Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إلى الخنادق مرة أخرى

لماذا لم تحدث التكنولوجيا الحديثة ثورة في الحرب في أوكرانيا؟

دبابة روسية مدمرة في نوفوداريفكا، أوكرانيا، يوليو 2023 (رويترز)

ملخص

تشن حرب في أوكرانيا باستخدام مجموعة من التقنيات المتقدمة، بدءاً من الطائرات المسيرة مروراً بالأسلحة الدقيقة وليس انتهاءً باستخدام الذكاء الاصطناعي. لكن من نواح عديدة، تشبه هذه الحرب إلى حد بعيد ما سبقها من حروب كبرى

تشن حرب في أوكرانيا باستخدام مجموعة من التقنيات المتقدمة، بدءاً من الطائرات المسيرة إلى المراقبة الفضائية، والأسلحة الدقيقة، والصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، وأجهزة التشويش المحمولة، والذكاء الاصطناعي، والاتصالات الشبكية، وغير ذلك كثير.

يجادل كثيرون بأن ما سلف عمل على إحداث تحول في الحرب، إذ تتحد المراقبة المنتشرة في كل مكان مع الأسلحة الفتاكة الجديدة لجعل أنظمة قديمة كالدبابة مثلاً شيء عفا عليه الزمن ولتحيل الأساليب التقليدية كالعمل الهجومي واسع النطاق إلى أمر غير عملي. وعلى حد تعبير المحلل العسكري ديفيد جونسون: "أعتقد أننا نشهد لحظة محورية في التاريخ العسكري: صعود الدفاع باعتباره الشكل الحاسم للحرب".

كما تعمل الطائرات المسيرة، والذكاء الاصطناعي، والتكيف السريع للتكنولوجيات المدنية في أوكرانيا على خلق "ثورة عسكرية حقيقية"، وفقاً للخبير الاستراتيجي العسكري تي إكس هامز. أما إيريك شميت، الرئيس التنفيذي السابق لشركة "غوغل" ومستشار وزارة الدفاع الأميركية "البنتاغون"، فرأى أن حرب أوكرانيا أظهرت أن "طريقة شن الحرب ومستقبلها سيتحددان بواسطة الطائرات المسيرة".

لكن من نواح عديدة، تبدو هذه الحرب مألوفة تماماً. فهي تظهر جنود المشاة وهم يسيرون عبر الخنادق الموحلة في مشاهد أقرب إلى الحرب العالمية الأولى منها إلى حرب النجوم. وتنتشر في ساحات القتال حقول الألغام التي تشبه تلك التي تعود للحرب العالمية الثانية، كما وأنها تتميز بمشاهد تظهر ثقوب القذائف على المباني التي يمكن الخلط بينها وبين ما حدث في منطقة فلاندرز عام 1917. المدفعية التقليدية أطلقت أيضاً ملايين من القذائف غير الموجهة، مما أدى إلى إجهاد القدرة الإنتاجية للقواعد الصناعية في روسيا والغرب على حد سواء. كما أن صور مبرمجي الرموز والشفرات وهم يطورون برامج عسكرية مصحوبة بمشاهد لأرضيات المصانع التي تنتج ذخائر تقليدية لا ينقصها سوى روزي المبرشمة [هي رمز مشهور من الحرب العالمية الثانية يمثل النساء اللاتي عملن في المصانع وأحواض بناء السفن أثناء المجهود الحربي] لتنضم إلى مجموعة صور عام 1943.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهذا يثير التساؤل حول مدى اختلاف هذه الحرب حقاً. فكيف يمكن لهذه التكنولوجيا المتطورة أن توجد وتتعايش مع أصداء الماضي البعيد؟ الجواب هو أنه على رغم حداثة المعدات المستخدمة في أوكرانيا في بعض الأحيان، إلا أن نتاجها ليس كذلك في الغالب. فالجيوش تتكيف مع التهديدات الجديدة، كما أن التدابير المضادة التي اعتمدها الجانبان في أوكرانيا أدت إلى خفض التأثير الإجمالي لهذه الأسلحة والمعدات الجديدة بشكل كبير، مما أدى إلى حرب تبدو في كثير من النواحي وكأنها صراع من الماضي أكثر من كونه صراعاً من مستقبل متخيل عالي التقنية. يجب على واضعي مخططات الدفاع الأميركيين أن يفهموا أن الحرب في أوكرانيا لا تنذر "بثورة في الشؤون العسكرية" كما كان متوقعاً في كثير من الأحيان، ولكنها لم تتجسد بعد بالطريقة المتوقعة. كما ينبغي لصناع السياسات والمحللين أن يدرسوا عن كثب ما يحدث على الأرض في أوكرانيا، لكن لا ينبغي لهم أن يتوقعوا أن تؤدي النتائج التي يتوصلون إليها إلى إحداث تغيير أساسي في الاستراتيجية العسكرية الأميركية. وبدلاً من ذلك، كما كان عليه الحال غالباً في الماضي، فإن أفضل مسار للمضي قدماً سينطوي على تكيفات تدريجية لا على تحولات جذرية.

