Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رحلة الإنسان بحثا عن ذاته الضائعة في "ملحمة رأس الكلب"

محمد أبو زيد ينتهج الواقعية السحرية ببعدها الاسطوري الشعبي

من الآثار الفرعونية التي يظهر فيها الكلب (متحف الحضارة المصرية)

ملخص

محمد أبو زيد ينتهج الواقعية السحرية ببعدها الاسطوري الشعبي

على جدران معابدهم ومقابرهم نقش المصريون الفراعنة صوراً لإله الموتى أنوبيس الذي كان يحمل على رغم جسده الإنساني رأس كلب، وتقول الأسطورة إن هذا الإله يحمي المقابر ويفتح الأبواب للعالم الآخر ويرعى الأرواح الضائعة ويرشدها، لكن المرشد الراعي عاد تائهاً بالصورة والملامح نفسها في رواية "ملحمة رأس الكلب" (دار الشروق – القاهرة) للكاتب المصري محمد أبو زيد. وهذه الروح الأسطورية التي أطلت عبر الملامح الغرائبية للشخصية المحورية في النص، وشت باختيار الكاتب الواقعية السحرية منهجاً للسرد في محاولة منه للاستفادة من الأسطورة والموروث الشعبي في خلق واقع بديل، تتكشف عبره شرور الواقع الحقيقي وأسراره.

مزج أبو زيد بين الواقعية والغرائبية، وعمد إلى جمع متناقضات تراوحت بين حقيقة وخرافة، لا سيما في رسم شخصية البطل طالب الحقوق الذي اضطرته ظلمة غرفته إلى البحث عن محل لبيع المصابيح، وكان المصباح الذي حصل عليه سبباً في تحول هيئته الإنسانية الكاملة إلى إنسان برأس كلب، ليبدأ بعد هذا التحول رحلة الاستكشاف من أجل معرفة سر ما حدث له، والوصول إلى الحقيقة التي يمكن أن تساعده في استعادة هيئته الإنسانية.

وعلى النحو ذاته اكتست الفضاءات المكانية للسرد بالواقعية والغرائبية في آن، فانطلقت الأحداث في القاهرة من منطقة بولاق أبو العلا ثم وسط البلد وشوارعه الشهيرة التي كانت جسراً عبرته الشخوص نحو فضاءات خيالية، فولجت حارة السماء ومدينة التائهين التي تقبع أرضها وسماؤها وأشجارها وغاباتها أسفل شوارع وسط القاهرة.

ثيمة الاغتراب

ثلاثة شخوص رئيسة شكلت أضلاع الحبكة الروائية وجمعت بينهم ثيمة العزلة والانسحاب من المجتمع والاغتراب الداخلي، فلم تحظ "دو" التي كانت تعيش مع أمها المطلقة من أبيها بصديق أو حبيب إلا في مخيلتها وحسب، مما دفعها إلى التفكير في الارتباط والزواج من ثمار البطاطس.

أما "لبنى" فكانت وحدتها ثمرة ليتمها وموت أمها ثم ابتعاد أبيها وموت جدتها، وقد حاولت الهرب منها عبر وهم امتلاك قدرات سحرية خارقة، والمصير نفسه من الوحدة حصل عليه رأس الكلب بعد موت والديه وابتعاده من جده، وكان في تشارك الشخوص هذه الحال من العزلة والانسحاب إحالة إلى معاناة جيل كامل من الشباب وشعورهم بالاغتراب والخلل في التواصل مع العالم.

