Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

زمن الكوميديا شبه المستحيلة في مصر

نشطاء يتهمون صناع الأعمال بالتنمر والإساءة ويعاقبون أبطالها بأثر رجعي والمبدعون يعتبرونها تضييقاً

الفنان المصري محمد هنيدي واحد ممن باتوا يجدون صعوبة في الحصول على نص مميز (مواقع التواصل)

ملخص

كان النجم الإنجليزي روان أتكينسون الشهير بشخصية مستر بين قد أعلن أنه ضاق ذرعاً بأجندات الصوابية السياسية والأفكار التي تعتبر أي سخرية كوميدية تنمراً ينبغي إسكاته

يتذمر كتاب الكوميديا دوماً من أن مهمتهم تزداد صعوبة في عصر الإنترنت وبسبب توغل السوشيال ميديا، نظراً إلى وجود ملايين من المتهكمين الهواة البارعين، الذين يصدرون "ميمز" ونكاتاً طوال الوقت تتميز بالمرح والعفوية، وينجحون في حصد إعجابات ومشاهدات من خلال أفكارهم الكوميدية البسيطة التي على سهولتها تحمل لمحة إبداع طازجة بعيدة من التكرار.

من هنا أصبح المؤلف المحترف مطلوباً منه إبداع نص مضحك ويقدم ما هو أكثر إضحاكاً مما يصنعه الهواة، لأن المنافسة لم تعد مع زملاء مهنته فقط ولكنه أيضاً يعيش صراعات مع كل هؤلاء الافتراضيين المضحكين، والمفاجأة أنه أيضاً مراقب وبشدة ويخضع للحساب والثواب والعقاب، بخاصة بعد انتشار أفكار كثيرة تدعو إلى عدم التنمر والسخرية من فئات بعينها بدعوى المزاح.

بل إن هناك من فند عقوداً وعقوداً من التاريخ الكوميدي الدرامي واعتبر أن ما به من "إساءات" ـ من وجهة نظره ـ سواء ضد الأقليات أو البدناء أو قصار القامة أو حتى أصحاب الآذان الكبيرة أو غيرهم، لا ينبغي أن يعاد إنتاجها بأي صورة أبداً.

وعلى رغم أن الأمر في النهاية تمثيل وليس واقعاً ولكن حتى "التمثيل" في هذا الصدد لم يعد مرحباً به... إنه زمن باتت الكوميديا فيه بعيدة المنال، فكيف سيتمكن الكاتب من إضحاك من حوله من دون ضحية؟! وهل المرح المتفق على أنه مجرد "مرح" يجب أن يخضع لبنود الصوابية السياسية غير الرحبة بالمرة؟!

تضييق على المؤلفين

سياسة الثواب والعقاب باتت حاضرة على الدوام والعقاب بالإقصاء لمن يخالف تلك البنود التي تضيق يوماً بعد يوم، ويعتبر المنادون بها أن تطبيقها بشكل صارم سيصلح الحال، وأصبح من الطبيعي أن نجد هناك إفراطاً في توظيف من ينتمون للعرقيات المتعددة والأقليات خلف وأمام الكاميرا حتى لو لم يكونوا مؤهلين.

كما باتت تنتشر موضة التحسس من أي لفظ عابر يقال حول العنصرية كي لا يفهم أنه ترويج لها أو ترحيب بها، على رغم أن تلك الأمور في الكوميديا تصبح حمالة أوجه بشكل يجعل من الصعب التمييز بين السخرية الذكية والإساءة المتعمدة، وهو ما تبدو معه المهمة شاقة للغاية، وهو ما تشير إليه المؤلفة المصرية سارة هجرس التي لديها رصيد كبير في الكتابة الكوميدية في أعمال مثل "الكبير قوي" و"الصفارة" و"أمين وشركاه".

وترى هجرس أن الكتابة الكوميدية في الوقت الحالي أصبحت أصعب كثيراً، لافتة الانتباه إلى أن هناك توجهاً قوياً في العالم كله بالتضييق على الكاتب في ما يتعلق بالتعرض لأي فئة تقريباً بدعوى رفض "الكراهية".