خسائر فادحة؟

إحدى الطرق لتقييم النتائج المحققة لاستخدام الأسلحة الحديثة في أوكرانيا هي النظر إلى الخسائر التي أوقعتها هذه الأسلحة. عادة ما يزعم أولئك الذين يرون حدوث ثورة عسكرية في أوكرانيا أن تقنيات المراقبة الجديدة، مثل ربط الطائرات المسيرة بأسلحة دقيقة، جعلت ساحة المعركة الحديثة أكثر فتكاً بشكل جذري. ومع ذلك، فإن معدل الفتك المحقق (على عكس الفتك المحتمل) للأسلحة الروسية والأوكرانية في هذه الحرب لا يختلف كثيراً عن ذلك الذي شوهد في الحروب السابقة، وفي بعض الحالات يكون أقل في الواقع.

لنأخذ على سبيل المثال خسائر الدبابات. فعديد من مؤيدي حدوث ثورة عسكرية يرون أن الخسائر الفادحة في الدبابات بأوكرانيا كانت المؤشر الرئيس على التقادم الوشيك لدور الدبابة في مواجهة الأسلحة الفتاكة الدقيقة المضادة للدبابات. من المؤكد أن خسائر الدبابات في أوكرانيا كانت فادحة: إذ فقدت كل من روسيا وأوكرانيا أكثر من نصف الدبابات التي دخلت بها الحرب. فمع بدء الغزو، كان لدى روسيا حوالى 3400 دبابة في الخدمة الفعلية. لكن في أول 350 يوماً من الحرب، خسرت ما بين 1688 (الرقم الذي تحققت منه منظمة أوريكس التي تعتمد على معلومات متاحة للعموم باستخدام الصور الفوتوغرافية) و3253 (الرقم الذي أعلنته وزارة الدفاع الأوكرانية)، بمعدل خسارة يتراوح ما بين 50 و 96 في المئة. أوكرانيا بدورها أرسلت حوالى 900 دبابة عند الغزو وخسرت ما لا يقل عن 459 دبابة (بحسب أوريكس) في أول 350 يوماً، بمعدل خسارة لا يقل عن 51 في المئة. قام كلا البلدين بصنع أو الحصول على دبابات إضافية لتحل محلها. وتمتلك روسيا، على وجه الخصوص، احتياطيات كبيرة من الدبابات القديمة التي أدخلت إلى الخدمة. يمكن في بعض الأحيان إصلاح الدبابات المتضررة وإعادتها إلى المعركة. لكن وعلى رغم أن الأساطيل المدرعة في الميدان لم تتقلص بشكل كبير، إلا أنه من الواضح أن عديداً من الدبابات فقدت في المعركة.

ومع ذلك، فإن هذه ليست معدلات خسائر فادحة بشكل غير عادي في الحروب الكبرى. ففي أربعة أيام فقط خلال معركة أميان (Battle of Amiens) عام 1918، فقدت المملكة المتحدة 98% من الدبابات التي كانت لديها عندما بدأ القتال. وفي عام 1943، بلغ معدل خسارة الدبابات الألمانية 113 في المئة: خسرت ألمانيا دبابات أكثر مما كانت تمتلكه في بداية العام. وفي عام 1944، فقدت ألمانيا أيضاً 122% من الدبابات التي بدأت بها العام. وكذلك بلغت معدلات خسارة الاتحاد السوفياتي للدبابات في عامي 1943 و1944 هذا المستوى المرتفع تقريباً، إذ بلغت 109% و80% على التوالي. وفي معركة واحدة في نورماندي (عملية غودوود، في يوليو 1944)، فقدت المملكة المتحدة أكثر من 30% من مدرعاتها في القارة خلال ثلاثة أيام فقط من القتال. ومع ذلك، قليلون قالوا إن الدبابة عفا عليها الزمن في عام 1918 أو 1944.

