ملخص
المخرج ياسر مدخلي اقتبس رواية لغازي القصيبي واشتغل على الفكرة الإذاعية في نص تفاعلي
لعلها من المرات القليلة والنادرة التي يكون فيها الجمهور مشاركاً جوهرياً في اللعبة المسرحية، بل وفاعلاً عضوياً في تطويرها نصاً وعرضاً وأداءً. فرقة "مسرح كيف" في جدة كان لها دور مهم في اقتراح هذا الشكل الفني عبر مسرحية "صادق النمك"، وتعني "صادق الكذاب" وهو اسم الشخصية المحورية وعنوان العرض الذي قدم في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته الـ30.
اللعبة تقوم على حوار إذاعي متخيل عبر أثير إذاعة "الشرق الأدنى"، يدور بين مذيع يدعى عارف يدري (رامي الأحمدي) وضيفه صادق النمك (محمد بحر). في البداية لا يفصح العرض السعودي عن مقاصده مباشرة، بل يعتمد قالباً أقرب إلى "الاستاند أب كوميدي". إلا أن المقترح الفني لا ينغمس تماماً في قالب الكوميديا المرتجلة، بل يعمل على فعل مخادع، وسرعان ما يعرف الجمهور أنه الشخصية الثالثة في العرض، الذي احتضنته القاعة الصغيرة في مسرح الطليعة وسط العاصمة المصرية.
مخرج العرض الفنان ياسر مدخلي يطل قبل الممثلين على الخشبة، ويخبر الحضور أن المسرحية ستفتح باب المشاركة معهم، وذلك عبر فتح مذيع البرنامج مداخلات من المستمعين، ليوجهوا أسئلتهم إلى ضيف البرنامج، والمستمعون هنا هم من الجمهور الذي سيعطى سماعة هاتف ليتداخل مع "صادق النمك"، ويوجه أسئلة له على الهواء مباشرة. فكرة لافتة تضع الجمهور في زمن متخيل وواقعي في آن واحد، فيما تضع الممثلين في تحد من نوع خاص، وتفتح باب الارتجال الحر لهم من خلال ردود الفعل على أسئلة الجمهور الكيفية.
هذه اللعبة المقتبسة عن رواية "أبوشلاخ البرمائي" للأديب السعودي غازي القصيبي (1940-2010) تحذو حذوها في الحوارية المطولة والشيقة التي تدور في الرواية بين شخصية تدعى توفيق وضيفه أبوشلاخ البرمائي، العربي الصميم، صاحب الشلخات (الأكاذيب)، والذي يمعن في المبالغات وشتى أنواع التظاهر والادعاءات في المجالات الرياضية والفنية والسياسية كافة. وعبر هذه الحوارية في الرواية وفي العرض المسرحي يمارس كل منهما نوعاً من السخرية السوداء والمريرة لا تلبث أن تكشف عن جوانب دفينة من شخصيتي الضيف والمضيف.
الفواصل الموسيقية للبرنامج تصبح فواصل موسيقية للعرض، ويندمج الإذاعي مع المسرحي، لتبدأ المداخلات من الحضور، ومع كل مداخلة يندفع العرض إلى مسارات متنوعة، ويشرع الممثلان في ضبط إيقاع أجوبتهما وفق أسئلة المستمعين (الجمهور). فهذا يسأل عن محمد صلاح نجم كرة القدم المصرية وحقيقة استقطابه للعب في الدوري السعودي، ومتفرج آخر يسأل عن حقيقة صفقة لحوم فاسدة يديرها "صادق النمك"، فيما تسأل متفرجة عن وضع صادق النمك العائلي، وهل هو متزوج أم أعزب، فتعرض عليه الزواج منها على الهواء مباشرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تصبح مداخلات الجمهور الطريفة جزءاً من العرض، فينعتق المتفرج من سكونيته وسلبيته المعهودتين في الفرجة، إلى المشاركة الفعلية في مجريات المسرحية. يسخن الجو رويداً رويداً، ويستمر "صادق النمك" في شطحاته المرعبة، فيما يطنب المذيع على كذبه الخرافي بعد كل دفعة من الأموال يغدق بها الضيف عليه. فصادق هو من علم مايكل جاكسون الغناء والرقص، وهو من سيحرر مزارعي أفريقيا من استغلال الدول الكبرى مواردهم من محصول الكاكاو، مع أنه عضو مجلس إدارة في الشركات التي تعمل في تصنيع أفخر أنواع الشوكولاتة.
