ملخص
ظل إقليم ناغورنو قره باغ عنواناً لأقدم وأخطر الصراعات القومية منذ ما قبل قيام الاتحاد السوفياتي.
بعد سلسلة من المحاولات التي بذلتها القوى الليبرالية في الفضاء السوفياتي السابق تحت شعارات "الثورات الملونة"، وأسفرت عن نجاحها في جورجيا تحت شعارات "ثورة الورود" 2003، وفي أوكرانيا تحت شعارات "الثورة البرتقالية" 2004، وفي قيرغيزيا تحت شعارات "ثورة السوسن"، نجحت "الثورة المخملية" عام 2018 بزعامة نيكول باشينيان الذي وصل إلى السلطة في أرمينيا كرئيس للحكومة.
ومع وصول باشينيان انتهى حكم ما يسمى عشيرة قره باغ في الجمهورية، ذلك أن الرئيسين الثاني والثالث لأرمينيا روبرت كوتشاريان وسيرج سركسيان ولدا في ستيباناكيرت عاصمة قره باغ، وأسهما بدور كبير في حرب استقلال هذه الجمهورية المعلنة من جانب واحد وغير المعترف بها حتى من أرمينيا، كما سبق وجرى تعيين كوتشاريان كأول رئيس وزراء ورئيس جمهورية لهذه المقاطعة.
وفي الـ27 من سبتمبر (أيلول) 2020 بدأت الحرب التي عرفتها المنطقة تحت اسم "حرب قره باغ الثانية" واستمرت 44 يوماً لتنتهي بانتصار أذربيجان واستعادتها السيطرة على أجزاء كبيرة من الأراضي الأذربيجانية المحتلة المتاخمة لناغورنو قره باغ، فضلاً عن أجزاء من هذه الجمهورية المعلنة من جانب واحد وبمساعدة من جانب القوات التركية.
وها هو رئيس الحكومة الأرمنية نيكول باشينيان يعترف في حديثه إلى صحيفة "بوليتيكو" في طبعتها الأميركية بأن حكومة بلاده تعترف بناغورنو قره باغ كـ"جزء من أراضي أذربيجان"، وهو ما اعتبره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "قراراً لا تستطيع موسكو معه فعل كثير في ناغورنو قره باغ بعد قرار يريفان الاعتراف بها كجزء من الأراضي الأذربيجانية"، وإن قال باشينيان إن "المجتمع الدولي يحتاج الآن إلى ضمان عدم وجود تطهير عرقي في المنطقة".
ومضي باشنيان ليقول إن "سلطات الجمهورية لم تعد مستعدة للاعتماد على مساعدة روسيا الاتحادية"، وإن بادر إلى الاعتراف بأن ذلك لأسباب عزاها إلى "الصراع الأوكراني المستمر".
قرة باغ أو أرتساخ؟
ظلت ناغورنو قره باغ الواقعة في الجزء الشرقي من المرتفعات الأرمينية في منطقة ما وراء القوقاز عنواناً لأقدم وأخطر الصراعات القومية منذ ما قبل قيام الاتحاد السوفياتي، ويقول خبراء ذلك الزمان إن تلك المنطقة كانت خلال القرنين الـ17 والـ18 مكاناً لانتشار القبائل البدوية التي كانت تسمى بالتتار القوقازيين ممن كانوا أساساً لقيام ما سمي الأمة الأذربيجانية إلى جوار الأتراك المحليين شرقاً والإيرانيين جنوباً، في وقت عاش الأرمن جنوب المنطقة بما كان لهم من تأثير كبير، وقد حملت هذه المنطقة اسم "خانات ناغورنو قره باغ" وتعني بالأذرية "المرتفعات الجبلية للحديقة السوداء" أو بالأرمينية أرتساخ.
وفي مطلع القرن الـ 19 بعد الحرب الروسية - الفارسية تحولت المنطقة التي كانت تحمل اسم "خانية" إلى مقاطعة عام 1822، وباتت ذات غالبية سكانية أرمينية تابعة للإمبراطورية الروسية، وأصبح هذا التنوع العرقي مصدراً للصراعات القومية الجماعية التي استمرت إلى ما بعد ثورة أكتوبر (تشرين الأول) عام 1917.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي عام 1921 منحت السلطات السوفياتية وضعية الحكم الذاتي لناغورنو قره باغ في إطار جمهورية أذربيجان الاشتراكية السوفياتية، في وقت أعلنت قيام جمهورية ناخيتشيفان (نخجوان) ذات الغالبية الأذربيجانية بين أحضان جمهورية أرمينيا السوفياتية، ليصبح التنوع الوطني مصدراً للصراعات العرقية الجماعية.
