة، لأنها سليمة عموماً وخالية من التعديات.

يكشف الكتاب الثري حلقة مهمة من حلقات ولع المصريين بالجبانات عبر تاريخهم الطويل، بحيث لم تحتفِ أمة من الأمم بالموتى بقدر ما احتفى المصريون. فأشهر معالمهم الأثرية كالأهرامات في الجيزة ووادي الملوك والملكات في الأقصر هي مقابر بالأساس. وتحتفظ مصر بسلاسل من الجبانات التاريخية من كل عصر من العصور وحضارة من الحضارات التي تعاقبت على أرضها. ففي منطقة سقارة والجيزة تقع مقابر الدولة القديمة، وفي بني حسن تقع مجموعة من مقابر ملوك الدولة الوسطى، وفي الأقصر تكثر مقابر ملوك الدولة الحديثة، وتزخر الإسكندرية بمقابر البطالمة والرومان. ومع دخول العرب إلى مصر اسْتُعْمِل سفح جبل المقطم كمكان لدفن الموتى المسلمين طبقاً لرواية أبي القاسم عبدالرحمن المعروف بابن الحكم في كتابه "فتوح مصر" توفي (257هـــ/ 871م).

وهو سليل عائلة ثرية من العلماء والمؤرخين خلال القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، التي يذكر فيها كيف وقع أخيار المسلمين على هذا المكان لدفن موتاهم فيه، وذلك حين طلب المقوقس من عمرو بن العاص أن يبيعه سفح المقطم بسبعين ألف دينار. وعندما سأل عمرو بن العاص بتكليف من الخليفة عمر بن الخطاب، عن أهمية هذه المنطقة الجدباء، أجاب المقوقس أنه طبقاً لكتابهم، فإن أشجار الجنة تنمو في هذه المنطقة، فرفض عمرو بن العاص أن يبيعه تلك الأرض بناء على أوامر عمر بن الخطاب وخُصِّصَتْ المنطقة لدفن المسلمين.

القَرَافَة قبيلة ومنطقة

تضم هذه المقابر رفات كبار الصحابة والقراء والمتصوفة والعلماء مثل عمرو بن العاص والإمام ابن ورش، والإمام الشافعي، وعرفت باسم القرافة، هو اسم علم قبيلة يمنية، لكنه أصبح مسمى يطلق على الجبانات عموماً في مصر. بدأ ذلك مع تأسيس مدينة الفسطاط على يد عمرو بن العاص، ومع نمو المدينة وتأسيس مدينتي العسكر والقطائع تمددت القرافة إلى الجنوب والشمال والشرق، أو ما سُمي بالقرافة الكبرى والقرافة الصغرى، وأُنْشِئَتْ أولى المقابر الفاطمية في القاهرة داخل المدينة. ولكن مع فتح مدينة القاهرة للعامة من الأهالي بانتهاء العصر الفاطمي (973هـــ/ 1171م) أُنْشِئت الجبانات شمال باب النصر، في الجنوب الشرقي للمدينة في حارة الوزير. وكان الطور الأخير لإنشاء الجبانات في القاهرة تحت حكم سلاطين المماليك في ما يعرف بصحراء المماليك أو جبانة القاهرة الشمالية. ولها عدة أسماء شائعة، ففي الأدبيات الغربية الحديثة يطلق عليها اسم "الجبانة الشمالية لمدينة القاهرة"، وذلك للتفرقة بين صحراء المماليك وبقية جبانات القاهرة، وتسمى أيضاً باسم مقابر الخلفاء، وفي مصادر أخرى مثل الجبرتي تسمى بجبانة البستان أو تربة المجاورين. وتستعمل الأدبيات العربية المعاصرة اسم القرافة الشرقية للإشارة إليها، ومن المفارقات أن الاسم الأندر للصحراء هو مقابر المماليك وهو الاسم الأنسب لها، وقد اقترحه عالم الآثار حسن عبدالوهاب واستعملته الهيئة العامة للآثار.

التطور العمراني

يعكس تاريخ صحراء المماليك وتطورها العمراني إلى حد كبير، مراحل تطور الدولة المملوكية منذ بدايتها الصاخبة (648هــ/1250م) إلى سقوطها (923هــ/1517م)، فقد شهدت نمواً مضطرداً في المباني في تلك المنطقة لمدة قرنين ونيف، بأكثر من 700 منشأة، ولم يبقَ من هذه المنشآت بشكل كامل أو جزئي في الصحراء غير 35 أثراً، أربعة منها تعود إلى المماليك البحرية (678هـ- 784هـ/ 1250م: 1382م) وهي ضريح طشتمر الساقي الذي لقبه المصريون باسم حمص أخضر، وخانقاه خوند طغاي- أم نوك، وضريح ومدخل الأميرة طولباي، وضريح طيبغا الطويل.

ومن المنشآت المملوكية الباقية حتى الآن في الصحراء من الفترة البرجية المبكرة (784هـ 825هـ/ 1382: 1422م) ضريح وخانقاه يونس الدوادار، وخانقاه الناصر فرج، ضريح كزل الناصري، ضريح سعد الدين بن غراب. وبقيت سبع منشآت فقط من الفترة البرجية الوسطى (826هـ: 872 / 1423م:1467) وهي ضريح جانبك الأشرفي، ضريح وخانقاه ومدرسة الأشرف برسباي، زاوية معبد الرفاعي، وضريح خديجة أم الأشرف، وضريح نصرالله المعروف لدى العامة باسم كوز العسل، وضريح يشبك السوداني المعروف باسم قبة السبع بنات، وضريح برسباي البجاسي. وبقي من الفترة البرجية المتأخرة (873هـ: 923هـ/ 1468م: 1517م) نحو 16 منشأة تتمثل في مدرسة وضريح والربع السكني وحوض لسقي الدواب ومقعد وباب وسبيل الأشرف قايتباي، وضريح عبدالله المنوفي، وضريح الكلشني، وواجهة ضريح مراد بك، وخانقاه تكية أحمد أبو يوسف، وضريح وسبيل وإيوان أزدمر- الزمر، وضريح أرزمك، وضريح وخانقاه وقصر سكني وسبيل وكتَّاب قرقماس، وضريح قبة عصفور.

مدينة الموتى

لكنّ المماليك على عكس السلالات الحاكمة السابقة عليهم في مصر، لم يقوموا ببناء مدن جديدة في ممتلكاتهم، بل قاموا بتطوير المدن الموجودة وملء الفراغات فيها، فيما كانت صحراء المماليك هي المحاولة الوحيدة التي قام بها المماليك لإنشاء مجتمعات عمرانية جديدة؛ لكنها كانت مدينة مخصصة للموتى وليس للأحياء. فقد كان الوازع الديني كبيراً لديهم وكان لديهم احترام كبير لرجال الدين ودعموا الطرق الصوفية.

أما عن أكثر الأنماط المعمارية انتشاراً في صحراء المماليك فيأتي في المقام الأول الأضرحة التي قد تكون منفردة أو جزءاً من منشأة أو مجمعاً له وظائف أخرى، ولا يزال باقياً منها حتى الآن 25 ضريحاً. وتتفاوت قباب تلك الأضرحة في الحجم، وتتميز بتنوع الزخارف والنقوش على أسطح قبابها الحجرية الخارجية، ومنها زخارف تعرف باسم الدالات أو الأشرطة الزجزاجية، وهنا أشرطة على شكل سبعات وثمانيات، وبعضها اتبع زخرفة الأطباق النجمية الهندسية المتشابكة، واسْتُعْمِل في البعض الآخر أسلوب الأرابيسك النباتي المتشابك.

والمباني الثانية المعمارية الأكثر انتشاراً في جبانة المماليك هي الخانقاوات، وهي موضع اجتماع أو معيشة الصوفية وهي المؤسسة التي ضخت الحياة في الصحراء، تلك المنطقة المكرسة للموت. وتتكون هذه الخانقاوات في الغالب من حوش سماوي (مفتوح) تحيط به خلاوي وإيوانات على جوانبه، فالخلاوي لإقامة الصوفية والأواوين لأنشطتهم الجماعية، وأكبر تلك الأواوين يزوّد بمحراب ويخصص للصلاة. ويلحق بالمبنى مطبخ وحمام على أن يكون موضع دفن الصوفية خارج مدينة القاهرة. وأقدم خانقاه موجودة حتى الآن في الصحراء هي خانقاه أم أنوك، وقد وصف المستشرقون الذين قدموا إلى مصر بعض الممارسات التي كانت تجري في الخانقاه، وأطلقوا على المتصوفة الذين يتعبدون في الخلاوي اسم الرهبان والقساوسة قياساً على ما يحدث في الأديرة.

المباني المعمارية الثالثة الموجودة في صحراء المماليك هي المدارس، أقدمها مدرسة الأشرف برسباي، وتأتي بعدها المساجد التي اقتصرت وظيفتها في العصر المملوكي على الصلاة فقط. فلم يهتموا ببناء مساجد ضخمة، أي مساجد جوامع تجمع جميع المصلين القاطنين في المنطقة في صلاة الجمعة. ولعل الأبنية المعمارية التي حرص المماليك على بنائها في الصحراء هي الزوايا التي لم يبق منها شيء في صحراء المماليك، ولا يعرف الكثير عن تخطيطها المعماري وهي ربما كانت على شكل قبة. ويُعْتَقدُ أن هذه الزوايا وفرت مرافق أخرى كأماكن للصلاة وممارسة الشعائر الصوفية وأماكن لعيش الشيخ وعائلته وجماعة الصوفية والخلاوي والمطبخ وأماكن تخزين المياه ودورة مياه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لم تكن هذه المقابر مدينة للموتى خالية من الحياة، بل كان ينظم المصريون زيارات أسبوعية متكررة. يذكر المقريزي الأضرحة السبعة التي يجب زيارتها على رأسها ضريح الصوفي الشهير ذو النون المصري، وذلك تحت قيادة دليل يسمى شيخ الزُّوار طبقاً لجدول زمني معين، فيقود كل شيخ مجموعة من الحجاج بمن فيهم النساء والأطفال. ويضيف المقريزي أن سلوك الزائرين/ الحجاج خلال هذه الزيارات، عادة ما كان يستحق الثناء ولكنه كان مستهجناً في بعض الأحيان. وبلغ عدد السكان في جبانة صحراء المماليك بحسب التقديرات في القرن التاسع الهجري الرابع عشر الميلادي بين 3450 و 4600 نسمة.

ويذكر ابن بطوطة الرحالة المغربي الشهير الذي زار القاهرة في القرن الثامن الهجري الرابع عشر الميلادي (725هـ/1325م) أن المصريين يبنون القباب الحسنة في القرافة ويجعلون عليها الحيطان فتكون كالدُّور ويبنون بها البيوت، ويرتبون القرآن ويقرأون ليلاً ونهاراً بالأصوات الحسان، ومنهم من يبني الزاوية والمدرسة إلى جانب التربة، ويخرجون في كل ليلة جمعة إلى البيت بأولادهم ونسائهم ويطوفون على الأسواق بصنوف المآكل.

وظهرت أيضاً كتب دينية جديدة تتناول موضوع زيارة القبور والأضرحة في جبانات القاهرة، وأصبحت الكتب، أدلة لإرشاد الحجاج عند الزيارة. ووصلنا من أسماء هذه الكتب 21 عنواناً لكن أربعة كتب فقط منها وصلت كاملة، وأقدمها كتاب بعنوان "مرشد الزوار لقبور الأبرار" لابن عثمان. ويكشف المقريزي أن زيارة القبور كانت تُنظم ثلاث مرات أسبوعياً، في يوم الأربعاء، وليلة الخميس، ويوم السبت.

المزيد من ثقافة