هي الحرب النفسية في لبنان التي تسبق الحرب المالية الفعلية... فالضغوط الاقتصادية واقع والتحديات المالية قائمة، ولكن قدرة مصرف لبنان والقطاع المصرفي اللبناني لا يستهان بهما في مواجهة المخاطر. فالمركزي كوّن على مدى السنوات الماضية احتياطات بالعملات الأجنبية تفوق 37 مليار دولار من دون احتساب قيمة احتياطي الذهب، والمصارف اللبنانية فاق إجمالي موجوداتها 220 مليار دولار.
عوامل قوة لدرء المخاطر الآنية ولكنها تُستنفذ في انتظار حلول فعلية للمعضلة الأكبر في لبنان: حجم وتسارع نمو الدين العام وارتفاع عجز الميزانية.
استقرار سوق الصرف
تشهد السوق اللبنانية ومنذ فترة، ارتفاعاً في سعر صرف الدولار نسبة لليرة اللبنانية، خصوصاً في سوق الصيرفة، إذ بلغ حدود 1530 إلى 1540 ليرة للدولار، في حين أن المصارف ملتزمة بكوتا لا تستطيع تجاوزها للتحويلات يومياً.
كل ذلك يترافق مع نسب الفوائد التي تسجل مستويات مرتفعة لم يشهدها لبنان منذ فترة.
وفي هذا السياق، يوضح حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي اختير للمرة الرابعة بين أفضل حكام بنوك مركزية في العالم، في اتصال هاتفي أن "السوق اللبنانية مستقرة وأن الطلب على الدولار اعتيادي، وقد شهدت الأسواق فترات ضغوط أكبر من التي تشهدها اليوم بكثير دونما أي أزمات، فالاحتياطات النقدية كافية لسد أي طلب على الدولار". كما أشار سلامة إلى أن "ميزانية مصرف لبنان سجلت ارتفاعاً في الموجودات الخارجية بلغت 700 مليون دولار خلال شهر يوليو (تموز) 2019، نتيجة العمليات المصرفية الأخيرة، كما أن نسبة تغطية الموجودات الخارجية لمصرف لبنان للكتلة النقدية بالليرة تسجل 76 في المئة مقارنة بـ41 في المئة في دول ذات تصنيف مماثل".
تحرك أسعار الصرف
وعن ارتفاع سعر صرف الدولار لدى الصرافين إلى مستويات تفوق السعر المحدد من المركزي، يوضح سلامة أنه "من الطبيعي والمقبول أن تتحرك أسعار الصرف لدى الصرافين بمستوى يفوق السعر المحدد من المركزي بنسبة عشرة في المئة، ولا سلطة مباشرة للمركزي على سعر الصرف في السوق الموازية، أما المصارف وحفاظاً على الدولار ومنعاً لتهريبه إلى الدول المجاورة، فتلتزم بكوتا يومية لا تستطيع أن تتجاوزها، ولكن السوق مستقر ومتوازن"، يختم سلامة.
حرب فوائد مستعرة وغير مبررة
تشهد مستويات الفائدة في لبنان ارتفاعات كبيرة على الرغم من جهود جمعية مصارف لبنان والبنوك الكبرى للحد منها، وعلى الرغم أيضاً من التململ الحكومي والقطاع الخاص المحاصر بتمويل مرتفع التكلفة.
فبحسب آخر بيان، أوصت جمعية المصارف اللبنانية بإبقاء معدل الفائدة المرجعية في السوق على التسليفات بالليرة اللبنانية ثابتاً عند 13.49 في المئة، ابتداءً من مطلع شهر أغسطس (آب) 2019.
كما حثّ مجلس "إدارة جمعية المصارف" اللبنانية على زيادة معدل الفائدة المرجعية في السوق على التسليفات بالدولار الأميركي بثماني نقاط أساس إلى 9.89 في المئة.
استقطاب الودائع
ويردّ كبير الاقتصاديين ورئيس وحدة الأبحاث في أحد المصارف اللبنانية نسيب غبريل ارتفاع الفوائد إلى "تهافت المصارف الصغيرة على استقطاب الودائع"، نافياً وجود حرب فوائد هذا العام.
فعام 2018، شهد مزايدات في الفوائد بين البنوك، إلا أن الوتيرة حالياً هدأت ولم تعد قائمة إلا بين بعض البنوك الصغيرة الساعية إلى توسيع قاعدة ودائعها، كما يوضح غبريل أن صغار المودعين يتنقلون بين البنوك بحثاً عن فوائد أعلى، بينما كبار المودعين يبحثون عن الثقة في المصرف الكبير.
ويشرح غبريل أن ارتفاع الفوائد في لبنان أسبابه داخلية وخارجية، فداخلياً مخاطر لبنان كبيرة وهي متأتية من حجم العجز في الميزانية وحجم الدين العام، وبالتالي الدولة في حاجة إلى الاستدانة.
وحجم الدين مخاطره غير كبيرة بحسب غبريل، باعتبار أنه تحت السيطرة، فهيكيلية الدين تبيّن أن 87 في المئة من الدين السيادي اللبناني داخلي و62 في المئة منه مُعَنون بالليرة اللبنانية.
أما العجز التجاري ولاحتسابه بشكل أصح، ينظر غبريل إلى الحساب الجاري الذي سجّل عجزاً بلغ 12.4 مليارات دولار، وهنا التحدي القائم داخلياً وفعلياً والحاجة إلى استقطاب العملة الصعبة.
سوق الاستدانة
بالنسبة إلى الأسباب الخارجية، يوضح غبريل أن "ارتفاع الفوائد الأميركية في المرحلة الماضية، دفع بالفوائد على العملات المرتبطة بالدولار إلى الارتفاع ومنها لبنان، كما دفع برؤوس الأموال إلى الخروج من الأسواق الناشئة، ما خلق ضغوطاً في المنطقة. ويضيف غبريل إلى كل ذلك دخول دول الخليج إلى سوق الاستدانة بعدما سجلت ميزانياتها عجزاً، ما أوجد منافسة على رؤوس الأموال.
ففي عام ،2017 استدانت دول الخليج 123 مليار دولار، وفي عام 2018 استدانت 106 مليار دولار.
منافسة دفعت بدول مثل لبنان إلى رفع الفوائد للاستمرار بجذب الأموال بالعملات الصعبة الضرورية لتمويل العجز.
إلا أنه وعلى الرغم من المستويات المرتفعة للفوائد في لبنان، تبقى من الفوائد المعطاة في المنطقة، ففي تركيا بلغت نسبة الفائدة على الليرة 24 في المئة، وفي مصر 20 في المئة على الجنيه، بينما في لبنان لم تتخطَّ مستوى 15 في المئة الذي كان ظرفياً.
عودة الودائع
عادت الودائع إلى لبنان بعد ما كان سجل بداية عام 2019 خروجاً مقلقاً للأموال، فخلال شهري يونيو (حزيران) ويوليو، دخل المصارف ما يقارب الملياري دولار، وتبقى قدرة المركزي باحتياطاته ضمانة حالياً لاستقرار سعر الصرف وإتاحة الدولار في الأسواق، وإن كان البعض يشكي من ضوابط، فهي ضرورية لقطع الطريق على المضاربين والمهربين، وتهدف أولاً إلى حماية النقد. ولم يجرِ حتى اليوم إيقاف أية تحويلة بالدولار من لبنان إلى الخارج أو رفض تحويل مودع لأمواله من الليرة إلى الدولار.