التكنولوجيا الحديثة مهمة، لكن التكيف الذي أظهرته الجيوش خفف من آثارها بشكل كبير

أو لننظر في خسائر الطائرات. فرأى بعضهم أن الصواريخ الحديثة المضادة للطائرات مدمرة للغاية للطائرات التقليدية التي يقودها طيارون، لدرجة أن هذه أيضاً في اتجاهها إلى مزبلة التاريخ. شأنها شأن الدبابات، تكبدت الطائرات خسائر فادحة في أوكرانيا: ففي ما يقرب من عام ونصف من القتال، فقدت القوات الجوية الأوكرانية ما لا يقل عن 68 طائرة، أو أكثر من ثلث أسطولها قبل الحرب، كما فقدت القوات الجوية الروسية أكثر من 80 طائرة عسكرية من أسطولها قبل الغزو والبالغ 2204 طائرات. ومع ذلك، فإن هذا المستوى من الدمار لا يكاد يكون غير مسبوق. في عام 1917، كان متوسط العمر المتوقع للطيار البريطاني الجديد 11 يوماً فقط. في عام 1943، فقدت القوات الجوية الألمانية 251 في المئة من الطائرات التي كانت تمتلكها في بداية العام. وكان معدل خسارتها في عام 1944 أعلى من ذلك: ففي النصف الأول من ذلك العام فقط، فقدت 146 في المئة من القوة التي امتلكتها في شهر يناير (كانون الثاني). كان معدل الخسائر السوفياتية من الطائرات 77 في المئة عام 1943، و66 في المئة عام 1944. ومع ذلك، لم يزعم سوى عدد قليل من الناس أن الطائرات المأهولة أصبحت قديمة الطراز في عامي 1917 أو 1943.

وكذلك الحال مع سلاح المدفعية. منذ عام 1914 في الأقل، تسببت المدفعية بوقوع خسائر في الحروب الكبرى أكثر مما سببه أي سلاح آخر. واليوم، يعتقد بعض المراقبين أن ما يصل إلى 80 وحتى 90 في المئة من الضحايا الأوكرانيين كانوا بسبب نيران المدفعية. تعرض عديد من الروايات عن القتال في أوكرانيا مشاهد للجيشين وهما يستخدمان طائرات مسيرة للعثور على أهداف العدو ثم يستخدمان الاتصالات الشبكية لنقل المعلومات بسرعة من أجل الاشتباك الدقيق بواسطة المدفعية الموجهة. وبطبيعة الحال، ليست كل المدفعية في أوكرانيا موجهة بدقة، معظم القذائف التي أطلقها أي من الجانبين كانت قديمة نسبياً. لكن الجمع بين هذه الجولات غير الموجهة وطائرات الاستطلاع المسيرة وأنظمة الاستهداف السريع غالباً ما يوصف بأنه تطور جديد وعميق في أوكرانيا. ومع ذلك، إذا افترضنا أن 85 في المئة من الخسائر البشرية الروسية ناجمة عن المدفعية الأوكرانية، وأن روسيا تكبدت ما يصل إلى 146.820 ضحية في السنة الأولى من الغزو (بحسب وزارة الدفاع الأوكرانية)، وأن أوكرانيا أطلقت ما مجموعه حوالى 1.65 مليون قذيفة مدفعية في السنة الأولى (كما قدرها معهد بروكينغز)، ثم تسببت الطائرات المسيرة ومزيج المدفعية الموجهة وغير الموجهة في الجيش الأوكراني في وقوع حوالى ثماني خسائر روسية في المتوسط لكل 100 طلقة أطلقت في السنة الأولى من الغزو.

ويتجاوز هذا المعدل معدلات الحرب العالمية، ولكن ليس بشكل كبير. إذ يقدر المؤرخ تريفور دوبوي أن سلاح المدفعية تسبب بمقتل حوالى 50 في المئة من ضحايا تلك الحرب، مما يعني أنها أوقعت في المتوسط حوالى ثلاث ضحايا لكل 100 طلقة أطلقت. في حين كان الرقم خلال الحرب العالمية الأولى حوالى جنديين يجرحان أو يقتلان لكل 100 طلقة. وبالتالي، ازداد عدد الضحايا لكل 100 طلقة منذ عام 1914، ولكن بمعدل سنوي ثابت وخطي تقريباً يبلغ حوالى 0.05 ضحية إضافية لكل 100 طلقة. تبدو المدفعية في أوكرانيا وكأنها امتداد تدريجي لاتجاهات طويلة الأمد أكثر من كونها خروجاً ثورياً عن الماضي.

جمود واختراقات

بطبيعة الحال، يعتبر الضحايا عنصراً واحداً فقط من عناصر الحرب - إذ تسعى الجيوش أيضاً إلى الاستيلاء على الأرض والحفاظ عليها. ويعتقد عديد من أصحاب النظرة الثورية لمجريات الحرب أن المعدات الجديدة غيرت أنماط التقدم والتراجع في أوكرانيا مقارنة بالتجارب التاريخية. ومن هذا المنظور، فإن الأسلحة الفتاكة الجديدة اليوم جعلت المناورات الهجومية مكلفة للغاية، ودشنت عصراً جديداً من الهيمنة الدفاعية إذ أصبح الاستيلاء على الأرض أصعب كثيراً على المهاجمين مقارنة بالعصور السابقة من الحروب.

مع ذلك، لا تزال الحرب الأوكرانية حتى الآن بعيدة كل البعد من الجمود الدفاعي لكلا الطرفين. فشلت بعض الهجمات بالفعل في تحقيق مكاسب أو أنها لم تفعل ذلك إلا بكلفة باهظة. نجح الهجوم الروسي في باخموت في نهاية المطاف، ولكن فقط بعد 10 أشهر من القتال وعدد ضحايا قد يتراوح بين 60 إلى 100 ألف جندي روسي. لم تحقق الهجمات الروسية في ربيع عام 2022 سوى قليل من الأرض، واستمر الهجوم الروسي على ماريوبول في جنوب أوكرانيا في فبراير (شباط) لمدة ثلاثة أشهر تقريباً قبل أن تتقهقر الدفاعات الأوكرانية التي فاقها المهاجمون عدداً وليستولي الروس على المدينة. بدأ الهجوم المضاد لأوكرانيا في خيرسون بعد أسابيع من حرب الاستنزاف البطيئة والمكلفة في أغسطس (آب) وسبتمبر (أيلول) 2022.

لكن الهجمات الأخرى انتقلت إلى مسافة أبعد وأسرع. الغزو الروسي الأولي في فبراير (شباط) 2022 نفذ بشكل سيئ من نواح عديدة، ومع ذلك نجح في الاستحواذ على أكثر من 42 ألف ميل مربع من الأرض في أقل من شهر. ثم استعاد الهجوم المضاد الذي شنته أوكرانيا على جبهة كييف أكثر من 19 ألف ميل مربع في مارس (آذار) وأوائل أبريل (نيسان). كما استعاد الهجوم المضاد على جبهة خيرسون في أغسطس (آب) 2022 ما يقرب من 470 ميلاً مربعاً، واستعاد هجوم خاركيف المضاد في سبتمبر (أيلول) من العام نفسه 2300 ميل مربع. وهكذا قدمت الحرب مزيجاً من الهجوم الناجح والدفاع الناجح، وليس نمطاً من الإحباط الهجومي المستمر. وكل هذا - سواء من الاختراقات أو الجمود - حدث في مواجهة الأسلحة والمعدات الجديدة. على العكس من ذلك، لعبت الأنظمة القديمة مثل الدبابات أدواراً بارزة في كل من النجاحات والإخفاقات الهجومية. ومن الصعب التوفيق بين هذه الاختلافات مع أية حقبة حربية جديدة تحددها التكنولوجيا.

 

وهذا يحمل أيضاً صدى تاريخياً كبيراً. فالتصور الشائع للحرب العالمية الأولى ينظر لها باعتبارها صراعاً تميز بالتقدم التكنولوجي الذي قاد إلى شلل دفاعي، وأن الحرب العالمية الثانية كانت بمثابة حرب استراتيجيات هجومية مدفوعة بالابتكارات مثل الدبابة، والطائرة، والراديو. ويشجع هذا التصور المراقبين اليوم على البحث عن تحول كبير مماثل في مسار الأحداث في أوكرانيا. ولكن في الواقع، لم تلتزم أي من الحربين العالميتين بشكل صارم بنمط موحد تمليه التكنولوجية وحدها: فقد أنتجت التقنيات نفسها أعمالاً هجومية سيطرت على الأرض بسرعة، وجموداً دفاعياً طويل الأمد إذ بالكاد تتزحزح الخطوط الأمامية. أظهرت الحربان العالميتان اختلافات واسعة في النجاح الهجومي الذي لا يرتبط بشكل كبير بجودة المعدات المستخدمة.

في الحرب العالمية الأولى، على سبيل المثال، غالباً ما يتمحور التصور العام للحرب حول مأزق حرب الخنادق في الفترة ما بين 1915 و1917. ومع ذلك، في بداية الصراع في عام 1914، حقق الغزو الألماني الأولي لبلجيكا وفرنسا تقدماً كبيراً، إذ غطى أكثر من 200 ميل في أربعة أسابيع فقط، على رغم مواجهة المدافع الرشاشة والمدفعية الحديثة. في عام 1918، خلال هجمات الربيع الألمانية، اخترقت خطوط الحلفاء على الجبهة الغربية ثلاث مرات متتالية، واستولي على ما يقرب من 4 آلاف ميل مربع من الأراضي من دون نشر كبير للدبابات. بعد ذلك، دفع هجوم الحلفاء الذي دام 100 يوم الألمان إلى التراجع عبر التضاريس المفتوحة على طول جبهة يبلغ طولها 180 ميلاً تقريباً، مما أدى إلى الاستيلاء على أكثر من 9500 ميل مربع من الأراضي الألمانية التي كانت تسيطر عليها سابقاً. في الواقع، شهد عام 1918 ككل انتقال ملكية أكثر من 12500 ميل مربع خلال ثمانية أشهر من القتال. شهدت الحرب العالمية الأولى أيضاً عديداً من الهجمات الفاشلة، لكن الجمود ليس هو القصة بأكملها.

