Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الحرب السودانية وشبح التقسيم

التصريحات التي أطلقها "حميدتي" لقيت صدى إقليمياً ودولياً تمثل في تحذير غوتيريش من انزلاق البلاد نحو حرب أهلية

في ظل هذه الحرب سيكون خطر التقسيم بالفعل هو ما يهيمن على المستقبل القريب للدولة السودانية (رويترز)
 

ملخص

 التصريحات التي أطلقها "حميدتي" لقيت صدى إقليمياً ودولياً تمثل في تحذير غوتيريش من انزلاق البلاد نحو حرب أهلية

على إثر التحذيرات التي أطلقها قائد قوات "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو "حمديتي" مهدداً بقيام حكومة في المناطق التي تسيطر عليها قواته في الخرطوم ودارفور حال قيام حكومة تصريف أعمال في بورتسودان من طرف قائد الجيش عبدالفتاح البرهان، بدا لكثيرين أن الاحتمالات الجدية المهددة بانقسام السودان وتفتيته بدأت تطل برأسها على خلفية هذه الحرب الطاحنة بين الجيش و"الدعم السريع" منذ ستة أشهر.

وسرعان ما لقيت تلك التصريحات التي أطلقها "حميدتي" صدى إقليمياً ودولياً تمثل في تحذير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش من "انزلاق السودان نحو حرب أهلية شاملة" خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.

لعل ما يهم الباحث هنا التأمل عميقاً في منظور الأيديولوجيا السياسوية  لنظام "الإخوان المسلمين" الذي حكم السودان 30 عاماً، ورصد تجليات أثر ذلك المنظور اليوم في ردود فعله ممثلة خلال التعبيرات الانعزالية التي يمكن أن نرصدها على هامش هذه الحرب، ولعل أبرز نموذج لأثر ذلك المنظور تمثّل في أن انفصال الجنوب واستقلاله بدولة جديدة كان هو الثمرة المباشرة للعقلية الانعزالية والأيديولوجية لنظام عمر البشير، فهو نظام لم يكن يكترث كثيراً لمفهوم الدولة الوطنية السودانية، لذا كان من السهل عليه قبول انفصال جنوب السودان، مما يؤكد لنا في النهاية وبوضوح، فشل الأيديولوجيا الإسلاموية للدكتور حسن الترابي في قيادة مشروع الدولة السودانية، ومن ثم أيلولة نتائج ذلك الفشل إلى اتجاه استلهم نمطاً للقَدامة (من قديم) مستنداً إلى العصبية الإثنية نتيجة الفشل الإداري لسلطة الدولة بعد عجز نظام الإسلام السياسي في السودان عن مواجهة مقتضيات الحداثة السياسية المتصلة بهوية الدولة القومية المعاصرة ومتطلباتها العملية، مما أدى بذلك الاتجاه إلى اعتماد العصبية كنظام قدامة تولد عن ذلك الفشل المذكور، إذ عبرت تلك العصبية الإثنية عن نفسها في ما سمي "الدعوة إلى مشروع  دولة النهر والبحر".

وفي ظل ما قدمنا من طبيعة المنظور الخطر الذي كان مهيمناً على الخطاب السياسي طوال 30 عاماً، يمكن القول إنه في ظل هذه الحرب سيكون خطر التقسيم بالفعل هو ما يهيمن على المستقبل القريب للدولة السودانية بعد انقسامها الأول عام 2011، وهذا يعني أن المنظور الأيديولوجي الانعزالي طوال 30 سنة كان فعل فعله في تسميم الهوية الوطنية للسودانيين، إلا من رحم الله، وأحلّ محلها الانتماءات القبلية والجهوية كنظم إدراك لفهم العمل السياسي والنشاط في المجال العام.