وتشرح سارة هجرس موقفها بقولها "أصبحنا نجد أن كل شيء تقريباً ممنوع أو محظور تناوله، وبالنسبة إليَّ فإن فكرة (الصوابية السياسية) أخذت أبعاداً صعبة ومقيدة ومبالغاً فيها"، موضحة أنه يمكن التفريق في ما يتعلق بالدراما الكوميدية بين الإساءة والإضحاك بسياق الدعابة نفسها، فالكوميديا تعتمد بالأساس على السخرية والمزاح والمبالغة، بشرط ألا تروج لعنف أو كراهية أو إساءة صريحة.

العقاب بأثر رجعي

لكن الأمور في بعض الأوقات تخرج عن السيطرة، وتصل إلى أبعاد غير متوقعة، إذ حذفت منصة "أتش بي أو ماكس" قبل ثلاثة أعوام فيلم "ذهب مع الريح" الكلاسيكي من قوائم عروضها وذلك بدعوى أن يروج للرقيق والعبودية ويتبنى خطاباً عنصرياً، فالفيلم الذي يعود إنتاجه إلى عام 1939 وحاصل على ثماني جوائز أوسكار راح ضحية للتوجهات التي تحاكم الدراما بأثر رجعي وكأنها واقع، ومثله عناوين أعمال كثيرة، وتتربع الكوميديا على عرشها.

وإن لم يكن الحساب بالإبعاد فهناك أيضاً العقاب بالدعاية السلبية، مثلما حدث مع المسلسل الكوميدي الأميركي الأكثر شهرة الأصدقاء (Friends) الذي عرض على مدى 10 مواسم بين عامي 1994 و2004، وحملت بعض مشاهده سخرية من المثلية ومن المتحولين، ومن كثير من العرقيات والديانات، ومع ذلك كانت تمر بشكل طبيعي وتخدم تماماً السياق الدرامي، والرأي الشائع هنا أن أي سخرية مهما كانت قاسية فالمفترض أن تأتي في سياق درامي وحكاية يتم تجسيد عناصرها.

إلا أن المئات من المواقف المضحكة التي جاءت في العمل الكوميدي الأيقوني ربما لن تمر مرور الكرام إذا ما عرضت اليوم، إذ يراجع بعض الهواة مشاهده ويفندونها حالياً ويعتبرونها تحمل تنمراً وإساءات لم يكن ينبغي السكوت عنها، وهو الأمر الذي علقت عليه نجمته جينيفر أنيستون صاحبة دور راتشيل جرين بالقول إن المناخ حينها لم يكن حساساً مثلما هو الآن.

أنيستون قالت إن الطاقم كان يمكنه المزاح حول العنصرية والتمييز والتعصب والميول الجنسية، وهي أشياء لم يعد مسموحاً بها في الأعمال الفنية حالياً، داعية في حديثها إلى "أسوشيتد فورين برس" إلى عدم أخذ الأمور على محمل الجد حينما يتعلق الأمر بالفكاهة.

عقود من الإساءات

لكن على الجانب الآخر يرى الناقد الفني محمد سيد عبدالرحيم أن الوعي المجتمعي المتزايد في شأن مراعاة شعور المختلفين بشكل عام سواء يعانون أمراضاً ما مثل "التوحد" أو أصحاب لون بشرة غير شائع يعد أمراً جيداً، مشيراً إلى أنه بالطبع لا ينبغي محاسبة صناع الأعمال الفنية التي تضمنت سخرية من أعراق معينة أو من أصحاب الوزن الزائد وغيرها، لأنها قدمت في سياق مختلف تماماً لم تكن فيه المعرفة متاحة بهذا الشكل الذي هي عليه اليوم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وقال "النقاشات المجتمعية لا تتوقف بالتالي ينتج منها قيم جديدة لم تكن سائدة قبل عقود"، موضحاً أن مؤلفي الكوميديا يلجأون دوماً للسخرية كوسيلة للإضحاك، ولكن في السنوات الأخيرة أصبح الوعي في تزايد، وكلما كان صناع الكوميديا لديهم ثقافة كافية وجدوا أنه من الأفضل عدم السخرية من الشخصيات المختلفة باعتبارهم جزءاً رئيساً من دافعي تذاكر السينما والمستهلكين للفنون بشكل عام مما يضمن استمرارية عملية الإنتاج.

