ملخص
هل أدرك صاحب "الغريب" و"سيزيف" هشاشة المواقف الإنسانية في أزمنة العواصف؟
في ذلك الحين كانت الثورة الجزائرية في أشهرها الأولى، وكان الانقسام كبيراً في صفوف المثقفين الفرنسيين في خصوصها. كثر منهم مع مطالب الجزائريين التي يمكن أن توصل إلى الاستقلال، وكثر آخرون مع إبقاء "الجزائر فرنسية". وكان ألبير كامو الفرنسي المولود والمترعرع في الجزائر حائراً بين هؤلاء وأولئك كحال كثر من كبار المبدعين الفرنسيين. يومها، كان واضحاً أن الشرخ كبير وخطر، ولا سيما في المجتمع الفرنسي. وكان يتواكب مع ذلك لجوء السلطات العسكرية الكولونيالية في الجزائر نفسها إلى أقصى درجات العنف في التعامل مع الثوار تعذيباً وقمعاً، ولكن كذلك نسفاً للقرى وحرقاً للمحاصيل الزراعية. من ناحيته كان صعباً على كامو أن يخسر مسقط رأسه، ولكن كان من المستحيل عليه أن يقف ضد الجزائريين من أصحاب البلاد الأصليين، ومن هنا راح يعدل مواقفه بالتدريج في اتجاه تمكين هؤلاء من الحصول على ما يريدون، ولكن دون أن يلجأوا في سبيل ذلك إلى العنف الذي "لا يروح ضحية له سوى الأبرياء" هو الذي كان شعاره "ما من قضية في هذا العالم تستأهل أن يدفع بريء ثمنها"، ثم إنه كان يلاحظ في الوقت نفسه مدى الشراسة التي راح الكولونياليون يتعاملون بها مع السكان الأصليين. وهو كان يقف ضدها تماماً. فما العمل؟
لا بد من التحرك
بالنسبة إلى كامو كان لا بد من التحرك. أولاً وقبل أي شيء آخر، لوقف دوامة العنف المتبادل، وبخاصة وقد دخل على خط ذلك العنف مجموعات من اليمين المتطرف الفرنسي من التي يغذيها ويمولها عسكريون كبار، ولو خفية. وتلك المجموعات التي ستحمل اسماً جماعياً هو "منظمة الجيش السرية" لم يكن ليردعها رادع مستفيدة من جو الرعب الذي خيم على المدن الجزائرية التي يقطنها مئات ألوف الفرنسيين. كان كامو يرى أنه ليس ثمة من حوار ممكن وسط ذلك الشرخ العميق وفي ظل الخوف المستشري. ومن هنا وجد نفسه يطالب بنوع من سلم أهلي سماه "هدنة مدنية في الجزائر" تمهد لتهدئة النفوس، لكنه كان يعرف تماماً أن التطرف بات سيد الموقف لدى الجانبين الباحثين الآن، وكل على طريقته وبأسلحته، عن وسيلة لمواصلة الفوضى. وضمن هذا الإطار اندفع كامو منذ بداية عام 1956 في حراك يشاركه فيه عدد من المثقفين الفرنسيين والوجوه الأكثر تمدنا في صفوف المتنورين الجزائريين، مدعوماً حتى من جماعات فرنسية كانت تؤيد الجزائريين في مطالبهم الاستقلالية، كما تشاطر كامو نفسه في مساعيه المناهضة للعنف. وكان من أبرز هؤلاء تلك الجماعات المتحلقة من حول الكاتب إيمانويل روبلس الذي كان من أول المثقفين الفرنسيين إيماناً بحق الجزائريين في الحصول على الاستقلال. وكان من ضمن تحركات كامو التي قام بها بدعم مطلق من روبلس، إطلاقه بياناً في غاية الأهمية بعد ظهر يوم الأحد في 22 يناير (كانون الثاني) 1956 جعله تحت شعار "من أجل التصدي للحرب الأهلية" وبدأه بالشعار الذي أوردناه أعلاه: ما من قضية تستأهل موت بريء.
نحو "هدنة مدنية"
كان البيان نوعاً من دعوة ملحة إلى ما سماه كامو "هدنة مدنية"، بالتالي دعوة موجهة إلى العقل تحاول أن تسمو على الشعارات الضيقة والأحزاب والفرقاء المتناحرة، حتى ولو كان من الواضح أنها تنطلق على الضد مما تريده الغالبية الساحقة من الرأي العام في الجانبين. وكان بيان الدعوة الذي كتبه كامو بخط يده على أوراق تحمل اسم "منشورات غاليمار" – التي تتولى نشر كتبه عادة – ينادي بأن يقوم "الحراك العربي والسلطات الفرنسية، وكل من جانبه دون أن يكون ثمة بالضرورة أي اتصال الآن بينهم، بالإعلان وفي شكل متوازٍ وفي الوقت نفسه بإعلان أن السكان المدنيين، وطوال الفترة التي تندلع فيها الأحداث والاضطرابات الدامية، سيكونون محترمين ومحميين" على اعتبار ذلك "مجرد إجراء إنساني". وكانت فكرة طيبة بحسب الكاتب الفرنسي أوليفييه كاريغال الذي عاد للموضوع في عام 2014 لمناسبة طرح الوثيقة الأصلية للبيان، بخط كامو للبيع في المزاد العلني في باريس. ولقد أضاف كاريغال يومها أن صوت كامو قد ارتفع للمناسبة، بخاصة أن إصدار ذلك البيان جاء وسط ظرف سياسي خطر ومضطرب إثر انتخابات تشريعية بالغة الدقة كانت قد نظمت في اليوم الأول من ذلك العام.