عملياً، سيبدو أن فكرة ما سمي "دولة البحر والنهر" (وهي فكرة مثلت انعكاساً مشوهاً لفشل الإسلام السياسي في السودان عن إدارة متطلبات هوية الدولة القومية الحديثة) أمراً ممتنعاً في ظل الأنباء التي تفيد بأن قوات "الدعم السريع" تتوغل اليوم في شمال الخرطوم وجنوبها، أي ما كان يسمى "مثلث حمدي" (أول وزير مالية لحكومة نظام البشير الذي كان يرى أن تقتصر خريطة "السودان المفيد" على الشريط النيلي، كوستي - الخرطوم - دنقلا إلى جانب شرق السودان)، وبالتالي فإن التركيز على شرق السودان، تحديداً مدينة بورتسودان لتكون مقراً لعاصمة بديلة للخرطوم وإقامة حكومة تصريف أعمال، كما صرح بذلك مالك عقار نائب مجلس السيادة، ستكون تجربة لها ردود فعل سلبية في المقلب الآخر، أي تنفيذ "حميدتي" لوعيده بتكوين حكومة في مناطق نفوذه، وهذا سيعني بداية التقسيم.

بيد أن الإشكالية التي تكمن في خلفية هذا التقسيم، لا سمح الله، أنه لن يكون انقساماً ثنائياً للسودان، وإنما سيعكس تجديداً للانقسام الأول الذي حدث باستقلال جنوب السودان، لكن الفرق هذه المرة هو أن الحرب التي ما زالت مشتعلة ستكون هي المحرك لـديناميات أخرى أكثر خطورة على وقع ذلك التقسيم، خصوصاً عندما تتحول الحرب إلى حرب أهلية شاملة، مما سيعني الخضوع لمنطق الحرب الأهلية الواسعة في بلد مثل السودان تعقيداته الإثنية والقبلية أكثر بكثير من أقرب نموذج للحرب الأهلية في شرق أفريقيا أي الحرب الأهلية الصومالية التي استمرت بعد انهيار الدولة عام 1990 في وقت لم تلتئم الدولة إلى اليوم.

إن منطق الحرب الأهلية ما إن يستقل بدينامياته سيفرز بالضرورة واقعاً جديداً وخطراً جداً لأنه متى ما توافرت شروط الحرب الأهلية الشاملة فإن ذلك سيؤدي إلى أن يكون كل من الجيش و"الدعم السريع" لاعبين ثانويين أو غير مهمين، بمرور الزمن، لأن الهوية النظامية ستنتفي عن أي جندي ينضم إلى حرب أهلية وسيتطلب ذلك أن يخلع زي الجيش أو "الدعم السريع" ليكون جندياً منضوياً تحت لواء قبيلته التي تحميه، بالتالي سيختفي كل من الجيش و"الدعم السريع" في أتون حرب أهلية طاحنة، لا سمح الله.

لطالما ذكرنا من قبل أن دور نظام "الإخوان المسلمين" في تسييس الإدارات الأهلية هو أسوأ متغير سياسي واجتماعي حدث في السودان خلال الأعوام الـ 30، وكان ذلك التسييس الذي اعتمده نظام البشير محاولة خبيثة لتسميم الهوية الوطنية للسودانيين فقد بدا واضحاً أنه من آثار فشل الأيديولوجيا الإسلاموية في مهمة التزام مقتضيات الدولة الحديثة، مما ترتب عليه تصنيف السودان كدولة راعية للإرهاب، ولما كان محتوى أيديولوجيا الإسلام السياسي يضمر في حقيقته هوية للقدامة لأنه أيديولوجيا بلا فكر، كان لا بد لنتائج ذلك التسييس الخبيث من أن يفضي إلى نتائج ومشاريع فاشلة مثل مشروع ما يسمى "دولة البحر والنهر".

اليوم ومنذ 30 عاماً تغيرت قواعد اللعبة في فهم العمل السياسي العام، وكان واضحاً أن حلول الحركات المسلحة محل الأحزاب في مناطق العنف مثل دارفور والنيل الأزرق وحلول القبائل محل الأحزاب للتعبير عن السياسة في مناطق السلم سيؤديان في النهاية إلى النتائج المتوقعة لتسميم الهوية الوطنية وهي نتيجة منطقية من نتائج التطبيقات الأيديولوجية لنظام الإسلام السياسي.

