ملخص
مأساة متوارية خلفها إعصار "دانيال" بعد ابتلاعه مواقع سياحية ليبية بالكامل
غطت المأساة الكبيرة التي خلفتها السيول الجارفة في مدينة درنة الليبية على مآسٍ أخرى تسبب فيها الإعصار "دانيال" في مدن وقرى أخرى بالجبل الأخضر في شرق البلاد، أصبح بعضها أثراً بعد عين حرفياً، مثل قرية الوردية الوادعة، التي كانت من أشهر مناطق الجبل على صغر حجمها وقلة سكانها قبل مرور العاصفة المدمرة.
مناطق ومواقع أخرى كانت محطات سياحية وتجارية بارزة، حولتها السيول والرياح العاتية إلى أماكن منكوبة مدمرة بشكل كامل أو شبه كامل، بعد أن كانت متعة للناظرين ومستقراً للباحثين عن فسحة من الهدوء والجمال، فبكتها الأعين ونعتها الألسن في كل أنحاء ليبيا.
اختفاء قرية العسل
بين واديين رائعين وتلال جبلية تغطيها غابات كثيفة، ووسط طبيعة ساحرة تحيطها من كل جانب، كانت قرية الوردية محطة أولى لكل العابرين من الجبل الأخضر، للتبضع من المنتجات المحلية المستخرجة كلها من طبيعة المنطقة مثل العسل الطبيعي بأنواعه، والذي يعد من أشهر منتجاتها، والحليب الطبيعي الطازج والسمن البلدي والزبدة الطبيعية والأعشاب الجبلية ذات الروائح العطرة مثل الإكليل والزعتر والشيح وغيرها، والتي تستخدم في العلاج والطهي.
كل الوجوه الطيبة التي كانت تبيع هذه المنتجات الطبيعية، المألوفة والمعروفة والمحببة لكل العابرين في الطريق إلى البيضاء وشحات وسوسة ودرنة، اختفت مع الدكاكين البسيطة والأنيقة المبنية من الخشب وسعف النخيل والصفيح، بعد أن جرفتها السيول العنيفة مع المنازل الصغيرة والقليلة التي لا يتجاوز عددها 25 بيتاً.
وتظهر الصور التي انتشرت بعد مرور العاصفة 11 سبتمبر (أيلول) الجاري، وادياً خالياً تماماً لا تكاد العين تصدق أنه موقع قرية الوردية، التي نهل معظم الليبيين من عسلها الصافي طيلة عقود من الزمن، قبل اختفائها من على وجه الأرض بين ليلة وضحاها.
كانت هنا قرية
بعد العاصفة أو الكارثة، قال عضو غرفة الطوارئ الهلال الأحمر في البيضاء، بوعجيلة سالم، إن "الفرق التابعة لهم وجدت في منطقة الوردية، شرق مدينة البيضاء، فوجدوها مسحت بالكامل ولا أثر لها ولم يتم حصر المفقودين فيها أو الوفيات".
من جانبه، ذكر أحد المتطوعين في فرق الإنقاذ المحلية إيهاب بوجميمة في تصريح لوكالة الأنباء الليبية، أن "جهود الإنقاذ التي تمت بشكل عشوائي من السكان قادت إلى انتشال 25 جثة، من بينها سبع جثث لمواطنين من الجالية المصرية، ومواطن سوداني الجنسية".
نجاة طفل بمعجزة
الناجون من السيول التي دهمت قرية الوردية من واديين في اتجاهين مختلفين، كانوا قلة من بينهم طفل لم يتجاوز العاشرة من عمره، روى في مقطع فيديو انتشر بكثرة على مواقع التواصل الليبية، حكاية الليلة المرعبة التي عاشها سكان الوادي الهادئ ونجاته العجيبة من الموت المحقق.
الطفل مفتاح الفرجاني، قال في المقطع المصور، "دخلت علينا السيول في بيتنا ليلاً بعد سماعنا صوتاً عنيفاً فركضنا للمطبخ، ثم إحدى الغرف أنا وأخوتي، لكن المياه القوية حطمت الأبواب، ثم بدأت تحملنا وترمينا في اتجاهات مختلفة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وواصل مفتاح رواية تفاصيل الساعات المرعبة التي عاشها، "أمسكت بفراش كانت تقلبه المياه فجرني إلى قرب بيت عمي المجاور لنا، ثم بدأ في التراجع مرة أخرى فقفزت إلى أرض يابسة، ثم جذبني أبناء عمي ونجوت".
