ملخص
ترعرع الشقيقان كاميل وبول كلوديل في بيت واحد ووسط بؤس واحد
هما بول كلوديل الشاعر والكاتب المسرحي الفرنسي الكبير الذي سيمضي العقود الأخيرة من حياته قنصلاً لبلاده، ثم سفيراً يجول حول العالم ليقوم بأعبائه الدبلوماسية ويشهد العروض الأولى لمسرحياته تقدم في كثير من مدن العالم كواحد من الكتاب الكاثوليكيين الأكثر مدعاة للاحترام.
وهي كاميل كلوديل شقيقته التي تكبره ببضع سنوات تمكنها من تسميته "أخي الصغير"، وكانت كاميل في بدايات صباها تلميذة في فن النحت لدى المثال الكبير رودان وعشيقته، لكنها ما لبثت أن أمضت العقود الثلاثة من حياتها في مأوى للأمراض العقلية متروكة من الناس جميعاً يستنكر عليها كثر أن تكون تلك النحاتة الكبيرة التي سعت دائماً لكي تكونها، ثم بالكاد يصدق أحد أنها يمكن أن تكون شقيقة ذلك الشاعر والدبلوماسي الكبير.
ومع ذلك ترعرع الشقيقان في بيت واحد ووسط بؤس واحد وتلقيا التعليم والتربية في مدارس كاثوليكية، وكانا شديدي الارتباط ببعضهما بعضاً في صباهما، خصوصا أنها كانت تحنو عليه وتعتبره محط اهتمامها الأساس، وفي الأقل حتى التقت أوغست رودان وأغرمت به وبفن النحت في آنٍ معاً. فما كان من بول، إذ أراد أن يشق طريقه في الحياة والإبداع أن يتبع جادة العقل، على عكس ما كان سائداً في فرنسا صباه، وبشكل أكثر تحديداً، على عكس ما كانت تسير نحوه أخته.
شغف اسمه كلوديل
ومن ثم افترقت طريقاهما إنما دون أن يتخلى هو عنها، ولو لحظة، على عكس ما راحت هي تعتقد وتشيع، لا سيما في الفترات التي يتخلى فيها عنها رودان الذي كان من الواضح أنه ليس متعلقاً بها بقدر ما كانت هي متعلقة به، بالتالي لم تجد معها كل آيات النصح التي كان شقيقها بول يسديها إليها، وقد عز عليه أن يراها تغرق في عشقها ما أفقدها صوابها ودفعها إلى الجنون، وذلكم على أية حال ما ترويه الأديبة الفرنسية المعاصرة دومنيك بونا، في كتاب يصل عدد صفحاته إلى ما يقرب من 400 صفحة عنوانه "كاميل وبول: شغف اسمه كلوديل" صدر في عام 2006. صحيح أن هذه السيرة المزدوجة لم تكن أول كتاب يصدر عن ذلك الثنائي الفرنسي المبدع، لكنه اعتبر بالنسبة إلى النقاد ومؤرخي الأدب، الأفضل في مجاله، وربما لأن كاتبته في الأصل روائية، بالتالي صاغت موضوعها في لغة بالغة الرقي والجمال بحيث يخيل إلى القارئ أنه في صدد رواية حقيقية.
والواقع أن هذا الشعور منطقي بالنظر إلى أن قصة الأخوين كاميل وكلود تكاد تكون رواية بالمعنى العميق للكلمة. وهي حين حولت قبل ظهور السيرة بنحو عقد من السنين إلى فيلم قامت فيه إيزابيل آدجاني بدور كاميل كما قام جيرار ديبارديو بدور رودان أعلن كثر من المتفرجين أنهم استمتعوا بالفعل استمتاعهم بأجمل الروايات العاطفية، ولكنهم إذ أخذوا على الفيلم تقليله من شأن بول كلوديل ودوره في حياة شقيقته الكبرى، وجدت الكاتبة بونا أنه لا بد من كتابة الحكاية نفسها، ولكن من وجهة نظر علاقة كاميل ببول هذه المرة، وليس فقط برودان. ومن هنا ولدت هذه السيرة.
طفولة بائسة لشقيقين شقيين
من هنا كان من الطبيعي للكتاب الجديد أن يركز على طفولة الشقيقة وشقيقها وأن يستعرض طفولتهما كل واحد منهما بمفرده ثم معاً. ولعل الجانب الأكثر إثارة هو الكيفية التي ترسم فيها الكاتبة ذلك "الميثاق الضمني" الذي عقدته كاميل مع بول بأن يتقاسما الكون بالتراضي فتكون الكلمات من نصيبه فيما تكون التربة من نصيبها. وهي القسمة التي ظلت سائدة بينهما حتى النزع الأخير من حياتيها. فهو أبدع دائماً بالكلمات شعراً ومسرحاً وفي مجالات تعبير كثيرة أخرى، وهي حولت أكوام التربة إلى ذلك الطين الذي، حتى من قبل تعرفها بسيد النحاتين في فرنسا في ذلك الحين، رودان، راحت تصنع منه منحوتاتها دون أن تدري أن تلك الممارسة ستكون فاتحة الطريق التي ستقودها إلى هذا الأخير، ولكن بالتالي، بداية الشقاق مع أخيها الذي لم تكن لتريحه منذ البداية تلك العلاقة التي ستقوم بين كاميل ورودان معتبراً إياها، مجرد علاقة استحواذية لا تتلاقى أبداً مع أية علاقة عاطفية حقيقية.