لقد انعكست البنية الانقسامية القائمة على أساس الفهم الخاص في منظور الإسلاميين للإسلام على كثير من منظومات وأجهزة الدولة السودانية في تطبيقات إدارية طوال 30 عاماً، فالدولة الوطنية الحديثة وفق انتظامها السياسي والمدني لا بد من أن يكون لها جيش واحد، ولما كانت فكرة الدولة عند الإسلاميين فكرة مشوهة ونقيضة للمفهوم السياسي الحديث، كانت فكرة الجيوش المتعددة من منعكسات فهمهم الانقسامي، مما نتج منه وجود أجسام موازية للجيش الوطني مثل قوات "الدعم السريع" والدفاع الشعبي وما تولد بعد ذلك من أجسام عسكرية كثيرة أصبحت اليوم هي الخزين الذي سيحرك ميكانيزمات الحرب الأهلية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هكذا يمكن القول إن الإجراءات التي تم بموجبها تسميم الهوية الوطنية على مستوى الانتماء وارتد فيها المواطنون المفترضون إلى الإعلاء من قيمة انتماءاتهم الأولية مثل القبيلة على حساب انتمائهم الوطني، أصبحت اليوم هي المحركة للفعل السياسي، وفي ظل وضع كهذا سيصبح مشروع مثل دولة مشروع البحر والنهر ترفاً لا مكان له في ما تعد به أي نتائج لحرب أهلية شاملة، لا سمح الله، من دويلات متعددة ومتناحرة في السودان.

وعلى ضوء ذلك، يمكننا أن نقرأ ما حدث في مدينة بورتسودان من حراك فوضوي لقوة عسكرية خاصة (إحدى المجموعات الفوضوية التي تلبس لباساً عسكرياً خارج منظومة الجيش، لكنها في الوقت ذاته تعمل تحت رقابة جهاز الأمن) برئاسة شيبة ضرار حاولت إقامة نقطة ارتكاز لتفتيش بعض شاحنات نقل مواد الإغاثة، مما أدى إلى اصطدام الجيش معها في تبادل لإطلاق النار بطريقة محدودة، وعلى رغم احتواء الحادثة التي لا يمكن معها القول إنها بمثابة انتقال للحرب إلى بؤرة أخرى في بورتسودان، إلا أنها تؤشر إلى احتمالات غير مبشرة وسط الحرب الدائرة الآن في السودان.

وفي ظل الاستقطاب الذي أفرزه خطاب "حميدتي"، المسجل الخميس الماضي، حيال التهديد بإقامة حكومة في مناطق نفوذه إذا ما أقام البرهان حكومة تصريف أعمال في بورتسودان، اتهم مؤيدو قيام حكومة في بورتسودان، قوى الحرية والتغيير - المجلس المركزي بأنها ستكون جزءاً من حكومة "حميدتي" حال قيامها، في محاولة استباقية لخلق استقطاب اتهامي يغذي الدعوة إلى التعجيل بقيام حكومة في بورتسودان، وحسناً فعلت قوى الحرية والتغيير - المركزي حين أعلنت بعد يوم واحد من خطاب "حميدتي" رفضها القاطع لقيام حكومتين بحسب وكالة "رويترز"، إذ حذرت من أن "البلاد قد تنقسم وتنزلق إلى حرب أهلية طويلة الأمد إذا شكل جانبا الصراع العسكريان حكومتين متناحرتين".

كل المؤشرات للحيلولة دون استمرار الحرب الأهلية وخطر تقسيم السودان تقضي بأن يستمع الفريق البرهان لصوت العقل ويذهب بجدية إلى إنهاء الحرب عبر المفاوضات من خلال منبر جدة الذي ربما يكون الفرصة الأخيرة لإنقاذ وحدة السودان وسلامه.

المزيد من تحلیل