Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل سيتخلى الغرب عن أوكرانيا؟

على كييف أن تستعد لتغيير محتمل في المواقف الأميركية والأوروبية

الوتيرة البطيئة نسبياً والمكاسب المتواضعة للهجوم شجعت المتشككين في شأن الدعم الغربي لكييف (رويترز)

ملخص

الخطر الأعظم الذي يواجه أوكرانيا لا يتمثل في حدوث تحول سياسي مفاجئ في الغرب بقدر ما يتمثل في التفكك البطيء لشبكة المساعدات الأجنبية المنسوجة بعناية

عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم واجتاحت شرق أوكرانيا في عام 2014، كان لدى كييف كثير من المؤيدين. سعت فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة إلى إرجاع السيادة الأوكرانية عن طريق فرض عقوبات على روسيا من جهة ومن خلال الدبلوماسية من جهة أخرى، بيد أن هذه الدول رفضت التدخل العسكري المباشر، ولم توفر مساعدة عسكرية فتاكة إلا في وقت متأخر (وفي حالة واشنطن، فهي لم تتخذ خطوة مماثلة قبل عام 2019).

ولكن بحلول أواخر فبراير (شباط) 2022، عندما حشدت روسيا قواتها على الحدود الأوكرانية، تلاشى هذا التردد إلى حد كبير. في الواقع، أدى الغزو الفظ الذي أعقب ذلك، والقيادة الكاريزمية التي أبداها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، إلى إطلاق المرحلة الأولى من المساعدات العسكرية والمالية الغربية. وأسهمت النجاحات المذهلة التي حققتها أوكرانيا في ساحة المعركة في سبتمبر (أيلول) وأكتوبر (تشرين الأول) 2022 في فتح الباب على مصراعيه أمام دعم أكثر طموحاً.

والجدير بالذكر أن التحالف الذي يضم أغنى دول العالم وأكثرها تقدماً من الناحية التكنولوجية يمنح أوكرانيا ميزة بنيوية كبرى [تفوقاً هائلاً]. في المقابل، لا تساند روسيا علناً في حربها سوى دولتين هما إيران وكوريا الشمالية، على رغم أن الصين كانت بمثابة دعم اقتصادي مهم للجهود الحربية التي يبذلها الكرملين ومزود للمساعدات العسكرية غير الفتاكة. ومع ذلك، فالدعم العسكري الغربي يترافق مع أخطار وتحديات خاصة. أولها هو اعتماد أوكرانيا الشديد على المساعدات العسكرية والمالية الغربية. لقد ابتعد الجيش الأوكراني عن البنية التحتية القديمة والمبادئ البالية التي ميزته خلال حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي، وأصبح يعتمد بشكل كبير على المعدات الغربية والتخطيط الاستراتيجي الغربي. وفي الوقت نفسه، تشن روسيا حرباً على الاقتصاد الأوكراني الذي قد يجد صعوبة في تأدية وظيفته ودوره من دون مساعدة دولية.

لا يمكن ضمان استمرار الالتزام الغربي تجاه أوكرانيا. في الحقيقة، إن الأطياف السياسية في أوروبا والولايات المتحدة تراودها الشكوك والتساؤلات حول الدعم طويل الأمد لأوكرانيا. وحتى الآن لا تزال هذه الأصوات أقلية، لكنها تتضاعف وتزداد صخباً. ويظل الترويج لوجهات النظر المؤيدة لروسيا والمعادية لأوكرانيا بشكل علني أمراً نادراً سياسياً. في المقابل، فإن الشكوك [في شأن الاستمرار في دعم أوكرانيا] غالباً ما تنبع من المناقشات السياسية الداخلية الجارية منذ فترة طويلة. في الولايات المتحدة، أصبحت الحرب في أوكرانيا أحدث نقطة توتر [مصدر خلاف] في الصراع الدائر حول مدى اهتمام الأميركيين بدعم الشركاء والحلفاء في الخارج (والإنفاق عليهم). وفي أوروبا، فرضت جائحة كورونا والتضخم المرتفع في أعقاب الحرب ضغوطاً اقتصادية. وهكذا، بدأ التفاؤل في شأن نجاح أوكرانيا يتلاشى، مما أدى إلى الشعور بعدم الارتياح إزاء حرب كبرى مفتوحة طويلة الأمد على الأراضي الأوروبية.

