ملخص
كيف أفلت النشيد الجزائري من محاولات التعديل؟
تحيي الجزائر في 17 أغسطس (آب) من كل عام ذكرى رحيل "شاعر الثورة" مفدي زكريا بعد خلاف بينه وبين مسؤولين في نظام الرئيس الراحل هواري بومدين كاد أن يعصف بالنشيد الوطني الذي ألفه في السجن وتعتمده البلاد بشكل رسمي.
لطالما أثار النشيد الوطني الجزائري "قسماً" الجدل منذ أن كتبه الشاعر مفدي زكريا في 25 أبريل (نيسان) 1955، إذ اعترض الوفد الفرنسي المفاوض في مفاوضاته مع الحكومة الجزائرية المؤقتة عام 1962 على الكلمات وطالب بحذف مقطع اعتبره مسيئاً لفرنسا إلا أن طلبه قوبل بالرفض.
وليس غريباً أن يتضمن نشيد "قسماً" على مقطع كامل موجه إلى فرنسا، بالنظر إلى بشاعة الاستعمار الفرنسي للجزائر (1830-1962)، ما جعل الشاعر مفدي زكريا يفرغ في كلماته شحنات كبيرة من الغضب والتطلع إلى الحرية والانعتاق من نير المستعمر.
وفي لقاء تكريمي لشاعر الثورة مفدي زكريا، تم تنظيمه في الجزائر العاصمة، بمناسبة الذكرى الـ 46 لوفاته، أشار باحث التاريخ محمد لحسن زغيدي إلى "الحس الوطني العالي لمفدي منذ صغره، وذلك بتأثير من عائلته وتكوينه السياسي الثقافي الذي رسم توجهه مستقبلاً، حيث استلهم أشعاره من التراث الجزائري الثري".
وقال زغيدي إن "مفدي زكريا واحد من الجيل الأول لمؤسسي الحركة الوطنية على رغم حداثة سنه، إذ واكب الإرهاصات الأولى لميلاد الحركة الوطنية الجزائرية، وهو من مؤسسي حزب نجم شمال أفريقيا، وكذلك حزب الشعب الجزائري"، حيث "أسهم في النضال الوحدوي المغاربي".
وبدأ مفدي زكريا (1908-1977)، واسمه الحقيقي الشيخ زكريا بن سليمان بن يحيى، المشهور بوصفه شاعر الثورة الجزائرية، كتابة النشيد الوطني "قسماً" داخل الزنزانة رقم 69 في سجن بربروس في الجزائر العاصمة، بعد أن طلب منه المجاهدان عبان رمضان وابن يوسف بن خدة نظم قصيدة تكون نشيداً وطنياً للثوار ضد الاستعمار الفرنسي، فكانت قصيدة "قسماً" ومن أبياتها:
يا فرنسا قد مضى وقت العتاب
وطويناه كما يطوى الكتاب
يا فرنسا إن ذا يوم الحساب
فاستعدي وخذي منا الجواب
إن في ثورتنا فصل الخطاب
وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
ويرى الوزير الجزائري السابق، لمين بشيشي، في كتابه الموسوم بـ"تاريخ ملحمة نشيد قسماً" إن من أمر بتأليف النشيد، هو الشهيد عبان رمضان وهو من حرص على إيجاد لحن له يوافق طبيعته الثورية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وحسب رواية بشيشي فإن رمضان وضع ثلاثة معايير لكتابة النشيد الوطني تمثلت في "وجوب الدعوة للالتحاق بالثورة تحت لواء جبهة التحرير الوطني، ثم عدم ذكر اسم أي شخص في ثنايا القصيدة، وأخيراً إبراز الوجه القبيح لفرنسا الاستعمارية من خلال أبياتها الشعرية".
وطلب عبان رمضان من الشاعر مفدي زكريا البحث عن ملحن للنشيد الوطني يحوله إلى صيغته النغمية، فتم التلحين أولاً من طرف محمد التوري بعدها تم إسناد المهمة إلى الملحن التونسي محمد التريكي ليسلم النص في نهاية المطاف إلى الملحن المصري محمد فوزي، إذ أرسلت كلمات النشيد بشكل سري إلى مصر، وبعد أن انتهى فوزي من وضع اللحن أعاد إرساله ليوافق قادة الثورة الجزائرية على اللحن الذي اعتبروه ثورياً.
وبعد عام واحد من استقلال الجزائر 1963 اعتمدت قصيدة مفدي زكريا ولحن محمد فوزي نشيداً وطنياً رسمياً للجزائر، بعد أن باءت محاولات الطرف الفرنسي في بتر أحد مقاطع النشيد بالفشل.
واعترافاً بدور الملحن المصري في تلحين نشيد "قسماً"، أمر الرئيس الجزائري الراحل عبد العزيز بوتفليقة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017 بإطلاق اسم محمد فوزي على المعهد الوطني العالي للموسيقى في الجزائر، فضلاً عن منحه "وسام الاستحقاق الوطني" ما بعد الوفاة.
ولم تكن رياح الاستقلال تحمل السلام لمفدي زكريا الذي سرعان ما أبدى معارضته للتفرد بالسلطة بعد الاستقلال وخلال سنوات السبعينيات، وهو موقف اضطره إلى مغادرة البلاد نحو تونس التي بقي فيها حتى وفاته عام 1977.
ويروي مثقفون جزائريون، منهم الروائي أمين الزاوي، في مقالة بعنوان "المثقف والسلطة: ثلاث حالات في الجزائر والمغرب وتونس"، أن "الرئيس الراحل هواري بومدين أمر عام 1968 بتنظيم مسابقة لاختيار نشيد وطني بديل، وأجريت المسابقة وترشح لها الشعراء بالأرقام لا بأسمائهم للمحافظة على الشفافية والنزاهة في اختيار الفائز، وشارك مفدي زكريا فيها باسم مستعار وفاز بالمرتبة الأولى"، بعد عجز كل الشعراء عن نظم نشيد في مستوى "قسماً".
وتشير رواية ثانية إلى أن مسابقة اختيار بديل للنشيد الرسمي نظمت في عام 1963 أثناء فترة حكم الرئيس أحمد بلة.
ولم تنه وفاة الشاعر مفدي زكريا الجدل حول النشيد، إذ حذف المقطع الذي يبدأ بعبارة "يا فرنسا قد مضى وقت العتاب"، في عهد الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد خلال ثمانينيات القرن الماضي، بضغط من السلطات الفرنسية، قبل أن يعاد إدراجه نهائياً عام 1995 بقرار من الرئيس الجزائري السابق اليمين زروال.
واضطرت السلطات الجزائرية، إلى إدراج المقاطع الخمسة لنشيد "قسماً" ضمن المواد الصماء غير القابلة للتعديل في دستور 1996.