على العكس من ذلك، فإن التصور السائد للحرب العالمية الثانية هيمنت عليه دور الدبابات والهجمات الخاطفة. من المؤكد أنه كان هناك كثير من الهجمات الناجحة المدعومة بالدبابات، سواء أثناء الغزو الألماني لفرنسا في عام 1940 أو للاتحاد السوفياتي في عام 1941، أو أثناء الهجوم الأميركي في عملية "كوبرا" في نورماندي عام 1944. ولكن الحرب شهدت أيضاً بعضاً من أكثر الإخفاقات الهجومية كلفة في التاريخ العسكري. على سبيل المثال، أسفرت معركة "كورسك" عام 1943 في روسيا عن سقوط أكثر من 160 ألف من المهاجمين الألمان ودمرت أكثر من 700 مركبة مدرعة ألمانية لكنها فشلت في اختراق الدفاعات السوفياتية. المؤرخ ألكسندر ماكي وصف الهجوم البريطاني الفاشل على "غودوود" عام 1944 بأنه "رحلة الموت للفرق المدرعة". وبالمثل، أدت هجمات الحلفاء المتكررة على الخط القوطي [آخر خط دفاع رئيس خلال عملية التراجع التي قامت بها القوات الألمانية ضد جيوش الحلفاء في إيطاليا] في إيطاليا في عامي 1944 و1945 إلى سلسلة من النكسات وتكبدها أكثر من 40 ألف ضحية. شأنها شأن الحرب العالمية الأولى، جاءت الحرب العالمية الثانية بقدر كبير من التباين في النتائج، فهي لم تكن قصة بسيطة وموحدة للنجاح الهجومي. وفي أوكرانيا، تحققت النجاحات الهجومية للحرب وجمودها الدفاعي في مواجهة الطائرات المسيرة، والأسلحة الدقيقة، والصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، والمراقبة الفضائية. في أي من هذه الحروب لم تتمكن المعدات المستخدمة من تحديد النتائج سلفاً.

التكيف أو الهلاك

يكمن الدور المحدود للتقدم التكنولوجي في الحرب في حقيقة أنها تشكل جانباً واحداً فقط من العوامل المؤثرة على النتائج. وعلى القدر نفسه من الأهمية، إن لم يكن أكثر أهمية، هو كيفية استخدام المقاتلين لهذه التكنولوجيا والتكيف مع المعدات التي يستخدمها خصومهم.

وكان هذا صحيحاً منذ فجر العصر الحديث. على مدى أكثر من قرن من الزمان، كانت الأسلحة فتاكة إلى درجة عرضت فيها القوات المكشوفة للجيوش إلى معدلات خسائر مدمرة. وحتى منذ عام 1914، كان بإمكان أربعة مدافع ميدانية فقط من عيار 75 ملم أن تشبع منطقة بحجم ملعب كرة قدم بشظايا قذائف قاتلة في وابل واحد. يمكن للنسخة الفرنسية من هذا السلاح - طراز Soixante-Quinze لعام 1897 – أن ينجز هذا 15 مرة خلال دقيقة واحدة مع توفر كمية كافية من الذخيرة. أي جيش يقوم بشكل متهور بمهاجمة مواقع محصنة ومسلحة بمثل هذه الأسلحة سيكون عملياً في مهمة انتحارية. حتى الدبابات المدرعة الثقيلة يمكن أن تصبح غير فعالة عند مهاجمتها بشكل جماعي بواسطة الأسلحة الحديثة المضادة للدبابات إذا تبنت مثل هذه التكتيكات، كما يتضح من حوادث مهاجمة الدبابات البريطانية للمدافع الألمانية المضادة للدبابات في "غودوود"، والدبابات الألمانية التي هاجمت المدافع السوفياتية المضادة للدبابات في كورسك.

ونتيجة لذلك، تعدل معظم الجيوش استراتيجياتها عندما تواجه قوة نارية حديثة. وفي بعض الأحيان، يتضمن هذا التعديل إدخال تقنيات جديدة لمواجهة تكنولوجيا العدو. على سبيل المثال، أدى تطوير المدافع المضادة للدبابات إلى صناعة دبابات مجهزة بدروع أثقل. رداً على ذلك، طورت مدافع أكبر مضادة للدبابات، التي قادت بدورها إلى تعزيز دروع الدبابات، لتستمر دورة الأمور كذلك. وظهرت تكرارات متعددة لهذه السباقات التكنولوجية للتدابير المضادة خلال الحرب في أوكرانيا. على سبيل المثال، قوبل ظهور طائرات مسيرة مكلفة ومتطورة بنشر صواريخ موجهة مضادة للطائرات. وهذا بدوره، دفع المقاتلين على استخدام كميات أكبر من الطائرات المسيرة الرخيصة والبسيطة. التي ووجهت بمدفعية مضادة للطائرات أبسط وأرخص ثمناً وأجهزة تشويش محمولة وما إلى ذلك. تستخدم أنظمة صواريخ HIMARS الموجهة بعيدة المدى التي قدمتها الولايات المتحدة لأوكرانيا في يونيو (حزيران) 2022 إشارات نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) للتوجيه، ويقوم الروس الآن بشكل روتيني بالتشويش على الإشارات، مما أدى إلى انخفاض كبير في دقة الصواريخ. إن التدابير التقنية المضادة موجودة في كل مكان في الحرب، وهي تحد بسرعة من أداء عديد من الأسلحة الجديدة.