وفي الوقت نفسه، فإن التطورات على الخطوط الأمامية، وخصوصاً الوتيرة البطيئة نسبياً والمكاسب المتواضعة للهجوم المضاد الذي أطلقته أوكرانيا في وقت سابق من هذا الصيف، شجعت المتشككين في شأن الدعم الغربي لكييف. وحتى لو اشتد الهجوم المضاد وازداد زخماً، فإنه لن ينهي الحرب في أي وقت قريب. إن أنصار أوكرانيا لا يملكون فرضية واضحة ومتفقاً عليها في شأن الانتصار في الحرب، وهذا ما يشكل عائقاً سياسياً. وخارج أوكرانيا، تهيمن على الأخبار الآن قصص أخرى غير الحرب. وكلما طال أمد الصراع، تلاشت المقارنة الأولية التي شبهته بصراع "داود وجالوت" [أسطورة توراتية عن انتصار "الحق" مهما كان ضعيفاً على "الباطل" مهما كان جباراً]، الأمر الذي يغذي تصوراً بأن النزاع لا جدوى منه ويعزز الدعوات إلى إيجاد حل سطحي في الأقل.

إن الخطر الأعظم الذي يواجه أوكرانيا لا يتمثل في حدوث تحول سياسي مفاجئ في الغرب بقدر ما يتمثل في التفكك البطيء لشبكة المساعدات الأجنبية المنسوجة بعناية. ولكن إذا حدث تحول مفاجئ، فسيبدأ في الولايات المتحدة، إذ ستحدد ورقة الاقتراع في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 الاتجاه الأساسي للسياسة الخارجية الأميركية. ونظراً إلى الخطر الذي قد تشكله الخسارة التدريجية للدعم حتى، ناهيك عن حدوث انقطاع مفاجئ، يتعين على الحكومة الأوكرانية أن تنوع تواصلها مع مختلف الأطياف السياسية، وأن تجعل طلبات المساعدة التي تطلقها تتكيف وتتماشى مع احتمال نشوب حرب طويلة الأمد. في غضون ذلك، يتعين على الزعماء السياسيين في الولايات المتحدة وأوروبا أن يبذلوا قصارى جهدهم لترسيخ المساعدات المالية والعسكرية لأوكرانيا من خلال دورات إعداد موازنات طويلة الأجل، مما يجعل من الصعب على المسؤولين في المستقبل أن يتراجعوا عن تلك المساعدات.

أصدقاء المصلحة

في أوروبا، تعتبر الولايات المتحدة مصدراً للقلق، والحلقة الضعيفة المحتملة في السلسلة عبر الأطلسية [والحلقة الضعيفة المحتملة في الشراكات عبر الأطلسي]. ومن عجيب المفارقات أن الدول الأوروبية تثير القلق نفسه في واشنطن. في منحى مقابل، ما يميز حكومات فنلندا، وبولندا، والسويد، والمملكة المتحدة، ودول البلطيق هو الإخلاص غير المتخاذل لأوكرانيا. لقد ثبت أن المخاوف من أن تؤدي حكومة يمينية متطرفة إلى تغيير نهج إيطاليا تجاه أوكرانيا لا أساس لها من الصحة. وعوضاً عن ذلك، أعادت رئيسة الوزراء جيورجيا ميلوني التأكيد على الالتزام في مسار الغرب. ونظراً إلى قلة الشعبية الكبيرة التي تحظى بها حرب بوتين في فرنسا، فحتى شخصية المعارضة الفرنسية الرئيسة، الشعبوية اليمينية المتطرفة مارين لوبان، التي كانت داعمة لبوتين تاريخياً ووافقت حتى على ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014، تمسكت بإدانتها السابقة للغزو الشامل، بيد أنها تعارض في الوقت نفسه العقوبات وتسليم الأسلحة الثقيلة إلى أوكرانيا. وتظل المجر حالة مغايرة، فهي عضو في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي ومن الواضح أنها غير متحمسة لقضية أوكرانيا. وفي مقابل عدم خرق إجماع بروكسل الذي يفضل فرض عقوبات على روسيا، حصلت المجر على عدد من التنازلات من الاتحاد الأوروبي. وحتى الآن، كان هذا كافياً لإبقاء الرئيس فيكتور أوربان ملتزماً بموقف الاتحاد الأوروبي.