وتمسك عبدالرحيم بأنه حتى أفلام نجيب الريحاني كان بها لمحات اعتمدت على السخرية من بعض الأشخاص المختلفين، ومثلها أفلام كثيرة يعتبرها البعض تنتمي للكوميديا الراقية، إذ كانت تتضمن انتقادات لاذعة للسيدات كثيرات الكلام مثلاً، أو لقصار القامة، أو ذوي البشرة السوداء، أو ممن ينتمون للعرق الآسيوي، داعياً إلى التفريق بين نوعيات الكوميديا سواء كوميديا موقف أو بغرض "المهزلة الدرامية".

مضحكون أم متنمرون؟

في ما يتعلق بالتفتيش في الأعمال الكوميدية التي عرضت قبل سنوات طويلة وحققت نجاحاً ورواجاً بسبب جرعات الضحك العالية بها، لجأ بعض النشطاء إلى إعادة فتح النقاش حول كثير منها، بل وصنفوا معظمها على أنها مسيئة على رغم أنها في وقت عرضها لم تكن تؤخذ على هذا النحو بالمرة، وحتى من يروج لهم أنهم كانوا ضحايا التنمر بها كانوا يضحكون أيضاً، وبينها فيلم "صعيدي في الجامعة الأميركية" 1998 بطولة محمد هنيدي على سبيل المثال، إذ اعتبره بعض النشطاء مسيئاً بشدة ويحمل تنمراً صريحاً ضد أصحاب البشرة السمراء.

ففي الفيلم يصف الأبطال السمراوات في العمل بـ"شيكولاتة" دلالة على قتامة اللون، إضافة إلى تضمنه كثيراً من التشبيهات المماثلة كـ"الليلة السوداء" في إشارة أيضاً إلى الفتاة السمراء، فيما يأخذ عادل إمام الجانب الأكبر من الاتهامات ويعتبره المنتقدون من أكثر نجوم الكوميديا إساءة وتنمراً وترويجاً للتحرش في أعماله ومن بينها "بخيت وعديلة والسفارة في العمارة والتجربة الدنماركية ومرجان أحمد مرجان".

الأمر لم يخل أيضاً من اتهامات هنا وهناك لكثير من الأعمال الكوميدية للنجوم الشباب بالترويج للتحرش وبالإساءة للنساء وممارسة التنمر ضدهن، مثل كريم عبدالعزيز ومحمد سعد وهاني رمزي وغيرهم، حتى إن مسلسلاً كوميدياً مصرياً ناجحاً عرض أخيراً يحمل عنوان "بالطو" اتهم بالإساءة لبعض أفراد المجتمع الريفي لمجرد أنه سخر من بعض العادات في بلدة ريفية متخيلة، ولكن الاتهام جاء من عناصر قليلة للغاية فيما الجمهور العادي كان يتابع ويعلق ويبدي إعجابه بالكوميديا، وذلك من خلال التعليقات المتداولة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

ربما هذا التدقيق الذي يبدو في بعض الأوقات مبالغاً فيه ويحمل الأمور أكثر مما تحتمل، هو الذي جعل الجيل الجديد من مؤلفي الكوميديا لديهم كثير من المحاذير التي تصعب عملهم يوماً بعد آخر، وتشير سارة هجرس إلى أن هناك توجهاً قوياً في العالم كله بالتضييق على المبدعين في ما يتعلق بالتعرض لأي مجموعات بدعوى رفض "الكراهية".