لكن التعديلات الأكثر أهمية لا تتعلق في كثير من الأحيان بالتكنولوجيا، بل بمجال العمليات والتكتيك. فهي تنطوي على تغييرات في الطريقة التي تستخدم بها الجيوش المعدات المتاحة لها. منذ أكثر من قرن من الزمان، طورت الجيوش تكتيكات تقلل من تعرضها لنيران العدو من خلال استغلال عناصر التشتيت واستخدام التضاريس الطبيعية كغطاء والتخفي والتغطية النارية. توفر التضاريس المعقدة لسطح الأرض عديداً من الفرص للتغطية (عوائق لا يمكن اختراقها مثل سفوح التلال) والإخفاء (عوائق مبهمة مثل أوراق الشجر) ولكن فقط إذا ما قامت الجيوش بتوزيع قواتها وتقسيم التشكيلات الكبيرة المركزة إلى وحدات فرعية أصغر قادرة على التخفي ضمن الغابات والأجزاء الداخلية للمباني والطيات غير المستوية في الأرض التي توفر إمكان أكبر لتجنب نيران العدو.

لم تكن معدلات الضحايا في أوكرانيا مرتفعة بشكل غير عادي بالمعايير التاريخية

لقرون عدة، عززت القوات العسكرية حمايتها الطبيعية من خلال حفر الخنادق والمخابئ والتحصينات الميدانية. وبحلول عام 1917، أحرز تقدم كبير عندما اكتشفت الجيوش قدرتها على تقليل الخسائر خلال فترات قصيرة من التعرض لنيران العدو والتقدم بنجاح في ساحة المعركة من خلال الجمع بين التغطية النارية وإعادة التموضع السريع من منطقة إلى أخرى. طورت القوات المهاجمة استراتيجية تتضمن الاستخدام المنسق للمشاة والدبابات والمدفعية والمهندسين والطائرات ومزيداً غيرها لتسهيل أسلوب قتال "إطلاق النار والحركة". وشمل هذا النهج وحدات مشاة لديها القدرة على تحديد أماكن اختباء العدو، ودبابات قادرة على استخدام القوة النارية للقضاء على هؤلاء الأعداء، ووحدات مدفعية توفر التغطية النارية لحماية القوات المتقدمة، ومهندسين مجهزين لإزالة الألغام، وطائرات لتقوم بضربات جوية وحماية القوات البرية من التهديدات الجوية للعدو. كذلك اعتمدت القوات المدافعة استراتيجية توزيع القوات المتحصنة لتأخير تقدم المهاجمين. في الوقت نفسه، كانت الوحدات الاحتياطية المتمركزة في الخلف مستعدة للتحرك بسرعة وتعزيز المواقع الدفاعية في النقاط الضعيفة المعرضة للتهديد. لعبت هذه الاستراتيجيات دوراً محورياً في كسر مأزق حرب الخنادق في عام 1918، واستخدمت التعديلات والتوسعات اللاحقة لهذه المبادئ باستمرار في الحرب منذ ذلك الحين.

القوات الجوية، وعلى عكس الجيوش البرية، غير قادرة على إنشاء مواقع دفاعية، ولكن يمكنها استخدام أساليب بديلة لتجنب نيران العدو. فبإمكانها استخدام تكتيكات مثل الطيران على ارتفاعات معينة وعلى طول مسارات طيران محددة للتهرب من الدفاعات الجوية للعدو. يمكن لها أيضاً تنسيق عملياتها مع القوات البرية أو الطائرات الأخرى لتجنب نيران الدفاع الجوي خلال فترات قصيرة من انكشافها على نيران العدو. وللحد من مخاطر الهجمات الاستباقية على الأرض، يمكنها العمل من مدارج متعددة. إضافة إلى ذلك، ابتعدت القوات الجوية عن التشكيلات الكثيفة أثناء الطيران، وابتعدت عن الغارات الحاشدة كالتي شارك فيها آلاف القاذفات خلال الحرب العالمية الثانية. وبما أن الأسلحة المضادة للطائرات أصبحت أكثر فتكاً، فقد تكيفت القوات الجوية، مثل القوات البرية، للحد من نقاط ضعفها.