ومن غير المرجح أن يتراجع الدعم الأوروبي القوي قريباً. ووفقاً لاستطلاع أجرته مؤسسة "يوروباروميتر" Eurobarometer في يونيو (حزيران)، فإن 64 في المئة من سكان الاتحاد الأوروبي يؤيدون تمويل شراء وتوريد المعدات العسكرية إلى أوكرانيا، وتتراوح هذه النسبة بين 30 في المئة في بلغاريا و93 في المئة في السويد. وبطريقة موازية، لم يتمكن أي حزب أوروبي ينادي علناً بأجندة مؤيدة لروسيا من بناء ائتلاف انتخابي مستدام. والحقيقة أن كثيراً من الشعوب الأوروبية أصبحت أكثر دعماً للاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي منذ بداية الحرب.

على رغم ذلك، هناك نوع من الإرهاق يؤثر سلباً في أوروبا. وخير مثال على ذلك هو ألمانيا، التي تمكنت من النجاة من مأزق الطاقة الناجم عن الحرب واستقبلت مليون لاجئ أوكراني بينما زادت مساعداتها تدريجاً لأوكرانيا. وكما الحال مع الجائحة، فما يولد حالاً من الإحباط هو المدة الطويلة التي تستغرقها الأزمة. في الواقع، أدى ارتفاع أسعار الطاقة والركود والمخاوف في شأن تراجع التصنيع والائتلاف الحاكم العاجز، إلى الشعور بالضيق، وكان ذلك مفيداً بالنسبة إلى "حزب البديل من أجل ألمانيا"AfD  اليميني المتطرف، وتشير استطلاعات الرأي الآن إلى أن ذاك الحزب هو ثاني أقوى حزب في ألمانيا، وهو يريد أن تنسحب بلاده من منظمة حلف شمال الأطلسي وأن توقف الدعم لأوكرانيا، بيد أن شعبية الحزب لا تنبع من آرائه المؤيدة لروسيا، بل هو يستغل السخط العام لجعل انتقاده لسياسة ألمانيا الخارجية المؤيدة للعلاقات مع دول الأطلسي يبدو أمراً عادياً.

بالنسبة إلى الأوروبيين، كلما طال أمد الحرب، بدا أنها مستعصية على الحل ومكلفة، وأنها وسيلة لتأكيد نفوذ الولايات المتحدة أكثر من كونها مصلحة أساسية أوروبية. وبما أن دعم الحرب هو الموقف السائد والوضع القائم في أوروبا، فإن رواد الأعمال السياسيين يمكنهم التركيز على الجبهة الداخلية وإلقاء اللوم على النخب في العواصم وبروكسل لاهتمامها بأوكرانيا أكثر من اهتمامها بشعوبها. على سبيل المثال، شبهت عضوة البرلمان الألماني اليسارية التي تتمتع بشعبية كبيرة، سارة فاغنكنشت، الدعم لأوكرانيا أخيراً بهاوية مالية لا نهاية لها، في حين يجري خفض الموازنة الفيدرالية في كل المجالات الأخرى. ومن الممكن أن تصبح مثل هذه الآراء أكثر شيوعاً في أوروبا بسهولة، ولن يحتاج أنصارها إلى تقديم سياسة بديلة قابلة للتطبيق، إنهم لا يحتاجون حتى إلى قول الحقيقة. ولن يتطلب الأمر وجود ديماغوجي ماهر بشكل خاص لإقناع الأوروبيين الذين يتحملون الضغوط الاقتصادية بأن هناك نهاية سهلة متاحة للحرب، وأن إنهاءها من شأنه أن ينقذهم من ويلاتهم، مثل ارتفاع معدلات التضخم.

إن الخطر الأعظم الذي يواجه أوكرانيا يتمثل في التفكك البطيء لشبكة المساعدات الأجنبية المنسوجة بعناية.