لقاء تحت حماية عن قرب
غبر أن ذلك البيان لم يكن في حد ذاته كل شيء، بل كان نقطة الذروة في سلسلة من المواقف والتصرفات التي راح كامو يبذلها دفاعاً عن فكرته التي يمكن القول إنها كانت تشكل أول تدخل جدي منه في الثورة الجزائرية بعد أن بدا متردداً إلى حد ما أول الأمر. كان تردده مأخذاً عليه سيذكر كثيراً لاحقاً ويستنتج منه البعض أن كامو كان واقفاً ضد الثورة الجزائرية. ومن دون أن يكون ذلك صحيحاً يمكننا القول إن فيه شيئاً من الإلتباس. غير أن عدداً من رفاق وأصدقاء كامو من المحيطين به، تمكنوا حينها من دفعه إلى اتخاذ مواقف متطورة، وتحديداً عبر كتابة مقالات في صحيفة "اكتوياليته ألجيريان" تنم تدريجاً عن تعاطف ما مع المطالب الجزائرية الوطنية، وإنما ليس أول الأمر مع المطلب الاستقلالي الرئيس. ولقد تصاعدت مواقف كامو الساعية لهدنة مدنية تخفف الصغط عن المدنيين، بالتالي عن المناضلين الجزائريين، وقد وصلت إلى أوجها في بيان يناير 1956 الذي كان فيه من أول المتعاملين مع "الحراك العربي" من موقع كونه نداً للسلطات الفرنسية وليس مجرد "إرهابيين خارجين عن القانون" كما كانت تصفهم تلك السلطات، بل كان من الواضح أن كامو لا يتحرك منفرداً، بل ضمن إطار لجنة شكلها لذلك الغرض، ومن أبرز مناضليها الرسام الماجوركي الأصل رينيه سينتيس وزوجته إيفلين اللذان شكرهما لمساعدته في تنقيح البيان وطباعته. ولنذكر هنا أن أن سينتيس كان واحداً من أوائل المثقفين الأوروبيين الذين وقفوا مع الثورة الجزائرية صراحة ومنذ البداية. ولسوف يكلفه ذلك غالياً، حيث من المعروف أن فاشيي اليمين الفرنسي المتطرف سيخطفونه في عام 1962 خلال الفوضى التي سادت في الفترة الأولى التي تلت الاستقلال، من بيته في منطقة البيار الجزائرية، حيث كان يقيم، فيختفي تماماً منذ ذلك الحين دون أن يعرف أحد مصيره.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الموت أبكر من اللازم
المهم أن كامو لم يكتفِ عام 1956 بصوغ البيان ونشره، بل توجه بناءً على دعوة روبلس إلى العاصمة الجزائرية يوم 18 من يناير ليلقي بيانه بنفسه أمام جمع من أنصار التهدئة من أوروبيين ومسلمين في قاعة تدعى "قاعة التقدم" وتقع في أسفل القصبة. وهو تحدث هناك إلى جمهور حاشد في صالة مقفلة محمية تماماً، إذ تجمع في خارج المكان وتحت سمع رجال الشرطة وبصرهم عشرات من الفرنسيين المتطرفين الذين راحوا يهتفون ضد كامو وروبلس، بل يلقون الحجارة على النوافذ المغلقة. وعلى رغم الحشد اللافت للمؤيدين لمواقف كامو فإن الاجتماع أسفر عن فشل ذريع، إذ إن الحاضرين شعروا بالرعب، ولا سيما أن نداءاتهم للشرطة كي تتدخل وتفك الحصار عنهم، لو تؤد إلى نتيجة. ولقد عبرت الصحافة المحلية في اليوم التالي عن ذلك الفشل. ومن هنا نسي اللقاء تماماً ولم يعد أحد يذكره ولا حتى كامو الذي فهم لحظتها أن في ذلك النوع من الظروف السياسية الحادة لا يعود ثمة مكان للمواقف الوسطية، وبخاصة إن وصفت نفسها بأنها مواقف إنسانية تحاول أن تمسك العصا من وسطها. ولسوف يقول كاتبو سيرة كامو بعد ذلك أن فشل ذلك "اللقاء الإنساني" سيجذر موقفه بعض الشيء من الثورة الجزائرية في شيء من التأييد لها بقي ملتبساً على أية حال. أما ما بقي من حكاية البيان كلها فإنما هو المخطوطة الأصلية التي بعدما نسيت طويلاً عادت للظهور كوثيقة نادرة تباع في المزاد العلني، ولكن بعد أكثر من 50 عاماً من رحيل البير كامو (1913 – 1960) في حادثة السيارة الشهيرة بعد فترة يسيرة من فوزه بجائزة نوبل الأدبية، وقبل أن يشهد بأم عينيه نيل الجزائر استقلالها، فيكون له في نهاية المطاف موقف واضح ونهائي من القضية كلها.