وبعد "ثورة أكتوبر" لم يعش الأرمن الأرثوذكس والشعوب المسلمة في ناغورنو قره باغ طويلاً في سلام نسبي، ففي نهاية عام 1918 ظهرت بعد استسلام تركيا في الحرب العالمية الأولى بعثة عسكرية بريطانية في شوشا، إحدى أهم كبريات مدن الإقليم، ثم حاميات أذربيجانية، وقد اعترف المؤتمر الأرميني في قره باغ بسلطة أذربيجان على الإقليم، وإن بدأت في نهاية مارس (آذار) 1920 انتفاضة مناهضة لأذربيجان في المنطقة انتهت بالهزيمة.
وفي عام 1921 دمجت السلطات السوفياتية ناغورنو قره باغ داخل جمهورية أذربيجان الاشتراكية السوفياتية ومنحت الحكم الذاتي الإقليمي على نطاق المنطقة، وكثيراً ما أثارت قيادة جمهورية أرمينيا الاشتراكية السوفياتية مسألة نقل تبعية ناغورنو قره باغ إلى قوام الجمهورية من دون جدوى، لتظل هذه المنطقة وحدة إدارية إقليمية وجزءاً من جمهورية أذربيجان الاشتراكية السوفياتية تتمتع ببعض حقوق الحكم الذاتي منذ عام 1921 حتى جرى إعلانها عام 1923 منطقة تتمتع بالحكم الذاتي داخل جمهورية أذربيجان الاشتراكية السوفياتية.
حرب قره باغ الأولى (1992 - 1994)
في عام 1988 انتشر في مقاطعة ناغورنو قره باغ ما هو أقرب إلى الحركة العامة واسعة النطاق لإتمام الاتحاد مع أرمينيا، وفي الثاني من سبتمبر عام 1991 تم إعلان الاستقلال عن أذربيجان تحت اسم "جمهورية ناغورنو قره باغ"، وكان ممثلو قره باغ تقدموا إلى القيادة السوفياتية بطلب تحويل تبعية المقاطعة من جمهورية أذربيجان الاشتراكية السوفياتية إلى جمهورية أرمينيا الاشتراكية السوفياتية في الـ 10 من ديسمبر (كانون الأول) عام 1991، أي قبل أيام قليلة من الإعلان الرسمي عن زوال الاتحاد السوفياتي، وتم إجراء استفتاء على الاستقلال عن أذربيجان في ناغورنو قره باغ صوّت لمصلحته 99.89 في المئة من المشاركين.
وخلال الفترة من عام 1992 إلى 1994 حاولت أذربيجان استعادة السيطرة على الجمهورية المعلنة من جانب واحد عبر عمليات عسكرية واسعة النطاق، وعرفت هذه الأحداث تحت اسم "حرب قره باغ الأولى" التي قتل خلالها ما يصل إلى 30 ألف شخص ما بين مقاتلين ومدنيين، واحتلت الوحدات العسكرية الأرمينية مناطق عدة في أذربيجان لم تكن قبل بدء الصراع تابعة إدارياً لناغورنو قره باغ، وهي مناطق كيلبجار ولاتشين وكوباتلي وجبرائيل وزانجيلان بأكملها، وأغدام وفيزولي جزئياً، بينما لا يزال نحو 15 في المئة من ناغورنو قره باغ تحت سيطرة باكو.
وفي عام 1994 اتفق الطرفان على وقف إطلاق النار وتجميد الصراع، ومنذ عام 1992 بدأ مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي في التدخل من أجل حل الصراع، وفي عام 1997 أنشئت المؤسسة الرئاسية الثلاثية المشتركة لمجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي (روسيا والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا) التي شهدت انعقاد المفاوضات الرئيسة في شأن حل النزاع، لكنها لم تتوج بنتائج تذكر لما يقارب عقدين من الزمان، ولم تشارك سلطات ناغورنو قره باغ في هذه المفاوضات، ولم تعترف أية دولة بعد الحرب باستقلال جمهورية ناغورنو قره باغ وعاصمتها ستيباناكيرت، بما في ذلك أرمينيا، على رغم أن يريفان كانت طرحت نفسها كضامن لأمن "قره باغ" الاقتصادي والعسكري.