وتجدر الإشارة إلى أن العنصر غير المتوقع  في الحرب هو الولايات المتحدة. في استطلاعات الرأي الأخيرة، يبدو الرئيس جو بايدن إما متخلفاً عن الرئيس السابق دونالد ترمب أو في منافسة متقاربة معه. ومن المرجح أن تكون عودة ترمب مصيبة لأوكرانيا. فحين كان في سدة الرئاسة، تعامل مع أوكرانيا باعتبارها جزءاً ثانوياً من حملة إعادة انتخابه وحاول إجبار زيلينسكي على الإضرار بسمعة بايدن، المنافس الرئيس له في ذلك الوقت. وفقاً لصحيفة "نيويورك تايمز"، اقترح ترمب مرات عدة في عام 2018 بشكل سري أن تنسحب الولايات المتحدة من حلف الناتو بحضور كبار مسؤولي الإدارة، لكنه لم ينفذ هذه الفكرة قط. ولكن إذا أردنا إصدار أحكام بناء على خطابه خلال الحملة الانتخابية، فإنه يبدو عازماً على الذهاب إلى أبعد من ذلك في انتهاك الأعراف والتقاليد الراسخة إذا عاد للبيت الأبيض. وفي الأشهر الأخيرة، لمح ترمب إلى أنه قادر على إنهاء الحرب في أوكرانيا خلال 24 ساعة. ويشير مثل هذا التهديد خلال الحملة الانتخابية إلى أنه يفضل التوصل إلى تسوية للصراع عن طريق التفاوض (بشروط روسية على الأرجح) على الاستمرار المطرد في تقديم المساعدات إلى أوكرانيا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

قد لا يصبح ترمب مرشح الحزب الجمهوري. ولكن من الملفت للنظر أنه من بين جميع المرشحين الآخرين، فالمرشحان اللذان حصلا على أعلى أرقام في استطلاعات الرأي، حاكم فلوريدا رون ديسانتيس ورجل الأعمال فيفيك راماسوامي، هما الأقل اكتراثاً لأوكرانيا. ويظل الجناح الريغاني في الحزب الجمهوري، الذي يدعم الدفاع القوي عن الديمقراطيات الحليفة ويضم شخصيات مثل نائب الرئيس السابق مايك بنس والسيناتور ميتش ماكونيل من كنتاكي، ممثلاً بشكل جيد في الكابيتول هيل وفي مراكز البحوث في واشنطن. ومع ذلك، فإن هذه الرؤية تفشل بين ناخبي الانتخابات التمهيدية الجمهوريين. وترى قاعدة الحزب الجمهوري أن الصين تشكل تهديداً أكبر بكثير من روسيا، ويؤيد عديد من الجمهوريين التركيز على معالجة المشكلات الداخلية عوضاً عن دعم أوكرانيا. ووفقاً لاستطلاع للرأي نشرته مؤسسة "غالوب" Gallup في يونيو (حزيران)، يعتقد 50 في المئة من الجمهوريين أن واشنطن تبالغ في دعمها لأوكرانيا، مقارنة بـ43 في المئة في بداية الحرب. ويفضل 49 في المئة من الجمهوريين إنهاء الصراع بسرعة، حتى لو كان ذلك سيسمح لروسيا بالاحتفاظ بالأراضي التي استولت عليها.

كتب راماسوامي الشهر الماضي، مردداً عبارة أصبحت مألوفة في وسائل الإعلام الأميركية المحافظة "إننا نبذل قصارى جهدنا من أجل استخدام الموارد العسكرية الأميركية في سبيل الدفاع عن غزو لحدود ليست حدود بلادنا في وقت لا نفعل فيه شيئاً على الإطلاق لوقف الغزو المدعوم من الكارتلات عبر حدودنا الجنوبية هنا في الوطن". وهذه الحجة، التي قد تكون سطحية ومعادية للأجانب، ينجذب إليها بشكل بديهي عدد كبير من الجمهوريين والمحافظين. ومن المحتمل أن تلقى استحساناً لدى كثير من المستقلين وحتى بعض الديمقراطيين والتقدميين.