وتمضي في حديثها بقولها "من المؤكد أنه لا يوجد شخص عاقل يختلف حول مبدأ رفض العنصرية والإهانة والعنف أو غيرها من أفعال وأقوال الأذى الصريح، لكن من وجهة نظري فإن التوجه الحالي يميل في كثير من الأحيان إلى المزايدة والافتعال، ومن هنا ينبغي أن نعتمد على الوعي وننظر إلى سياق الدعابة نفسها هل هي تروج للعنف أو اضطهاد فئة بعينها أم لا".

الكوميديا تزدهر بالتنمر

كان النجم الإنجليزي روان أتكينسون الشهير بشخصية مستر بين قد أعلن أنه ضاق ذرعاً بأجندات الصوابية السياسية والأفكار التي تعتبر أي سخرية كوميدية تنمراً ينبغي إسكاته. وقال بشكل واضح إن الكوميديا من الأصل هي فن قائم على القدرة على الإساءة، وإنه ينبغي كي يتحقق الإضحاك أن يكون هناك ضحية تستهدفها مزحة محددة.

ودعا إلى عدم تجريد الكوميديا من تلك المزايا أبداً، بخاصة أن المتلقين يتفهمون تماماً أنه مجرد تشخيص لحالة معينة والهدف ليس الإهانة وإنما المزاح، فيما لا يرضخ ريكي جيريفه أبداً للتوجهات الصوابية في أعماله وبينها "After Life" و"‎Derek"، والتي يسخر بها من مختلف الفئات فيما تمتلئ عروضه الكوميدية على المسارح بنكات لاذعة تنتقد بقسوة من المثليين والمتدينين وأغلب العرقيات.

وحول ما إذا كانت ادعاءات ممارسة التنمر بسبب ومن دون سبب التي تتداول ليل نهار، في إطار موجة الصوابية السياسية قد أفسدت الكوميديا بالفعل أم لا، تقول المؤلفة سارة هجرس إن الفنون الساخرة بأنواعها، سواء كانت أدبية أو تتمثل في الرسم الكاريكاتيري وغيرها فهي تشكل حالات فنية متمردة، وتمرداً على الواقع وعلى السائد وعلى الأفكار التقليدية، وتمرداً أيضاً على الجمود، وحتى على الحقائق البديهية والمعتادة، لكنه تمرد مبدع وغرضه نبيل وهو التغلغل الذكي إلى أعماق العقل الباطن الاجتماعي أو الضمير الجمعي لمجتمع ما، وكشف قناعاته وأذواقه وعاداته وتناقضاته وغيرها من المفاهيم.

وأضافت "كما يهدف إلى تسليط الضوء على كل المجالات بهذا المجتمع وتحليلها ونقدها من خلال إطار فني ساخر، وأعتبره من أقدم أشكال الدراسات الاجتماعية".

شماعة "الإساءة"

تحذر المؤلفة المصرية من الضغط في اتجاه مزيد من التضييق على مبدعي الكوميديا بالتشديد على أن حالة ازدهار الفن الساخر في مجتمع معين تعكس بوضوح درجة تفتحه ونسبة التسامح أو التعصب الذي يميزه، متابعة أنه "من حق أي إنسان أن يحب أو يكره أي محتوى فني، وينتقد مستواه بل ويصفه بالركاكة والسماجة، ولكنها مع ذلك ترى أن الأكثر سماجة في هذا الشأن هو الخلط بين النقد الساخر وتشويه سمعة المجتمع، واعتبار نقد ملف ما في المجتمع هو محاولة لهدمه أو الإساءة إليه، وكذلك وضع ممنوعات في طريق الكاتب الساخر النقدي ودفعه دفعاً إلى إنتاج كوميديا لا تتجاوز السفه اللفظي و(الألش) السطحي خوفاً من التعرض لأي سلبيات في مجتمعه والاتهام بمحاولات الهدم والتشويه".

وتختتم سارة هجرس تعليقها "الكوميديا النقدية هي المصدر الأكثر فاعلية لفهم مجتمع ما، لأنها تكشف المشكلات والتناقضات والثغرات، بالتالي تسهم في تعزيز قدرة أفراده على تحليل الأفكار وإعادة ترتيبها ليصبح مجتمعاً أكثر تطوراً".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة