ملخص
استلهام الفنون المصرية القديمة يمثل عودة إلى الذاكرة الأولى
يضفي الحنين إلى الماضي طابعاً رومانسياً على الأشياء، كأن نشعر بالشوق مثلاً إلى الأيام الخوالي، فتبدو في أعيننا مثالية مقارنة بقسوة الواقع. مشاعر الحنين إلى الماضي هي أيضاً من بين الموضوعات التي عالجها كثيراً الفنانون، وهي ملهمة وتحمل عديداً من المثيرات البصرية، وتتضمن تفسيرات وتأويلات مختلفة. وقد يتمثل هذا الحنين إلى الماضي في التعبير عن أحداث خاصة أو جماعية عالقة في الذاكرة، كما قد يعني كذلك العودة إلى الاستعانة بالأساليب والتقنيات الفنية القديمة.
الفنان المصري رضا عبدالرحمن اتخذ من مشاعر الحنين هذه محوراً لأعماله التي يستضيفها حالياً غاليري ياسين في القاهرة تحت عنوان "نوستالجيا". يستمر المعرض حتى 14 سبتمبر (أيلول) المقبل، ويأتي بعد فترة انقطاع نسبية للفنان عن العروض الفردية في القاهرة. هاجر رضا عبدالرحمن في عام 2016 إلى الولايات المتحدة، واستقر في مدينة نيويورك، وانغمس في النشاط الفني هناك، غير أن ذكرياته التي تركها وراءه لم تبارح مخيلته. يقول الفنان إن فكرة الهجرة لم تكن في حساباته يوماً غير أن الأمور اتخذت مسارها ودفعته إلى الاستقرار إلى جوار عائلته في أميركا. يعرف رضا عبدالرحمن كأحد أكثر الفنانين المصريين استلهاماً من الرسوم المصرية القديمة. ويبدو أن هذا الابتعاد عن روافد تجربته قد دفعه إلى التمسك بهذه السمة التي تميز أعماله، إذ مثل استلهامه من الرسوم المصرية القديمة جزءاً أساسياً من تجربته التصويرية هناك.
يبدو أن مفهوم الحنين الذي يشير إليه عبدالرحمن يتخذ هنا طابعاً مزدوجاً، فهو في جانب منه يشير إلى استعادة الذكريات التي افتقدها أثناء سفره، في الوقت الذي يستعيد فيه كذلك شغفه بالرسوم المصرية القديمة، هذا الشغف الذي لازمه منذ تخرجه في الفنون الجميلة. في توظيفه لتلك الرسوم حرص رضا عبدالرحمن على المواءمة بين الصياغات القديمة وأساليب التصوير الحديثة، بل وربطها بالواقع وأحداثه الجارية. في الأعمال تتداخل الأشكال المستلهمة من الرسوم المصرية مع عناصر أخرى للمدن الحديثة، كما في مجموعته كايرو - نيويورك. يعرض الفنان هنا نموذجاً من هذه المجموعة يمثل انطباعه عن حي مانهاتن الشهير في نيويورك. في هذه المجموعة من الأعمال تشتبك في مخيلة الفنان كما يقول الرسوم المصرية القديمة مع أحدث المدن وأكثرها معاصرة في الولايات المتحدة الأميركية.
في مجموعة الأعمال الملونة التي يضمها هذا المعرض يلفت انتباهنا ذلك الاهتمام البالغ بالخط الذي يوظفه الفنان كإطار للأشكال المرسومة. والخط هنا يمثل أحد العناصر المستلهمة من الرسوم المصرية القديمة. لا يكتفي الفنان باستدعاء الشكل القديم لتلك الرسوم، بل يستلهم الفلسفة التي تكمن وراءها. في الرسوم المصرية القديمة يجمع الجسد بين السمات المثالية لأجزائه، من دون اهتمام بالهيئة الطبيعية له، فالرأس والساقان تظهر دائماً في وضع جانبي، بينما الجذع والكتفان من منظور أمامي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا الأسلوب الرامي إلى انتقاء الوضع المثالي للجسد في الرسوم المصرية القديمة يمكن تبين أثره بسهولة في أعمال رضا عبدالرحمن. فأجساد البشر والحيوانات في هذه الأعمال تتخذ وضعاً جانبياً في معظم الأحيان. إلى جانب هذا الاستدعاء للرموز القديمة في أعماله نجد حضوراً لافتاً أيضاً لبعض مظاهر الحداثة وأدواتها المعاصرة، هذا على مستوى الأشكال المرسومة، وفي ما يخص المعالجات الفنية، فسنجد حرصاً واضحاً على الالتزام بتوظيف الضوء والتجسيم. يحرص الفنان كذلك في هذه الأعمال على المزج بين درجات اللون التقليدية المستخدمة في الرسوم القديمة والدرجات الطبيعية المبهجة. بين السمات الأخرى الأكثر وضوحاً في أعمال الفنان رضا عبدالرحمن اعتماده على الشفافية وتعدد الطبقات، إذ تشتبك على أسطح لوحاته مستويات مختلفة من طبقات اللون والعناصر.
تخرج الفنان رضا عبدالرحمن في كلية الفنون الجميلة، جامعة المنيا في صعيد مصر عام 1988، وتأثر هناك بالوجود الطاغي للآثار المصرية القديمة. وشارك عبدالرحمن بأعماله في عديد من الأنشطة الدولية، وأقام كثيراً من المعارض الخاصة. وكان له دور مهم في تأسيس مبادرة التواصل بين الأديان من طريق الفن في عام 2008. وكانت آخر عروض الفنان الفردية في مركز سناج ھابر للفنون في نیویورك عام 2020، وهو یعمل حالياً في تدریس الفنون بالولايات المتحدة.