صعوبة في الالتزام

إن تقليص الدعم الغربي لأوكرانيا لن ينهي الحرب. في الواقع، ليس هناك أي بلد تخوض قتالاً فعلياً في أوكرانيا، وعلى رغم الدور الجوهري الذي تلعبه الأسلحة والأموال الغربية، فقد كانت هذه الحرب حرب أوكرانيا منذ البداية، فالأوكرانيون هم الذين أظهروا بسالة استثنائية وقدموا تضحيات غير عادية. مع أو بدون الشراكة الغربية، ستواجه أوكرانيا المعضلة نفسها، المتمثلة في خصم لا يقبل وجود الأمة الأوكرانية أو شرعية الثقافة الأوكرانية أو اللغة الأوكرانية، خصم سمح لنفسه بمهاجمة المدنيين، وترتب على ذلك عواقب مروعة. ويتعين على أوكرانيا أن تتصدى لهذا الخصم بأية وسيلة متاحة. وإلى أن يصل قادة جدد إلى الكرملين، فلا خيار أمام أوكرانيا سوى مقاومة روسيا بالقوة.

ومن دون الدعم الغربي ستواجه أوكرانيا معضلتين. إحداهما هو صعوبة خوض الحرب إذا أصبح العتاد الغربي أكثر كلفة، أو أقل توافراً، أو كليهما. في الحقيقة، أمضى الجنود الأوكرانيون وقتاً طويلاً في تلقي تدريب على المعدات الغربية، واستفاد الاستراتيجيون الأوكرانيون بشكل كبير من المساعدة في تحديد الأهداف المناسبة وتبادل المعلومات الاستخبارية التي يتلقونها من الولايات المتحدة ومن دول أخرى. غالباً ما يمر الوصول إلى الإنترنت في ساحة المعركة عبر شبكة "ستارلينك" [شبكة أقمار اصطناعية توفر إنترنت منخفض الكلفة]، من خلال التكنولوجيا التي قدمها رجل الأعمال في مجال التكنولوجيا المقيم في الولايات المتحدة إيلون ماسك مجاناً لفترة من الوقت (مع قيود على ما يبدو)، وقرر البنتاغون أخيراً دفع تكاليفها. وإذا قررت أوروبا أو الولايات المتحدة (أو كلاهما) قطع الدعم عن أوكرانيا، سيشكل ذلك خسارة لا تقدر بثمن في القدرة العسكرية.

أما المعضلة الأخرى فستمتد إلى ما هو أبعد من أوكرانيا، فالدعم الغربي لأوكرانيا والطريقة التي ترى فيها روسيا نفسها متشابكان بشكل عميق. لم يكن غزو بوتين مجرد رهان على سقوط أوكرانيا، وقدرة روسيا بعد ذلك على السيطرة على البلاد أو تقسيمها، بل كان رهاناً على الغرب، وعلى وجه الخصوص، على الولايات المتحدة، التي تمكنت أخيراً، قبل أشهر من الغزو، من تقليص خسائرها في أفغانستان بعد حرب طويلة وصعبة. كان بوتين يراهن على الفطنة والصبر الاستراتيجيين لدى الولايات المتحدة، وبالتالي، لدى حلف شمال الأطلسي. إذا نفد صبر الولايات المتحدة والدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي في شأن أوكرانيا، فقد يعتبر الكرملين هذه الحرب بمثابة نجاح استراتيجي حتى لو ظلت روسيا غارقة في الصراع في أوكرانيا، وقد ينظر إلى هذا الوصف عالمياً على أنه انتصار لموسكو.

وإذا تراجع الدعم لأوكرانيا في أوروبا ولكن ليس في الولايات المتحدة، فإن روسيا ستتبنى نهج "فرق تسد". قد تقترح تسوية تفاوضية زائفة، أو وقف القتال موقتاً، أو دبلوماسية الحبة السامة [استراتيجية أو تكتيك دبلوماسي يشارك فيه أحد الطرفين في مفاوضات أو جهود دبلوماسية بقصد تضمين شروط أو مقترحات غير مقبولة أو ضارة عن عمد للطرف الآخر، أو شروط تعجيزية يستحيل تلبيتها] وهي أساليب تشبه تلك التي استخدمتها روسيا في عامي 2014 و2015، عندما أعطت الانطباع بأنها منفتحة على التسوية ولكنها كانت في الواقع تسعى إلى السيطرة على أوكرانيا. وستكون الفكرة وراء ذلك هي دق إسفين بين بعض الحكومات الأوروبية وواشنطن، وبين أوروبا الغربية وأوروبا الشرقية. في الواقع، إن وجود خلاف بين أوروبا والولايات المتحدة وخلافات ضمن أوروبا نفسها من شأنه أن يشكل بيئة مواتية ممتازة للجهود الروسية (من خلال التلاعب والتجسس) من أجل تمهيد الطريق أمام ابتلاع روسيا للأراضي الأوكرانية. ولكن إذا استمر دعم الولايات المتحدة وقيادتها، فسيكون لأوكرانيا أساس قوي، وسيكون من المستحيل على أوروبا الغربية التواصل مع روسيا أو التفاوض على اتفاق معها في شأن أوكرانيا إذا عارضت الولايات المتحدة هذه النتيجة.

