ملخص
سيرتها الذاتية روتها لخالد منصور ساردة رحلتها الشائكة من المنيا إلى فلوريدا والعكس
يبقى جنس السيرة الذاتية أحد الأجناس الأدبية المتجددة دوماً والسبب قدرة السيرة على تقديم نفسها في أشكال عدة، فربما تسمي نفسها رواية أو رحلة بحث وتقصي أو يوميات، وظهرت أخيراً بعض الأساليب السردية التي تقاوم حصار التخييل، فنجد الكاتب يزج باسمه في السرد بوصفه أحد الشخوص في العمل، أو يستخدم ضمير المخاطب (أنت) ليورط القارىء في العمل.
لم يعد الكتاب مهتمين بالاختفاء خلف الشخوص والتخييل، فالذات التي تكاد تختنق بكل الممنوعات لا بد لها من الإفصاح والتعبير، وهي إذ تعتقد بأنها تعبر عن نفسها كحال فردية، تجد السيرة أنها تعبر عن جموع من القراء. ولكي يحدث هذا الاندماج لا بد من أن تتوافر في السيرة سمات عدة، ليس أولها الصدق، كما يردد البصاصون الذين يلهثون خلف اعترافات، بل القدرة على دمج الخاص والعام معاً وفهم تأثيرهما في مسار الحياة. فكم من السير الذاتية التي تأتي مملة وباردة لأن الكاتب أو الكاتبة لم يقتربا من الخاص، وهو جوهر الذات ومؤشر تطورها وقدرتها على الإمساك بالمعنى.
"من الخوف إلى الحرية: رحلة امرأة مصرية من الصعيد إلى ما وراء المحيط"، هو عنوان السيرة الذاتية لعفاف محفوظ التي صدرت عن دار الكتب خان (2023)، لكنها لم تكتبها بل "روتها"، وقام الروائي والإعلامي خالد منصور الذي يعمل خبيراً في المجال الحقوقي وله باع كبير في العمل في مؤسسات محلية ودولية، بتحويل هذا "الحكي" إلى كتاب متماسك وشيق، يقدم رؤية عميقة لتطور ذات عفاف الطفلة التي نشأت في المنيا (بداية صعيد مصر) ودرست في مدرسة الراهبات، ثم أصرت على إكمال تعليمها في جامعة الإسكندرية في مجال الحقوق، ثم قبلت بالزواج كي تسافر إلى باريس لتكمل دراستها في القانون. وأثناء ذلك تستمع إلى محاضرات جاك لاكان فتقع في هوى التحليل النفسي وتتمكن من تلقي تدريب احترافي في واشنطن، وتصرح محفوظ بأسماء الأشخاص ولا تلجأ إلى حيلة الأحرف الأولى من الاسم، تقر بإخفاقاتها وتصف مخاوفها وتمر على نجاحاتها سريعاً.
الكتاب المزدوج
ما كان يمكن لهذا الكتاب أن يخرج بهذا التماسك والعمق من دون خالد منصور الذي يعي تماماً ما تحدثت عنه عفاف محفوظ من إشكاليات العمل الأهلي محلياً ودولياً (الأمم المتحدة)، ويفهم جيداً أهمية التحليل النفسي، فيحكي منصور في الفصل الأخير من الكتاب أنه تعرف إلى عفاف في 2003 حين احتاج إلى علاج نفسي من صدمة تعرضه لهجوم إرهابي دموي في العراق وكان حينها يعمل مع الأمم المتحدة، واستمرت جلسات العلاج ثلاثة أعوام ثم أتيحت له فرصة التعرف إلى عفاف عن قرب، عندما انتقل إلى نيويورك في 2010.
لا يمكن أن أرى الكتاب عن عفاف محفوظ فقط بل هو عن خالد منصور أيضاً، حتى إن لم يظهر صوته المباشر سوى في النهاية، لكن هذه النهاية هي التي تشرح وتؤكد وجود منصور منذ البداية. فقد اعتمدت السيرة على التداعي الحر للأفكار، شظايا وأفكار، يلتقط منصور الخيط فيها ولا يدعه يفلت منه، وهو على وعي تام بألاعيب الذاكرة وإعادة الحكي التي قد تدمج أحداثاً بأخرى أو تغير المكان. لا بأس، فالسيرة هنا ليست توثيقاً لسرديات كبرى، بل هي سيرة ذات عفاف محفوظ.
يقول منصور "حاولت دائماً أن أعرف في كل مرحلة من مراحل حياة صاحبة السيرة كيف تمكنت من الخروج من كهف المبجل والمفروض، من أجل أن تعيد خلق نفسها؟ كيف خرجت من سجن عفة مدعاة إلى ما خلقته بنفسها وعن طريق تفاعلها مع العالم بعمق ووعي؟ وكيف كانت الرحلة من الخوف إلى الحرية" (200). لا يدع منصور كلمته هي الأخيرة بل يفسح المجال لشهادات عن صاحبة السيرة وكتابها وهن هالة كمال التي تنصب أبحاثها على دراسات السيرة الذاتية النسوية ومؤسسة مركز المرأة والذاكرة هدى الصدة والطبيبة النفسية والناشطة في المجال الحقوقي والعمل الأهلي عايدة سيف الدولة والباحثة المعروفة في مجال الدراسات الإسلامية من وجهة نظر نسوية أميمة أبو بكر.