حرب قره باغ الثانية (27 سبتمبر- نوفمبر 2020)
وفي الـ 27 من سبتمبر 2020 أعلنت باكو عن قصف مكثف على مواقع الجيش الأذربيجاني من أرمينيا، ومن جانبها أبلغت يريفان عن هجوم شنته القوات المسلحة الأذربيجانية في اتجاه ناغورنو قره باغ وقصف المناطق المأهولة بالسكان في الجمهورية غير المعترف بها، بما في ذلك عاصمتها الإدارية ستيباناكيرت، وأفاد الجانبان بسقوط قتلى وجرحى بينهم مدنيون، واتهم كل منهما الآخر بـ "الاستفزازات"، وكذلك أعلن كل من البلدين الأحكام العرفية وتعبئة جنود الاحتياط، وقالت يريفان إن أرمينيا تمكنت من استعادة المواقع القتالية التي خسرتها سابقاً، وفي أذربيجان ثمة من تحدث أيضاً عن الوصول إلى آفاق جديدة.
وأعربت وزارة الخارجية الروسية عن قلقها تجاه استخدام الأسلحة الثقيلة في ناغورنو قره باغ، بينما دعا المجتمع الدولي وفلاديمير بوتين الطرفين إلى بذل كل جهد لوقف الأعمال العدائية ومنع مزيد من التصعيد، وطلبت الجمعية البرلمانية لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا من البلدين العودة لمائدة المحادثات تحت رعاية مجموعة مينسك التابعة لهذه المنظمة الدولية، وكانت تركيا فقط هي الوحيدة التي أعلنت دعم أذربيجان علانية في الصراع مع أرمينيا.
واعترف كل من الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف ورئيس الحكومة الأرمينية نيكول باشينيان بأن الأعمال العسكرية يجب أن تتوقف بصورة عاجلة، وفي ليلة الـ 10 من نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 أعلن قادة البلدين والرئيس الروسي فلاديمير بوتين إقرار بيان مشترك حول الوضع في ناغورنو قره باغ نص على الوقف الكامل لإطلاق النار وجميع العمليات العسكرية مع إدخال قوات حفظ السلام الروسية إلى المنطقة، وأن تبقى أذربيجان وأرمينيا عند موقفيهما مع العودة التدريجية لمناطق كيلبجار وأغدام ولاشين لأذربيجان.
وفي إطار مهمة حفظ السلام في ناغورنو قره باغ شارك 1960 عسكرياً روسياً إضافة إلى 90 ناقلة جنود مدرعة و380 وحدة من المعدات الخاصة الأخرى، وفي باكو جرى الاحتفال بنهاية الحرب على غرار الاحتفال بالنصر وبدأت احتجاجات حاشدة تطالب باستقالة باشينيان في يريفان، ودمرت عدد من المباني الحكومية وأعلنت أحزاب المعارضة في البلاد نيتها إلغاء إعلان قره باغ.
جنوح نحو الغرب
وقد شهدت العلاقات الروسية - الأرمينية خلال الفترة الأخيرة خروج رئيس الحكومة الأرمينية عن خط الوفاق مع روسيا، وكانت أرمينيا انتهت من المناورات المشتركة (Eagle Partner 2023) مع الولايات المتحدة، قالت إنها حققت أهدافها المتمثلة في بناء علاقات جيدة على المستوى التكتيكي وزيادة التوافق لعمليات حفظ السلام، وكذلك استبقت أرمينيا المناورات بسلسلة من التصريحات العدائية لروسيا، ومنها ما تردد عن مصادر الاتحاد الأوروبي حول احتمالات انضمامها إلى الـ" ناتو"، وهي تصريحات وصفها نائب وزير الخارجية الروسية ألكسندر غروشكو بأنها "أوهام كبرى"، إضافة إلى تصريحات نيكول باشينيان لصحيفة "لا ريبوبليكا" الإيطالية والتي وصف فيها اعتماد أرمينيا على روسيا في مجال الأمن بأنه "خطأ استراتيجي".
وكانت الخارجة الروسية تقدمت إلى يريفان في شأن توضيحات حول تصديق البرلمان الأرميني على نظام روما الأساس للمحكمة الجنائية الدولية، وهو ما سبق وأشرنا إليه في تقرير سابق من موسكو وفيه ذكرنا أن هناك توجهاً عاماً لرئيس الحكومة الأرمينية يحمل طابع العداء لروسيا، بما في ذلك علاقاتها مع أوكرانيا التي بعث إليها قرينته في مهمة صداقة.