الطفل مفتاح قال إن "ثمانية أفراد من إخوته مفقودين مع أمه وخالته التي كانت في منزلهم، بينما تم انتشال جثة أخته الكبرى فقط حتى الآن".
تدمير القرى الساحلية
كانت قريتا سوسة ورأس الهلال الوجهة الأولى دائماً في السياحة الداخلية لليبيين في فصل الصيف، واعتادوا على التباهي بجمالهما بنشر ما التقطوه من صور لطبيعتهما الساحرة التي تجمع بين فتنة الجبل وسحر البحر على صفحاتهم الشخصية بمواقع التواصل، ولم يتوقعوا أن يتناقلوا يوماً مشاهد دمارهما مثل هو عليه الحال اليوم.
القريتان المتجاورتان على الخط السياحي الأجمل في البلاد الذي يبدأ بشحات وينتهي في درنة، على مسافة 150 كيلومتراً ويضم حزاماً من المدن الساحلية التي تقع أسفل الجبل الأخضر مباشرة، أسهم موقعهما الجغرافي في زيادة حجم الدمار الذي تعرضتا له، لأنهما يقع في مصب كثير من الأودية المتجهة للبحر.
سوسة المنكوبة
قال الشاعر يوماً في وصف مدينة سوسة الساحلية الليبية الجميلة، "أرأيت سوسة والأصيـل يلفها في حلة نسجت من الأضواء؟
أما أنا فلقد أخذت بسحرهــا لما وقفت هناك ذات مسـاء".
لكن اليوم وبعد كارثة السيول الأخيرة فيصفها عضو المجلس البلدي فيها مروان النيهوم بـ"المنكوبة بلا كهرباء ولا مياه شرب".
وأضاف النيهوم أن "فرق الإنقاذ ما زالت منشغلة في عمليات البحث عن المفقودين وتسكين النازحين"، مشيراً إلى أنهم "لم يتمكنوا من حصر الضحايا، وأن عدد المفقودين يناهز الـ90 شخصاً وفق البلاغات الواردة إليهم وأكثر من ثلاثة آلاف منزل متضرر".
النيهوم ذكر أيضاً أن "جثثاً ما زالت تصل إلى المدينة مع أمواج البحر من جهة غير معروفة، وأن زوار سوسة الذي جاؤوا للسياحة جرفهم التيار والسيول رفقة سياراتهم ولا معلومات لديهم عنهم حتى هذه اللحظة".
هذه الخسائر في سوسة ورأس الهلال لم تشكل ضربة للسكان المحليين فقط، بل للاقتصاد الليبي، لأنهما من أكثر مناطق البلاد جذباً للسياح من الداخل والخارج، ودمرت فيهما منتجعات جميلة وكبيرة تابعة للقطاعين الخاص والعام.
تدمير وادي الشلال
بلا شك الضربة الأكثر إيلاماً وتدمير للعاصفة "دانيال" كانت في درنة التي مسح فيها مواقع سياحية وتراثية كثيرة كان من بينها وادي الشلال الشهير في المدينة والذي يعرف محلياً باسم "وادي الشواعر". هذا الوادي الذي تلقى الضربة الأولى لانهيار السد وتدفق المياه الهائل منه، كان يحوي 37 منزلاً وعائلة نجت منها واحدة فقط، بينما دمر الجرف الذي يصب منه الشلال بشكل كامل، بعد أن كان نابضاً بالجمال يعج بالينابيع والبرك العذبة، وينتج أشهى الفواكه بأنواعها.
حتى اليوم الذي سبق العاصفة، كان هذا الوادي يضج بالحياة ويمتلئ بباعة الفواكه والورد والمشاتل الجميلة، التي اصطفت على جانبية تحذوها قنوات مائية عذبة تعج بطيور البط والأوز، في مشهد طبيعي مدهش يجتذب الزوار من كل أنحاء ليبيا، قبل أن تجرفه السيول بما فيه لتفقد درنة معلماً من أهم معالمها، الذي ارتبط بها لقرون، فلا تذكر المدينة إلا ويتبادر إلى الأذهان شلالها الصغير وواديه الساحر.