بدء من النهاية
من النهاية تبدأ عفاف، فقد شُخصت بمرض التليف الرئوي وكان الطبيب حاسماً في رأيه أن الوقت المتبقي لها قليل للغاية، لكنها صمدت بفضل التسامح والقبول وإن لم يمنعها ذلك من التساؤل "هل تستحق حياتي أن أكتب عنها كتاباً أم لا؟" (10). والحقيقة أنها تستحق بجدارة. ليس فقط بسبب الإنجازات المهنية والنزاهة التي لم تتخلَ عنها في أحلك اللحظات، ولا شجاعتها في الكشف عن نقاط ضعفها التي كان على رأسها الخوف، ولكن لإيمانها بالفرد، وهو أحد أسباب اتجاهها إلى التحليل النفسي، بما جعلها تؤمن بذاتها.
عندما ينشأ الفرد في بيئة تقدم مساحتين وحيدتين وهما البيت الصارم (تفرقة جندرية، غياب دوافع إكمال التعليم) والمدرسة الصارمة (مدرسة راهبات تتفنن في وسائل العقاب وتعمل على تعميق الاغتراب) يصبح ما وصلت إليه عفاف وما تمكنت منه أمرين يستحقان الإعجاب والتقدير، فمع كل خطوة في حياتها كانت تكتشف أمراً ما عن ذاتها وعن العالم. ربما كان أول اكتشاف هو مجتمع الجامعة حين كان نشاط الإخوان المسلمين قوياً وظاهراً بشكل ما. كان من الطبيعي أن تتعاطف معهم، لكنها لم تنضم إليهم، ولم تنضم إلى أي حزب على مدار الزمن. في باريس كانت مع زوجها، لكنها بمفردها أيضاً إذ إن العلاقة ظلت فاترة ولم تتطور، ولم يكن لديها سوى فرنسيتها الطليقة والرغبة الجامحة في التعلم. وتبقى مصر في خاطرها دائماً، لكن في عودتها الثانية لباريس كانت لديها القدرة على طلب الانفصال. احتاجت إلى كثير من الوقت لتتمكن من الخروج من عباءة تقاليد مجتمعية تبدو في شدة الصرامة في فترة الستينيات من القرن الماضي، ولم تتعافَ مباشرة بل احتاجت إلى فترة أخرى لتفهم كيف تمكن الآخر من دفعها إلى جلد الذات حتى استطاعت عام 1978 التعرف إلى ذاتها بحق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تبدو فترة الستينيات في باريس هي بالفعل أعوام التكوين حتى إن شابتها بعض المثالية، فهي الفترة التي توجهت فيها محفوظ إلى التحليل النفسي رغبة في التعرف إلى "علاقة الإنسان بالممنوع والمحظور والمكبوت والعنيف، على الأقل في مساحات اللاوعي الشاسعة" (189)، وهي الفترة التي تعرفت فيها إلى شخصيات أصبحت في ما بعد معروفة ولها دورها في المجال العام، والأهم أنها الفترة التي سيطر عليها خلالها هاجس ضرورة احترام الفرد في مقابل رسالة الدكتوراه التي كانت تعمل عليها وتدرس فيها الحكم الشمولي في مصر، فلم تخش من تدريس القانون في جامعة حلوان ولم تتأثر بالتهديدات المبطنة والمضايقات ولم تيأس بسبب العراقيل المتعمدة التي تصدر عن نظام لا يمكنه رؤية الفرد. والمشكلة أن هذا الفرد خاضع لمنظومة كاملة من الممنوعات والمحظورات والخطوط الحمراء بما يجعل توافر الدعم النفسي والمعنوي أمراً شحيحاً.
في هذه الحياة العريضة التي بدأت من المنيا وانتهت في فلوريدا، حيث تعود الذاكرة لنخيل المنيا، أنجزت محفوظ كثيراً وقدمت للمجال العام أكثر وكانت ماهرة في مراكمة الخبرة والاستفادة من الأخطاء وسلكت طريق الإصلاح من الداخل، لكن هذه أمور صعبة في بلادنا غير أن الجزء الأكبر من تقديري لهذه الحياة هو بالفعل قدرتها على التخلص من الخوف بما ساعدها على معرفة ذاتها الحقيقية، وهو معنى الحرية في هذا السياق، حتى إنها توصلت إلى معرفة نفسها عبر مفهوم التقاطعية الذي يعتمد على ديناميكية عناصر الهوية وتغير مواقعها طبقاً لتغير السياق المكاني.
هكذا تقول محفوظ "صارت حريتي مرتبطة بقدرتي على أن أحمل وطني في داخلي وأواصل علاقاتي الحميمة مع من أحب من البشر أينما كنت وحيثما كانوا، وعلى أن أعانق البهجة ولا أخاف من الحزن أو من الموت" (196).