 

عند تطبيقها بشكل صحيح، يمكن أن تكون هذه التقنيات فعالة للغاية. من دون مواجهة تغطية نارية، يمكن لطاقم منفرد يقوم بتشغيل نظام صاروخي موجه مضاد للدبابات BGM-71 القضاء على ما يصل إلى سبع دبابات على مسافات تزيد على ميل ونصف في غضون خمس دقائق فقط. ومع ذلك، إذا اضطر الطاقم إلى البحث عن غطاء والتنقل خلال الإطلاق بسبب النيران المعادية، فإن معدل القتل يمكن أن يتضاءل إلى دبابة واحدة فقط أو حتى أقل.

ولنتأمل هنا سيناريو تتمركز فيه سرية مشاة قوامها 100 جندي في العراء على جبهة مساحتها 200 ياردة، يمكن أن تتأثر بشكل مدمر بقصف مدفعي واحد من كتيبة معادية. في المقابل، إذا وزعت الوحدة نفسها على جبهة مساحتها 1000 ياردة وعمق 200 ياردة، فقد تنخفض الخسائر إلى أقل من 10 في المئة. علاوة على ذلك، إذا تمكنت الوحدة من إخفاء نفسها إلى حد ما وأخطأ وابل المدفعية مركز التشكيل، فيمكن تقليل الخسائر إلى أقل من خمسة بالمئة.

يمكن أن يؤدي تفرق القوات أيضاً إلى جعل الأهداف أقل جاذبية لضربها. على سبيل المثال، فإن استخدام قذيفة مدفعية موجهة من عيار 155 ملم بقيمة 100 ألف دولار لاستهداف موقع يضم رجلين، حتى لو حددت طائرة مسيرة خندقهما بدقة، قد لا يكون فعالاً من حيث الكلفة. فعندما يتفرق الجنود في ساحة المعركة، يصبح من العقلاني من الناحية الاقتصادية محاولة إصابتهم بقذائف غير موجهة وأقل كلفة. ومع ذلك، فإن هذا النهج له سلبياته أيضاً: في كل مرة تطلق فيها المدفعية، يكون هناك خطر اكتشافها. ولذلك، فإن إطلاق قذائف عدة غير موجهة على هدف صغير واحد يعرض وحدة المدفعية لاحتمال الانتقام، مما يؤدي إلى مكاسب محدودة.

في المقابل، فإن الطائرات، التي يمكن أن تصبح أهدافاً سهلة عندما تحلق فوق الدفاعات الجوية للعدو، تكون أقل عرضة للخطر بشكل ملحوظ عندما تعمل تحت تغطية رادار العدو وتشن هجماتها من مواقع خلف الخطوط الصديقة.

ومع ذلك، قد يكون من الصعب تنفيذ مثل هذه الأساليب بشكل صحيح. وتستطيع أغلب الجيوش إدارة عمليات الانتشار والتغطية والإخفاء على مستوى الوحدات الصغيرة، ولو عن طريق التحصين فقط. وهذا من شأنه أن يقلل من معدلات الخسائر، ولكنه يحد أيضاً من قدرة الجيش على تحقيق أي إنجازات إذا كان هذا هو كل ما يستطيع القيام به. يمكن للقوات الجوية أن تقتصر على الارتفاعات المنخفضة في المناطق الخلفية الآمنة، لكن هذا يحد من مساهمتها في القتال.

يتطلب الاستيلاء على الأرض على نطاق واسع ومنع العدو من القيام بذلك قيام القوات بتنسيق الدفاعات المتقدمة مع القوات الاحتياطية المتنقلة، والجمع بين عناصر المشاة والمدرعات والمدفعية والمهندسين والدفاع الجوي، وأكثر من ذلك، في الهجوم، ودمج النار والحركة على نطاق واسع، وهي مهمات أصعب بكثير. وأتقنت بعض الجيوش هذه المهارات، بعضها الآخر لم يفعل ذلك. عندما تكون الدفاعات متقدمة، وجاهزة، ومدعومة بعناصر احتياط متنقلة، فقد ثبت مراراً وتكراراً أنه من الصعب للغاية اختراقها - بغض النظر عما إذا كان المهاجمون يمتلكون دبابات أو أسلحة موجهة بدقة. ولكن عندما تكون الدفاعات ضعيفة، أو سيئة الإعداد، أو غير مدعومة بشكل كاف بعناصر الاحتياط، فإن القوات المهاجمة والقادرة على استخدام أنواع الأسلحة المختلفة وتكتيك إطلاق النار والحركة على نطاق واسع سيكون باستطاعتها الاختراق والسيطرة على الأرض بسرعة – من دون استخدام الدبابات وحتى في مواجهة الأسلحة الموجهة عالية الدقة. ولنفكر على سبيل المثال في اختراق عناصر المشاة الألمان في عام 1918 أو المكاسب الأوكرانية في مواجهة الطائرات المسيرة والأسلحة الدقيقة الروسية في خاركيف في عام 2022.