وهو كان يعرف كما ستقول لنا الكاتبة لاحقاً أن كاميل تعاملت مع رودان معتقدة أنها استحوذت على روحه وسيطرت عليه، بينما كان رودان يتعامل معها كعبدة لحبه وربما كمجرد جسد من النوع الذي كان يسيطر عليه لينحته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان بول كلوديل أول من وعى لتلك الوضعية وأدرك أن تلك العلاقة، حتى وإن انتهت بسرعة، ستكون عابرة في حياة رودان، وستوصل أخته الحبيبة إلى الدمار. ومن هنا راح يستشعر تفاقماً في إحساسه بالعداء تجاه النحات الكبير، واستشراء في مشاعر الشفقة اليائسة التي يحسها تجاه شقيقته.
ومن الواضح أن تلك الأحاسيس التي راحت تسيطر على بول بالتدريج شكلت جوهر الربع الثالث من كتاب السيرة المزدوجة، وربما في معرض تبرير الكاتبة لابتعاد بول التدريجي عن أخته التي امتنعت عن الإصغاء إلى نصائحه، بل حتى راحت إرهاصات جنونها تلوح من خلال اتهام أخيها بأنه "يغار من رودان" و"يظلمه في أحكامه عليه" و"يحاول أن يستغل نفوذه لإبعاده عنها".
الجنون لها والعقل له
والحقيقة أن هذا كله لم يكن صحيحاً، وليست دومنيك بونا الوحيدة التي تؤكد هذا، لكنها كانت من القلائل الذين أوصلوا تحليل حالة كاميل إلى حدودها المنطقية بالتأكيد على أن إرهاصات جنونها المقبل لا يمكن عزوها إلى ما اقترفه رودان في حقها بقدر ما يمكن عزوها إلى ما اعبرته تخلي بول عنها.
في نهاية الأمر، لا شك أن بول كان يحب أخته، ولكن ليس بالطبع إلى حد "إضاعة" كل وقته في محاولات كان يعرف أنها لن تكون مجدية للتعويض عما يقترفه عشيقها النحات في حقها.
كان بول كلوديل المتعمق في دراسة النفس البشرية الذي كان يعيش في تلك السنوات بالذات كثافة مهنية وإبداعية وهو يجتاز كثيراً من الخطوط المتعرجة، كان يعرف شخصية أخته ومقدار تعنتها، وكان يعرف كثيراً عن عبثية المحاولة لردعها عن التمسك بالعلاقة مع رودان الذي كانت باريس كلها تعرف في ذلك الحين أنه إنما بات يريد التخلص منها ومن تمسكها به. ومن هنا آثر الانصراف بعيداً عن تلك الحكاية كلها تاركاً كاميل تسوي أمورها بنفسها.
ويقيناً أن ذلك التصرف كان هو ما صب الزيت على نار عواطف كاميل الملتهبة. كما صب عليها مزيداً من الزيت فشلها في إقناع النقاد والجمهور بأنها ربما تكون عشيقة رودان، لكنها بالتأكيد ليست مجرد مكملة له تواصل عمله النحتي حتى حين يكون بعيداً عنها.
في نهاية الأمر يمكن القول إن كاميل حققت أعمالاً كثيرة في مجالها المهني، لكن النقاد ظلوا يتعاملون معها بوصفها "تلميذة المعلم الصغيرة"، ولئن كان هذ التعامل ينال رضا النحات الكبير وينفخ في أناه، فإنه كان يمعن في تدمير كاميل التي باتت تعيش تحت ضغطين: من ناحية ضغط أخيها بول السلبي تجاهها الذي يقوم على تجاهل حكاية غرامها كلياً، ومن ناحية ثانية، ضغط رودان الذي على رغم ابتعاده عنها بقي مما يطربه أن يتحدث النقد عن ارتباط كاميل به وتعلق عملها النحتي بعمله. فهل كان من شأن دخول كاميل كلوديل مصحة الأمراض العقلية في مونتيفرغ لتبقى هناك طوال الـ30 سنة الأخيرة من عمرها في منأى عن الناس، خصوصاً عن رودان وبول، هل كان من شأن ذلك أن يثير استغراب أحد، ولو بقدر الاستغراب العام وخلال تلك السنوات نفسها لموقف بول كلوديل الذي أمام نجاحه الدبلوماسي ومسرحيات ضخمة له مثل "حذاء الساتان" و"الرأس الذهب" و"قسمة الظهيرة"، بدا بعيداً سنوات ضوئية عن جنون أخته وشغفها محتكماً في كل ما ينتج إلى العقل الخلاق؟ ذلك على أية حال واحد من الأسئلة الجوهرية التي تطرحها دومنيك بونا في هذه السيرة المزدوجة المصوغة من الشغف. شغف الكاتبة هذه المرة.