ملخص
هناك طرق مختلفة للنظر إلى العلاقة بين تركيبة الدماغ والأعمال التي ينهض بها، وعلى وجه الخصوص ما يتصل بالوظائف الإدراكية العليا
الأرجح أن الإعلان عن اختتام "مشروع الدماغ البشري" الذي يعتبر من المشاريع العلمية الكبرى لـ"الاتحاد الأوروبي"، قد حرك مجموعة من النقاشات ربما شملت سؤالاً عن مدى المعرفة بأعمال الدماغ.
والأرجح أن النقاط المختصرة والمبسطة التالية تسعى إلى إلقاء التماعات خاطفة على أعمال الدماغ البشري وعلاقته مع تراكيبه المختلفة، على النحو التالي
01- يحوي الدماغ أكثر من 10 بلايين خلية عصبية (عصبون Neuron)
02- تعتمد مجموعة من القدرات العقلية العليا مثل اللغة والحساب والرسم على عمل مناطق معينة في الدماغ تكون متخصصة فيها.
03- توصف المنطقة الأمامية من الدماغ Frontal Lobe بأنها على علاقة بـ المزاج والتفاعل الاجتماعي والقدرة على التخطيط وتنظيم الأعمال، وفق خطة مسبقة وغيرها من النشاطات المركبة والمعقدة، وتسمى تلك المنطقة أيضاً "الفص الجبهي" أو "الفلقة الجبهية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
04- ترتبط المنطقة الوسطى في الدماغ Parietal Lobe مع اللغة والحساب، إضافة إلى الاتجاهات والمواقع في المكان والزمان، وفهم الأشكال والأنساق الهندسية وغيرها، وتسمى تلك المنطقة أيضاً "الفص الجداري" أو "الفلقة الجدارية".
05- تتصف منطقة الصدغ في الدماغ Temporal Lobe بأنها المساحة المخصصة للنشاطات التي تتطلب التنسيق والتآزر والتكامل بين فعاليات متنوعة، ويعطي الفن مثالاً على ذلك، إذ يتطلب الإصغاء إلى الموسيقى والتفاعل معها مجموعة من الأفعال التي تتعلق بالذاكرة واللغة والمعاني وملاحظة الأنساق والترابط الزماني بين الأصوات المختلفة والتناغم بينها وغيرها، وكذلك تؤدي المنطقة الصدغية دوراً بارزاً في ذاكرة البشر التي تتأثر أيضاً بالأحوال العاطفية والمزاجية المختلفة، وتسمى تلك المنطقة أيضاً "الفص الصدغي" أو "الفلقة الصدغية".
06- تميل المنطقة الخلفية في الدماغ Occipital Lobe إلى التخصص في البصر والرؤية بأبعادها المختلفة، وتعتبر قراءة الكلمات من الأمثلة على ذلك، إذ إنها تتضمن الربط بين رؤية أشكال معينة مثل الحروف والكلمات والإشارات والتعرف إليها، تمهيداً للانتقال إلى ربطها مع معانيها، وينطبق الوصف نفسه على الكتابة والتعرف إلى الوجوه وغيرها، وتسمى تلك المنطقة أيضاً "الفص القذالي" أو "الفلقة الخلفية".
وإذا أردنا تلخيص النقاط السابقة فيمكن لفت النظر إلى أن المنطقة الأمامية مكرسة للقدرات المتصلة بالتخطيط للمستقبل، والمنطقة الجانبية مخصصة للتعامل مع منطق الحساب ومعادلاته، والمنطقة الصدغية تتجمع فيها قدرات الفن والعاطفة وتتركز في المنطقة الخلفية الأعصاب المخصصة للقدرات البصرية.
وكذلك ثمة تفاصيل أخرى توجب الإشارة إلى النقاط التالية عن مناطق الدماغ وأشكال الذكاء والوعي المتصلة بها، على النحو التالي:
القشرة الدماغية Cerebral Cortex:
تتشكل من سطح رقيق من الأعصاب وتنسق كل الإشارات العصبية الآتية من الحواس الخمس والتفكير الواعي، وتخزن المعلومات وتولد خطط للمستقبل، وإذا بسطت تعرجاتها فستصير بمساحة ملعب تنس.
جهتا اليمين والشمال
يتوزع الدماغ بالإجمال على قسمين في اليمين والشمال، ويتصلان مع بعضهما بعضاً عبر ألياف متخصصة، يدير القسم الأيمن من الدماغ جهة الشمال في الجسم، إضافة إلى المراكز المتعلقة بالمهارات غير الكلامية ومعرفة الوجوه، وكذلك المساحة لجهة الشمال مما يتبدى للعين عبر الإبصار، وفي المقابل يتولى يسار الدماغ إدارة الجهة اليمنى من الجسم، إضافة إلى المراكز المتصلة بالمهارات الكلامية وأداء المهمات المنطقية والمتتابعة زمانياً ومكانياً، وكذلك المساحة اليمنى مما تبصره العين عبر النظر. وبصورة عامة يتطور الانفصال والتخصص بين أعمال قسمي الدماغ في اليمين واليسار بسرعة أكبر لدى الذكور.
القشرة الحسية الحركية
تتعامل تلك المساحة المفرودة على سطح الدماغ مع أحاسيس اللمس والألم وتجسّد أحاسيس اللمس للجسم كله على قشرة الدماغ فتصبح شبيهة بصورة غير متناسقة للجسد، إذ تحوز اليدان واللسان والشفتان مثلاً مساحة أكبر من أحجامها الفعلية.
مسار لعمليات التنسيق
تتولى القشرة الدماغية الحركية تنسيق حركات الجسد كله وتتصل مع المخيخ Cerebellum ومع المنطقة الأمامية من الدماغ، كي تنسق إيقاع الحركات وتصنع مخططاً تنفيذياً لها، وبغية المحافظة على استقامة الجسم مثلاً، تعمل تلك القشرة على تنسيق الإشارات الآتية من الجلد والعضلات والعين والأذن الداخلية مع ملاحظة أنها تتجمع في "جذع" الدماغ، وهي المنطقة السفلية للقسم الداخلي المركزي فيه التي تتصل بالحبل الشوكي الذي ينقل أوامر الدماغ إلى أعضاء الجسم كله.
الوعي Consciousness
على رغم معرفتنا كلنا بمعنى كلمة وعي إلا أن تحديدها صعب تماماً، ووفق شبه إجماع فثمة وعي عند حيوانات كثيرة، لكن البشر يتميزون بأنهم يدركون وعيهم ويقدرون على التعامل والتداول بالأفكار، إضافة إلى وضع خطط في شأن اللحظات والأوقات الآتية، وتؤدي اللغة دوراً محورياً في وعي البشر.
كيف نقرأ كلمة؟
مع توالي الأخبار حول البحوث عن الدماغ والمتعلقة، خصوصاً بالقراءة والكتابة، صار رائجاً نسبياً الحديث عن ثلاثة مناطق تتشارك وتتآزر مع بعضها أثناء عمليات السمع والبصر والكلام، وبصورة علمية مبسطة فإن من المستطاع الإشارة إلى أربع مناطق في الدماغ حينما يجري الحديث عن قدرة البشر على قراءة الكلمات، ويقصد بذلك منطقة بروكا Broca Area [تختزن الشيفرات السمعية للكلمات التي تحدد الحركات] ومنطقة فيرنيكه Wernicke Area [تختزن معاني الكلمات مع الشيفرة العصبية المتصلة بها] والمنطقة الأولية للسمع Primary Auditory Area [تتلقى الإشارات الصوتية من الأذن]، ويضاف إلى ذلك منطقة حركية متخصصة بالتعامل مع متطلبات المناطق الثلاث السابقة.
إذاً كيف ننطق كلمة سبق لنا أن تعلمناها بالسماع مثلاً؟
تبدأ العملية بتلقي ووصولها إلى المنطقة الأولية للسمع التي تنقلها منطقة "فيرنيكه" التي تعطيها المعنى والشيفرة المتعلقة بها، ثم ترسل الإشارات إلى منطقة "بروكا" التي تترجم الشيفرة السمعية إلى شيفرة للحركات المطلوبة للنطق بالكلمة، وتنقلها إلى المنطقة الحركية التي تتولى تحريك الأعضاء المنوط بها عملية النطق مثل اللسان وعضلات الحنجرة وغيرها.
وهناك عملية مشابهة، لكن بتفاصيل مختلفة عن قراءة كلمة مكتوبة وإدراك معناها، ويعطي ذلك مثلاً على مسألة التشابك والتكامل في عمل المناطق المتخصصة في الدماغ، وبين المهارات المتعلقة بالذكاء والإدراك والمعرفة وغيرها.
الدماغ والذاكرة
بصورة فائقة التبسيط يمكن النظر إلى الذاكرة بوصفها تجميعاً لمختلف المواهب والوقائع والوجوه والمهارات، وتأتي تلك الأشياء من مختلف مناطق الدماغ، وليست الذاكرة شيئاً واحداً ولا تعمل كمجرد مخزن، ومثلاً تجسد الذاكرة الجارية Working Memory كل ما نستدعيه أو يتداعى من تلقاء نفسه أثناء أداء عمل متطور مثل الحديث وقراءة النصوص، وتؤدي المنطقة الأمامية في الدماغ دوراً أساساً فيها.
وفي مسار متصل تحتوي الذاكرة الوقائعية Declarative Memory المعلومات عن اللغة والأعداد والرياضيات والعلوم والخبرات السابقة، ويرجح أن المنطقة الداخلية في وسط الدماغ تؤدي دوراً أساساً في تحريكها، فيما يبرز دور قشرة الدماغ في نشاطات من نوع التعرف إلى الوجوه.
التشبيك وحديث عنه
يعتبر التشابك من صلب أعمال الدماغ المتعلقة بالذكاء والوعي. لنبدأ بسؤال عن مدى استعمالنا معظم قدرات أدمغتنا، ولنتذكر أولاً أن كل عصب أو عصبون من البلايين التي يحويها الدماغ، يشارك في التشبيك Networking بين نشاطات ومناطق وترابطات بين مناطق الدماغ، ويكون لكل منها وظيفة متمايزة، إذاً يتمثل الأمر الأساس في كيفية استخدامنا للدماغ ووظائفه ومناطقه، وليس في مجرد عدد الأعصاب فيه، ولم يكن غريباً أن صناع الإنترنت ركزوا على معلم التشبيك بوصفه الركن الأساس في عمله.
لنتحدث عن الترابط
إنه صفة أساسية في أعمال الدماغ وتعطي تفسيراً لمجموعة من قدراته. وإذ تميل معظم النظريات في شأن الذاكرة إلى الاعتماد على مفهوم الانعكاس الشرطي، أي التعلم عبر الربط بين مؤثر خارجي وما يحصل في الدماغ، وفي تجربة شائعة يسيل اللعاب طبيعياً عند تقديم الطعام إلى كلب مثلاً، لكن بافلوف ربط تقديم الطعام مع أشياء معينة، وتالياً صار لعاب الكلب يسيل بمجرد رؤية الأشياء حتى من دون الطعام، وعند البشر يرتبط تقديم الورد بطريقة معينة مثل التعبير عن الحب.
لنتحدث عن الجنس والدماغ
لقد تعرف باحثون على مناطق رأوها متصلة مع الجنس، خصوصاً بعض المساحات الموجودة ضمن المنطقة المركزية أسفل الدماغ، ويزعم أن تلك المساحات أكبر لدى الرجال من نظيراتها لدى النساء ومثليي الجنس.
ماذا يحدث في عمق وسط الدماغ؟
في نظرة خاطفة فمن المستطاع النظر إلى المنطقة الوسطى أسفل الدماغ بوصفها المركز "المتخفي" للدماغ بأكمله، إذ تشمل تلك المنطقة تراكيب متنوعة، إضافة إلى كونها المكان الذي تتلاقى فيه أعصاب الإبصار والشم، وتحتضن المراكز التي تتصل بالحال العاطفية والانفعالية والوجدانية لدى الإنسان، إضافة إلى مراكز التحكم بالوظائف اللاإرادية الأساس لدى البشر مثل القلب وجهاز الدورة الدموية، والتحكم بحرارة الجسم ودرجة الرطوبة الداخلية والتعرق وأعمال الكليتين وانتظام النوم وغيرها. وعلى نحو بارز تضم تلك المنطقة نفسها التراكيب العصبية المتصلة بالذاكرة العاطفية والذكاء العاطفي، وبالتالي فإنها المنطقة التي يرجح أنها متصلة بالاضطرابات العقلية - النفسية، على غرار الكآبة المرضية والوسواس القهري والقلق المفرط والاضطراب الثنائي القطبية الذي يجمع بين الكآبة والهوس المنفلت وغيرها، مع ما يتعلق بها من مواد كيماوية تتعامل معها عادة الأدوية التي تعطى للمساعدة في علاج تلك الاضطرابات.
وتتصل تلك المنطقة الوسطى أسفل الدماغ مع المخيخ مما يعطيها دوراً في التحكم بحركات الجسم، وكذلك ردود الأفعال الحركية المتصلة بالحالات النفسية والانفعالات، على غرار الهرب عند مواجهة الخطر. كذلك تتصل المنطقة نفسها مع القشرة الدماغية وما تحويه من مناطق متخصصة بالقدرات السلوكية والمعرفية المتنوعة، خصوصاً تلك التي تعطي الدماغ البشري فرادة في وعيه وذكائه.
نظرة خاطفة إلى شبكة اتصال وربط وضبط
النظام الشبكي حول جذع الدماغ Reticular Formation (قريب من المنطقة المركزية الوسطى في أسفل المخ) يتحكم بالعمليات التالية:
أ- التكامل العمومي في عمل الأعصاب الدماغية Cranial Nerves، المجموعة الوحيدة من الأعصاب التي تخرج من الدماغ لتصل بشكل مباشر إلى الأعضاء التي تديرها بها. تتكون من 12 زوجاً من الأعصاب في المنطقة الخلفية من الدماغ التي تربط الدماغ والرقبة والوجه والمتن الأساس للجسم. وبفضل تلك المجموعة الصغيرة العدد نسبياً، يتمكن الكائن البشري من التذوق والشم والسمع والإحساس باللمس. (لعل المثل الأشهر هو العصب الحائر الذي يعتبر المكوّن الرئيس في نظام "تهدئة" الوظائف التلقائية في الجسم، أي التي تعمل من دون تحكم إرادي بها، كالأمعاء ودقات القلب وجهاز المناعة).
ب- الضبط والتحكم إلى حد كبير بوظيفة التنفس.
ج- المراقبة اليقظة ويضبط معظم ما تنقله الحواس الأساسية الحسية عن العالم خارج الجسد وكذلك عن أحوال الجسم الداخلية كلها، إضافة إلى ضبط تدفقاتها. واستطراداً، تتولى تلك الشبكة المراقبة المتنبه للإشارات والمعلومات الخارجة من الدماغ إلى مختلف أنحاء الجسم، إضافة إلى ضبط تدفقاتها. بالتالي، يشبه النظام الشبكي حول جذع الدماغ مركز للاتصالات وتناقل المعلومات، إضافة إلى كونه المحور الأساسي لما نشير إليه بكلمات اليقظة والتنبه Awake & Alert والتفاعل مع العالم الخارجي. ويضاف إلى ذلك أن النظام نفسه يراقب ويضبط وظائف الجسم وأحاسيسه، إضافة إلى ضبطه الوظائف الحيوية التي تعمل تلقائياً على غرار التنفس والجهاز الدوري والملاءمة بين حرارة الجسم والخارج وغيرها.
كخلاصة، يضبط التكوين الشبكي الدماغي وتفاعلاته مع العالم الخارجي، وينظم إيقاعاته الداخلية. وحين نكون يقظين ومتنبهين ومنخرطين بفاعلية في العمل والتفاعل الواسع مع العالم، يكون التكوين الشبكي في ذروة عمله. على عكس ذلك، يتباطئ عمله في أوضاع الراحة والاسترخاء وصولاً إلى النوم بمستوياته كافة. وربما يتفرد التكوين الشبكي في استحالة حياة الجسد من دونه.
نقطة ذاكرة؟ فكر جيداً بأبعادها.
تتشكل كل وحدة معلومات مفردة في الذاكرة من الأبعاد متنوعة، وبالتالي يجب مقاربة كل معلومة ذاكرة باعتبارها من البيانات المتعددة الأبعاد ومن بين ما يكونها نذكر المكونات التالية:
- الكلمات وما تحمله من معانٍ، أو ما يوازي ذلك.
- الصور والمعلومات البصرية
- الحالة العاطفية والنفسية والمزاجية
- درجة اليقظة والتنبه والتفاعل في الدماغ (متصلة أساساً بالتكوين الشبكي)
- الزمن بما في ذلك الدورة الزمنية الكبرى الممتدة من الولادة إلى الوفاة، مع ما يرافق ذلك من تغيرات، خصوصاً الدماغ والعقل.
ولعل تلك الإضاءات الخاطفة على شأن الدماغ البشري قد قدمت فكرة أولية عن ضخامة وجسامة العمل الذي تصدى للنهوض به "مشروع الدماغ البشري"، وفي المقابل لا يبدو أن العلاقة بين الدماغ البشري وبين "مشروعه"، أي صنع نموذج اصطناعي ذكي عنه، أمراً يسهل التنبؤ بمساراته أو توقعها، ولعل النقاشات الهائلة التي رافقت وصول الذكاء الاصطناعي إلى مرحلة التوليد الذكي للنصوص والصور وأنواع من المحتوى الإدراكي والمعرفي، ليست سوى مقدمة من جلبة ضخمة لم نسمع سوى أولى موجاتها، وللحديث بقية.