وعلى رغم كل نتاج الحداثة من مواقع للتواصل الاجتماعي إلا أنها لم تسهم إلا في خلق شخصيات افتراضية ومشاعر زائفة لا صلة لها بالواقع الحقيقي، فاستخدم الكاتب خطاباً معرفياً استدعى عبره شخصيات حقيقية من دول مختلفة اضطرت إلى تبني سلوكات غريبة وعبثية تنم عن عمق الشعور بالعزلة والاغتراب، مثل إقدام امرأة بريطانية تدعى كيت كننغهام على الزواج من شجرة، وزواج الصيني ليو لي من نفسه، وزواج السويدية إيغا ريبتا من حائط برلين، والكوري لي جين من مخدته، والأميركية ليندا من كلبها، ليحيل عبر استدعائه هذه النماذج إلى عالمية المأساة وآثار العولمة التي دفعت "دو" في عزلتها إلى اتباع النهج نفسه والتفكير في الزواج من البطاطس. وكما أبرز أبو زيد آثار العولمة التي أدت إلى شيوع النمط نفسه من المشاعر والأفكار والسلوك، على رغم ابتعاد الحدود واختلاف الثقافات، فإنه أبرز أيضاً تمثلاتها على مستوى بنية النص، فاستدعى خلال رحلته السردية أغنية المغني الأميركي ليونارد كوهين  everybody knows التي تعبر عن مشاعر الإحباط ذاتها تجاه عبثية الواقع وغياب العدالة وانهيار الحلم، وما تبعه من تيه وفقد وخسارات، ووزع مقاطع منها في مواضع متفرقة من السرد، مثلما استدعى بعض المفردات الإنجليزية الشائع استخدامها وطعّم بها نسيجه الروائي.

توظيف الموروث

لم يقف استلهام الكاتب للموروث وتوظيفه عند استدعاء صورة "أنوبيس" ومنحها للبطل "الإنسان برأس كلب"، وإنما تسلل أيضا عبر "أليس" قطة "لبنى" التي حاولت الانتقام من الإنسان والثأر لبني جنسها، وعقدت في سبيل انتقامها صفقة مع الجدة فمنحتها جسدها كي تحل به روحها حتى تتمكن من مواصلة رعاية حفيدتها، في مقابل أن تساعد القطة في الانتقام من البشر الذين نكلوا بالحيوانات أو ذبحوها وباعوا أكبادها ولحومها في الأحياء الشعبية، وهذه الصفقة التي أبرمها الكاتب بين القطة والجدة استمدها من موروث شعبي يعتقد أن للقطط أرواحاً سبعة وأن بإمكان روح الإنسان أن تحل بجسد قط، "ما بين خروج الجدة من الشقة وعودتها للمقبرة كانت تقوم بالشق الثاني من الاتفاق، كانت تتوحد في جسد أليس وتصحبها للانتقام، ماذا تفعل؟ ليس مهماً أن يعرف أحد التفاصيل". (ص 93)

 وقد أحال الكاتب عبر هذه الفانتازيا والغرائبية إلى قضايا خطرة تتصل بالإيذاء المفجع الذي يمارسه الإنسان ضد الحيوان، وبالفقر الذي تئن منه طبقات تعيش على الهامش من دون أن يلتفت إليها أحد، وعبر الصورة الرمزية لنضال القطط وتوحدها وثورتها في وجه الظلم مرّر دلالات تحيل إلى الحاجة الأبدية للعدالة، وإسقاطات تشي باستمرار السعي من أجل تحقيقها، وإن طفا الاستسلام لوقت على السطح.

واستمر الكاتب في استلهام التراث فاستدعى بعض العادات المتوارثة، مثل إلقاء السن اللبنية في وجه الشمس، واستخدم استهلالات تراثية للحكي، "كان يا مكان يا سعد يا إكرام"، وعمد إلى التناص مع المأثور، "هناك قافلة تسير وكلاب تعوي"، واستدعى كذلك قول أبي العلاء المعري "هذا ما جناه أبي عليّ / وما جنيت على أحد".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى رغم احتفائه بالموروث مرر في المقابل نوعاً من الرفض للماضي الذي ترسخت عبره ممارسات قمعية، وكان جد البطل معادلاً لهذا الماضي وقد جنى غضب حفيده ونقمته نتيجة ممارساته التي كان من بينها أن أقام بيته أعلى الطريق وحصل على رسم مرور ممن يعبرونه.