في المقابل، قد يكون لفقدان الدعم المقدم من الولايات المتحدة، لا من أوروبا، تأثير أكثر خطورة. حاضراً، التزم أعضاء الاتحاد الأوروبي ومؤسساته بما يقارب ضعف إجمالي المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة لأوكرانيا (المالية والعسكرية والإنسانية)، عبر حزم متعددة السنوات. لكن الالتزامات العسكرية الأميركية توازي جميع التعهدات العسكرية مجتمعة من الاتحاد الأوروبي تجاه أوكرانيا. ولا تستطيع أوروبا أن تحل محل المساعدة العسكرية الأميركية على هذا النطاق الواسع، وستجد صعوبة في سد فجوة القيادة. وإذا حاولت الولايات المتحدة فرض تسوية في شأن أوكرانيا عن طريق التفاوض، فلن يكون لدى الأوروبيين القدرة على المقاومة. أما التوصل إلى تسوية ضيقة الأفق أو متسرعة، فمن شأنه أن يعرض أمن أوكرانيا وأمن أوروبا للخطر على حد سواء. ومن وجهة نظر روسيا، فإن مثل هذه التسوية قد تظهر تراجعاً واضحاً في التزام الولايات المتحدة بأمن أوروبا.

سلاح بوتين السري

لا تتمتع أوكرانيا بنفوذ كبير على سياسة شركائها الداخلية في زمن الحرب. وعلى رغم أن زيلينسكي قدم أقوى حجة لصالح أوكرانيا، فإن الرأي العام والانتخابات في أوروبا والولايات المتحدة سيتبعان منطقاً خاصاً بتلك البلدان. ويتعين على الحكومة الأوكرانية أن تعمل على تنمية العلاقات مع الشخصيات والأحزاب السياسية التي لا تؤيد المعسكر الأوكراني بشدة، بما في ذلك أحزاب أقصى اليسار وأقصى اليمين، تماماً مثلما طورت الحكومة الأوكرانية علاقاتها مع الصين خلال الحرب، على رغم قرب الصين من روسيا. وبهذه الطريقة تستطيع كييف أن تعمل ضد الاستقطاب السياسي الذي يهدد بتقليص الدعم الذي تحظى به أوكرانيا.

عندما وصل زيلينسكي إلى السلطة في عام 2019، وقع على الفور تقريباً في مكائد سياسية حاكتها واشنطن، لكنه صمد ليقود بلاده عندما كانت في أمس الحاجة إليه. إنه ماهر في عدم الانحياز بشدة إلى أي حزب سياسي. وبالنسبة إلى الأطياف السياسية التي لم تقتنع بعد بدعم الحرب، مثل الأحزاب اليسارية في ألمانيا، والأحزاب اليمينية المتطرفة في فرنسا، والأحزاب الشعبوية الصاعدة في دول مثل سلوفاكيا، يجب على زيلينسكي تسليط الضوء على التكاليف العسكرية والاقتصادية الهائلة التي قد تتكبدها بلدان الغرب بسبب النصر الروسي في أوكرانيا، وخصوصاً الموجة الهائلة من المهاجرين التي قد تنتج منه.