هكذا تندلع الأكاذيب والأموال ومعها فيض المجاملات من المذيع، ومع كل دفعة من المال ترتفع نسبة الكذب، ويتحول المسرح المحاط بكراسي الجمهور إلى مساحة حرة للعب والارتجال. ومعها ينمو العرض ببطء وصلابة، لنصل إلى لحظة الختام التي يتحدى فيها صادق النمك مضيفه بأن جسده مضاد للرصاص، فيخرج مسدساً حربياً من محفظته، وفعلاً يقوم الضيف الغريب الأطوار بإطلاق النار على رأسه، فيموت على الهواء مباشرة. وبهذا ينتهي العرض الكوميدي نهاية حزينة وغير متوقعة، تماماً كنهاية رواية "أبوشلاخ البرمائي" الذي يلقي بنفسه من الطابق العاشر معلناً نهاية حياته المليئة بالمغامرات والغرائب.
على مستوى الشكل الفني حقق "صادق النمك" معادلة صعبة، واختلف عن قالب العروض التقليدية التي تفصل الخشبة عن الصالة. ففضاء اللعب كان متداخلاً مع فضاء الجمهور الذي كان لاعباً أساسياً في العرض، فيما أدار ياسر مدخلي هذه اللعبة باقتدار، تاركاً مساحة حرة من اللعب مع المتفرجين، ومحافظاً على إضاءة متواترة بحسب تواتر إيقاع العرض، مع توظيف بعض الأكسسوارات البسيطة التي احتفظت بطابع مسرح المقهى. فعرض "صادق النمك" قدم في مقهى "نوك" في جدة على مدى ثلاثة أشهر متواصلة، وحقق شرطاً أساسياً من شروط الفرجة المعاصرة، وهو التفاعل مع الجمهور، وتطوير النص والإخراج وأداء الممثل طوال أيام العروض، للوصول إلى مستويات جديدة من الفرجة التي تراهن على سرعة بداهة الممثل، وتكيفه مع الظرف المعطى له.
ويأتي عرض فرقة "مسرح كيف" السعودية بعد سنوات من تأسيس الفرقة عام 2006، وقد عمل فريقها على قوالب متعددة من الأداء الجماعي، وتوفير ديمقراطية الفرجة لجميع الشرائح الاجتماعية، مع الحفاظ على البعد التجريبي لمسرح ينمو مع كل مرة يواجه فيها الممثلون جمهورهم في مقهى شعبي أو على ناصية شارع رئيس، ثم وصولاً إلى تقديم العروض بعيداً من مسارح العلبة الإيطالية. فمع كل مرة كان "صادق النمك" فرصة لتطوير شراكة جديدة من نوعها مع المتلقي، ليصبح هذا المتلقي بدوره ممثلاً في العرض، بل موجهاً لأحداثه.
ابتعد العرض السعودي عن مسارح التراجيديات والسرديات الكبرى، وأبقى على قالبه الساخر من دون مبالغات في الإضاءة والديكور. فالديكور عبارة عن طاولة عليها ميكروفون إذاعي، مع كرسيين للضيف والمذيع، في حين لعبت الموسيقى والأغنيات المختارة دوراً حاسماً في تقطيع العرض والاستفادة من شكل البرنامج الإذاعي لتحقيق معادلة المسرح "الآن وهنا"، وإضفاء طابع حياتي يومي. فزمن البرنامج على الهواء مباشرة هو زمن الفرجة والاستماع معاً، والمسرح هنا هو استوديو إذاعي متخيل تتفاقم بين جدرانه اللامرئية لعبة يديرها مذيع فاسد ورجل أعمال يرشو كل من يقع في وجهه، ليصبح هو بطل العالم في الغناء والرقص والتجارة والحب.