عالم سيئ

وبين المدينة الحقيقية والمدينة الخيالية أبرز الكاتب تقابلات بدت عبرها شرور الواقع وسوءاته، ففي المدينة الحقيقية يعيش الناس في عزلة وتيه ويحصدون مصائر مظلمة من دون أن يقترفوا سوءاً أو ذنباً، في حين يجد التائهون في المدينة الخرافية من يرشدهم ويساندهم في سعيهم إلى العثور على أنفسهم، وفي المدينة الحقيقية جرائم وتنمر وانحطاط قيمي وزيف وكذب ونفاق، أما في المدينة الخيالية هناك نوع آخر من الـ "يوتيوبيا" التي لا تحمل معنى الطيبة أو الفضيلة، وإنما تحمل معنى الصدق والوضوح. "لمح رأس الكلب محل جزارة وأمامه معلقة رؤوس كلاب ومغطاة بشاش أبيض، فالتفت إلى ثعلوب الذي أجابه مطمئناً: لا تخف الأمور هنا واضحة. من يفعل ذلك يفعله في وضح النهار، لا بد من أنك أكلت عشرات ساندويتشات الكبدة والسجق من دون أن تعرف طبيعة ما تأكله. هنا الخير واضح والشر واضح". (ص 137)

في المدينة الحقيقية يخفي الناس شروخ أرواحهم بالتفتيش في عيوب الآخرين، بينما في الخرافية يجعلون جروحهم مكشوفة ويتقبلون نقصهم البشري، وفي المدينة الحقيقة تئن الطبيعة من التغيرات المناخية والجفاف والحرائق، ولا يبالي البشر ولا تعرب المنظمات إلا عن قلقها، وفي المدينة الحقيقية يموت الناس في الشوارع والحروب وتتعرض النساء إلى الاغتصاب ويفقد الأبرياء أعمارهم في غيابات السجون، وهذه الرحلة من الشقاء اليومي في المدينة الحقيقية أفقدت الشخوص المحورية القدرة على الانسجام مع الواقع، ودفعت بهم إلى فخ الرهاب من المجتمع، وزجت بهم في آتون صراعات كان بعضها داخلياً مثل التي عاشتها "دو" في واقعيها الحقيقي والافتراضي، وجعلتها تتراوح بين الصدق والادعاء الجرأة والخجل الصخب والسكون والاستسلام والمقاومة، في حين نالت و"رأس الكلب" نصيباً من الصراعات الخارجية التي احتدمت بينهما وبين البشر، لأنهم لم يتقبلوا التعايش مع "رأس الكلب" بعد ما طرأ عليه من تحول جعله لا يشبههم، بل إنهم طاردوه في دكان الحلاقة ومدينة الملاهي.

الحوار وتمرير الرؤى

استفاد الكاتب من مساحات الـ "ديالوغ" المسرحي في منح واقعيته السحرية ميزة التصديق وإتاحة استراحات سردية، ومرر عبرها بعض الرؤى الفلسفية كما في حوار "رأس الكلب" مع صاحب محل المصابيح، والذي أحال إلى خداع المظهر وخيانة العين وصعوبة إدراك الحقيقة. ومرر عبر الحوار الذي دار بين "رأس الكلب" والعجوز في مدينة التائهين أفكاراً صوفية حول الرضا كطريق للشفاء، مثلما مرر أسئلة وجودية عن المصير ونهاية العالم، واستخدم الـ "سيميائية" وسيلة ناجعة لإشراك القارئ في لعبة السرد من خلال دفعه إلى تأويل الرموز وإدراك دلالاتها التي اعتمدها لبلوغ غايات غير مباشرة، فكان في موت "أبي البطل" ضاحكاً وهو يطالع كتاب "ألف نكتة ونكتة"، دلالة على كوميديا الواقع السوداء والمآسي المميتة التي اعتاد الناس السخرية منها.

وكان للاسم الذي حمله محل بيع الحيوانات "الرحمة حلوة" دلالة على قسوة الواقع وغلظة الإنسان، أما خروج كل الحيوانات من الحديقة في ملحمة كبرى فكان صورة رمزية أخرى أحالت إلى ديمومة الحلم وأبدية السعي إلى تحقيق العدالة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة