ملخص
يذكر أن متوسط نمو الاقتصاد الصيني في العقود الثلاثة الأولى من فترة تحولها الاقتصادي لم يكن يقل عن نسبة 10 في المئة سنوياً
مع نجاح الهند في إيصال مركبة فضائية إلى القطب الجنوبي للقمر، بعد أربع سنوات من محاولة فاشلة سابقة، تحتل الهند العناوين حول العالم. بخاصة أن نجاح الهند الفضائي جاء بعد أيام قليلة من فشل روسيا في إيصال مسبار إلى القمر في أول محاولة لموسكو منذ نحو نصف قرن، إلا أن الهند بالفعل محط اهتمام شديد في الآونة الأخيرة، بخاصة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها في الغرب تزامناً مع التوجه نحو الضغط على الصين لوقف صعودها الاقتصادي.
ومع مشكلات الاقتصاد الصيني المتواترة في الآونة الأخيرة، أصبح الشائع في الكتابات والتعليقات الغربية الحديث عن الهند باعتبارها القادرة على أن تصبح "صيناً جديدة"، فالاستثمارات المباشرة التي كانت تتوجه إلى الصين في العقود الماضية يمكن أن تتحول إلى الهند وفيتنام، ومصانع الشركات الغربية التي انتقلت إلى الصين منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى الآن تنتقل إلى الهند.
طبعاً، تدرك الهند كقوة صاعدة ومن الأعضاء المؤسسين لتجمع "بريكس" مع الصين وروسيا والبرازيل، أن الوضع العالمي الحالي فرصة لها لتعزيز مكانتها الاقتصادية داخلياً وعالمياً، أما الآن فهي "لحظة الهند"، كما يقول كثيرون من المحللين الغربيين، وفي ما يلي محاولة لعرض الفرص والتحديات التي تحكم إمكانية تحول الهند إلى قوة اقتصادية عالمية كبرى.
فرص الهند
تستضيف الهند، الشهر المقبل، قمة دول "مجموعة العشرين" الغنية باعتبارها رئيسة الدورة الحالية، ولعل عام رئاستها أيضاً فرصة لها لتعزيز مكانتها بين الدول الغنية بخاصة أن اقتصادها ينمو بأسرع وتيرة بين تلك الدول، فقد حقق الناتج المحلي الهندي نمواً بنسبة 7.2 في المئة في عام 2023 (المنتهي بنهاية الربع الأول من هذا العام).
وبحسب تقديرات الباحثين في مؤسسة "ستاندرد أند بورز" للتصنيف الائتماني يتوقع أن ينمو الاقتصاد الهندي بنسبة أقل في العام المنتهي بمارس (آذار) 2024 عند نسبة ستة في المئة، لكن ذلك سيظل نمواً أكبر من نمو أي بلد عضو في "مجموعة العشرين"، بما فيها ثاني أكبر اقتصاد في العالم بالصين حيث من المتوقع نسبة نمو ما بين خمسة و5.5 في المئة.
وإذا كان للهند أن تحقق ما يتوقعه المحللون بأن تصبح قوة اقتصادية عالمية كبرى على مدى 10 سنوات المقبلة، فهي في حاجة للحفاظ على معدل نمو قوي، وتتوقع "ستاندرد أند بورز" في دراسة مطولة لها عن الهند أن يكون متوسط النمو السنوي للاقتصاد الهندي على مدى العقد المقبل بنسبة 6.7 في المئة، يذكر أن متوسط نمو الاقتصاد الصيني في العقود الثلاثة الأولى من فترة تحولها الاقتصادي لم يكن يقل عن نسبة 10 في المئة سنوياً.
ومن شأن النمو القوي المستدام في الهند أن يراكم الثروة التي توفر رأس المال اللازم للاستثمار في توسع وتنشيط الاقتصاد، وإذا حافظت على نسبة نمو عند 6.7 في المئة سنوياً من العام 2024 إلى عام 2031 فإن الناتج المحلي الإجمالي يمكن أن يتضاعف ليصل إلى 6.7 تريليون دولار، وأن يرتفع نصيب الفرد الهندي من الناتج المحلي الإجمالي إلى أربعة آلاف و500 دولار.
وتمثل الهند ثالث أكبر سوق في العالم، وهناك فرصة لنمو هذه السوق بقوة مع نمو وتوسع الاقتصاد والعدالة في توزيع فوائد ذلك النمو، فمن شأن تراكم الثروة أن يكون دافعاً نحو مزيد من النمو الاقتصادي الذي يشكل الاستثمار القدر الأكبر من محركاته. ووصل نصيب الاستثمار من الناتج المحلي في عام 2023 أعلى مستوى له في 10 سنوات ليبلغ نسبة 34 في المئة، ويتوقع في حال النمو القوي على مدى السنوات المقبلة أن تصل هذه النسبة إلى 53 في المئة بنهاية 10 سنوات المقبلة، وفي مقابل النصيب الهائل للاستثمار من الناتج المحلي الإجمالي لا يزيد نصيب قوة العمل على نسبة 17 في المئة.
التصنيع والخدمات
وتتوقع الدراسة المطولة لمؤسسة "ستاندرد أند بورز" أن تنمو سوق الاستهلاك المحلية الهندية بأكثر من الضعف بحلول عام 2031، أي أن يصل حجمه إلى 5.2 تريليون دولار، مقابل 2.3 تريليون دولار العام الماضي 2022، على أن يعكس هذا النمو الزيادة في عدد السكان وارتفاع دخول المواطنين، ويقدر أن تؤدي الزيادة في نصيب الفرد الهندي من الناتج المحلي الإجمالي إلى زيادة الانفاق الاستهلاكي في مجالات مثل الترفيه والاتصالات والمطاعم والفنادق.
ويظل التحدي الأكبر أمام الهند كي تتحول إلى قوة اقتصادية كبرى، أو "صين ثانية"، هو أن تطور نصيب قطاع الصناعة في اقتصادها من الناتج المحلي الإجمالي مقابل قطاع الخدمات، إذ يمثل قطاع الخدمات نسبة 42 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الهندي هذا العام، مقابل نسبة 30 في المئة عام 2012، ومع خطط الحكومة لزيادة الصادرات الهندية بحلول عام 2030 إلى تريليوني دولار، ينتظر أن تزيد نسبة قطاع الخدمات من الاقتصاد أكثر، إذ تشكل خدمات تكنولوجيا المعلومات القدر الأكبر من تلك الصادرات إلى جانب القطاعات المحلية مثل الغذاء والخدمات المالية وغيرها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتحتاج الهند إلى سياسات مكثفة لتعزيز قطاع التصنيع، عبر زيادة مساهمة قوة العمل العاطلة وأيضاً زيادة إنتاجية العامل في الاقتصاد الهندي، وذلك تحد يتطلب الاستثمار بكثافة في التعليم والصحة والبنية التحتية التكنولوجية وغيرها، وأخذاً في الاعتبار أن معظم الاستثمار حتى الآن هو من قبل الحكومة، فإن زيادة مساهمة القطاع الخاص في تلك الاستثمارات شرط أساسي لتحقيق النمو الصناعي المأمول، هذا إلى جانب زيادة تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، بخاصة لتمويل الشركات الناشئة في المجالات المختلفة.
حتى الآن تتركز تلك الاستثمارات على الشركات الناشئة في مجالات خدمية مثل التكنولوجيا المالية وما شابه، أما الاستثمار في التصنيع فيحتاج إلى إصلاحات واسعة وتعديل للقوانين والنظم ما يتطلب إرادة سياسية قوية وتوافقاً بين الحكومة المركزية وحكومات الولايات في شبه القارة الهندية. في العام الماضي 2022 بلغ حجم تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى الهند 84.8 مليار دولار بحسب أرقام وزارة التجارة والصناعة الهندية، وكان نصيب قطاع التصنيع من ذلك الاستثمار الأجنبي المباشر 21 مليار دولار معظمها في شركات تكنولوجية.
المقارنة مع الصين
ويزيد عدد سكان الهند عن 1.4 مليار نسمة، وهو ما يماثل عدد سكان الصين تقريباً، مع فارق أن الفرصة أمام الهند أكبر لتطوير سوق الاستهلاك الداخلي عن الصين، ويرجع ذلك لاعتبارات كثيرة منها أن معدلات الفقر في الهند أعلى بكثير من الصين، بالتالي فإن النمو الاقتصادي القوي إذا تزامن مع إصلاحات سياسية واجتماعية يمكن أن تعزز الإنفاق الاستهلاكي في السوق الهندية بمعدلات أعلى منها في الصين.
مع تساوي عدد السكان تقريباً، نلحظ الفارق بين حجم الاقتصاد في البلدين، فبينما يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي الصيني 19 تريليون دولار وصل حجم الناتج المحلي الإجمالي الهندي إلى 3.4 تريليون دور هذا العام، أي إن اقتصاد الصين يزيد على أربعة أضعاف اقتصاد الهند.
قبل نحو نصف قرن كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في البلدين الآسيويين الكبيرين متقارباً، لكن الآن لا وجه للمقارنة بين الأرقام فيهما، ففي عام 1979 كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الصين 404 دولارات، بينما في العام نفسه كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الهند 373 دولاراً.
أما الآن فتضاعف نصيب الفرد الصيني من الناتج المحلي الإجمالي لبلاده حتى وصل إلى 11 ألفاً و560 دولاراً في العام الماضي 2022، بينما كان نصيب الفرد الهندي من الناتج المحلي الإجمالي لبلاده العام الماضي عند 2085 دولاراً، ولا يتعلق الأمر بالأرقام فحسب، بل إن التغيرات الاجتماعية والديموغرافية التي شهدتها الصين على مدى العقود الماضية أدت إلى تحول هائل في المجتمع الصيني وتكون طبقة وسطى راسخة، وذلك ما لم تشهده الهند، ليس لأسباب اقتصادية فقط وإنما لاعتبارات سياسية واجتماعية معقدة، فعلى رغم قوة الحكومة المركزية في الهند، فإن التباين الشديد بين الولايات المختلفة المكونة لشبه القارة الهندية، اقتصادياً واجتماعياً وأحياناً دينياً وثقافياً، حتى تجعل التكامل بينها صعباً أحياناً، إنما على العكس في الصين، التي ما زالت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني وقيادتها هي التي تحكم البلاد، وعلى رغم المساحة المتزايدة للحكومات المحلية في الصين، فإن السلطة المركزية في بكين تملك قدرة أكبر على "ضبط" مسيرة الاقتصاد وغيره من جوانب الدولة الصينية.
ويرى البعض في تلك المقارنات أن الصين ربما وصلت إلى قمة النمو بينما الفرصة أمام الهند أكبر لتحقيق آفاق نمو هائلة مع السعة الفائضة في السوق الهندية، بالتالي إذا حافظت الهند على معدلات نمو قوية وتمكنت من مواجهة التحديات السياسية والاجتماعية الكبيرة يمكن أن تصبح قوة اقتصادية عالمية، حتى إن لم تتجاوز الصين فقد تجاورها في المرتبة الثانية لأكبر الاقتصادات في العالم بعد الولايات المتحدة، إلا أن ذلك يعني ضمناً أن اقتصاد الصين سيتوقف عن النمو تماماً، بل وربما ينكمش، وهذا ما لا يبدو محتملاً حتى في ظل التباطؤ الاقتصادي ومشكلات بعض قطاعاته.