في واشنطن والعواصم الأوروبية، لا يمكن ضمان دعم راسخ وثابت لأوكرانيا. لا بد من أن الانتخابات ستعيد النظر في جميع خيارات السياسة الخارجية، لكن هناك بعض الأولويات التي يمكن الحفاظ عليها. ومن الممكن إدراج الدعم المالي والضمانات الأمنية لأوكرانيا في التشريعات وفي الميزانيات الواسعة الأفق والبعيدة النظر. ففي الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، اقترحت المفوضية الأوروبية تخصيص أكثر من 50 مليار دولار لإنعاش أوكرانيا وإعادة إعمارها وتحديثها في الفترة الممتدة بين عامي 2024 و2027. وينبغي لبروكسل والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تمديد هذه التعهدات المتعددة السنوات لفترات أطول في المستقبل.

لا تتمتع أوكرانيا بنفوذ كبير على سياسة شركائها الداخلية في زمن الحرب.

في الواقع، ليست هناك أي انتخابات تشكل لحظة حاسمة تحدد مصير السياسة الغربية، حتى انتخابات عام 2024 الرئاسية الأميركية: خاض ترمب انتخابات عام 2016 على أساس التقارب مع روسيا وانتهى به الأمر بإرسال مساعدات عسكرية فتاكة إلى أوكرانيا. والجدير بالذكر أن الفصل بين السلطات وتكرار الانتخابات يشكل في حد ذاته حماية ديمقراطية ضد أسوأ السيناريوهات. وبغض النظر عما إذا كان الوضع الراهن سيظل قائماً في الغرب، يتعين على المسؤولين أن يعملوا بشكل مستمر ومبتكر على تقديم حجج تدعم مساعدة أوكرانيا.

ومع استمرار الصراع، سيتعين على أوكرانيا تكييف روايتها للحرب بطريقة تتناسب مع الرأي العام الغربي. فبدلاً من تحقيق نصر سريع وحاسم، كما كان يأمل كثيرون عندما بدأ الهجوم المضاد في الصيف، سيكون على كييف أن توضح الآن الهدف النهائي في هذه الحرب التي طال أمدها ألا وهو صمود أوكرانيا. وإلا فقد يسيطر شعور بالانتساء [عدم التفاعل واللا مبالاة بما يحدث]، خصوصاً إذا انتقلت الحرب على نحو متزايد إلى الأراضي الروسية من خلال ضربات المسيرات أو أنواع أخرى من الهجمات. وعلى رغم أن ذلك قد يكون ضرورياً للدفاع عن النفس ورفع المعنويات الأوكرانية، فقد تصبح مثل هذه الهجمات مكلفة سياسياً إذا أدت إلى "لوم الجانبين" [المعتدي والمعتدى عليه] في المناقشات الغربية.

في عام 2015، بعد انتهاء أسوأ المعارك في شرق أوكرانيا في أعقاب اتفاق وقف إطلاق النار الهش، كان الخطأ الأساسي الذي ارتكبه الغرب هو فقدان الاهتمام بما يجري هناك، وبطريقة ما، كان هناك تصور بأن الأزمة ستحل من تلقاء نفسها. ونتيجة لذلك، استخلص بوتين ما اعتبره درساً أساسياً في ما يتعلق بعدم القدرة على التنبؤ بتصرفات الزعماء الغربيين وتقلباتهم. وفي المستقبل، يتعين على أوروبا والولايات المتحدة أن تستمرا في إثبات أن الاستنتاج الذي توصل إليه بوتين كان خاطئاً، إذ إن احتواء روسيا والحفاظ على السيادة الأوكرانية يشكلان مصالح غربية من الدرجة الأولى، وليس من المفترض أن يتأثرا بصور العنف المروع، أو الاهتمام الإعلامي المستمر، أو الكاريزما التي يتمتع بها أي سياسي أوكراني. إن اللامبالاة الغربية ونفاد الصبر هما سلاح بوتين الأقوى في هذه الحرب، ومن دونهما، يواجه بوتين طريقاً استراتيجياً مسدوداً.

ليانا فيكس باحثة في الشؤون الأوروبية بمجلس العلاقات الخارجية.

مايكل كيماج أستاذ التاريخ في الجامعة الكاثوليكية الأميركية وزميل رفيع غير مقيم في برنامج أوروبا وروسيا وأوراسيا في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS). من عام 2014 إلى عام 2016، عمل في "فريق موظفي تخطيط السياسات" في وزارة الخارجية الأميركية، حيث كلف بالملف الروسي - الأوكراني.

مترجم من فورين أفيرز، سبتمبر 2023

المزيد من آراء