التكنولوجيا الحديثة مهمة، لكن التكيف الذي أظهرته الجيوش بشكل متزايد منذ عام 1917 خفف بشكل كبير من آثارها في النتائج. إن الأسلحة الدقيقة التي تثبت فاعليتها التدميرية على الأرض أو ضد أهداف جماعية مكشوفة لن تحقق سوى معدلات إصابات أقل بكثير ضد القوات المتفرقة والمتخفية. وبما أن الأسلحة أصبحت أكثر فتكاً مع مرور الوقت، فإن تكيف الجيوش واظب على مواكبة ذلك. في القرن الـ19، على سبيل المثال، كانت الجيوش تحشد قواتها عادة في ساحة المعركة بكثافة تتراوح بين 2500 إلى 25000 جندي لكل ميل مربع. وبحلول عام 1918، انخفضت هذه الأرقام بمقدار 10 أضعاف. وبحلول عام 1945، كانت هذه المعدلات انخفضت بمقدار 10 أضعاف أخرى. وبحلول حرب الخليج عام 1991، كانت قوة بحجم قوة نابليون في واترلو منتشرة على مساحة تبلغ نحو 3 آلاف ضعف المساحة التي احتلها الجيش الفرنسي في عام 1815.

إن هذا المزيج من التكنولوجيا الأكثر فتكاً والأهداف المتفرقة والمخفية بشكل متزايد أنتج تغيراً حقيقياً في النتائج المحققة مع مرور الوقت أقل بكثير مما يتوقعه المرء من خلال النظر فقط إلى الأسلحة وليس إلى تفاعلها مع السلوك البشري. إن الأدوات الأفضل تساعد دائماً، وكانت المساعدات الغربية لأوكرانيا حاسمة في تمكين أوكرانيا من التعامل مع الجيش الروسي المتفوق عددياً. لكن التأثير الفعلي للتكنولوجيا في ساحة المعركة يتشكل بقوة من خلال سلوك مستخدميها، وفي أوكرانيا، كما كان عليه الحال في القرن الماضي الذي شهد حروب القوى العظمى، كان هذا السلوك عادة مؤشراً أفضل للنتائج من المعدات نفسها.

إلى جانب التغيير

على رغم استخدام كثير من المعدات الحربية الحديثة في الحرب الأوكرانية، إلا أنها لم تحقق أية نتائج فاعلة. لم تكن معدلات الضحايا في أوكرانيا مرتفعة بشكل غير عادي بالمعايير التاريخية. لقد تمكن المهاجمون في أوكرانيا في بعض الأحيان من التقدم، وفي أحيان أخرى لم يتمكنوا من ذلك، لم يكن هناك نمط من الجمود الدفاعي الموحد. وذلك لأن أولئك الذين يقاتلون في أوكرانيا تعاملوا مع الأسلحة الفتاكة الجديدة تماماً كما فعل أسلافهم من خلال التكيف مع مجموعة من التدابير المضادة الفنية ومواصلة توسيع الاتجاهات المستمرة منذ قرن نحو زيادة التمويه والتغطية والاختفاء والتغطية النارية التي قللت من تعرض كلا الجانبين للنيران المعادية.

على رغم تكبد خسائر كبيرة، وهو أمر شائع في الحروب الكبرى، إلا أن معدلات الضحايا في أوكرانيا لم تعق تحقيق مكاسب كبيرة على الأرض في الهجمات التي استهدفت مدناً مثل كييف وخاركيف وخيرسون. يظل تحقيق النجاح في العمليات الهجومية تحدياً هائلاً، ويتطلب عادة مزيجاً من الخبرة الهجومية واستغلال نقاط الضعف الدفاعية، كما كان الحال على مر التاريخ. وفي أوكرانيا، كما كانت الحال في الماضي، عندما استهدف مهاجمون ماهرون دفاعات هزيلة وغير مستعدة وتفتقر إلى الاحتياطيات الكافية أو الدعم اللوجستي، تمكنوا من الاختراق. وعلى العكس من ذلك، عندما تغيبت هذه العناصر، كانت النتيجة عموماً هي الجمود في الجبهة. ولا تعزى هذه النتيجة إلى وجود الطائرات المسيرة أو الوصول على نطاق واسع إلى الإنترنت عالي السرعة، بل هو امتداد محدود للاتجاهات الراسخة والتفاعل الدائم بين التكنولوجيا والقدرة البشرية على التكيف.

إذا كانت الحرب في أوكرانيا تطورية أكثر منها ثورية، فإن لها آثاراً كبيرة في التخطيط والسياسة الدفاعية. ولا ينبغي للدول الغربية أن تفكر في وقف السعي وراء الأسلحة والمعدات الحديثة أو تجميد تطوير العقيدة. على رغم أن التغييرات قد تكون تدريجية ومتزايدة، فمن المهم أن نفهم أن التغيير التطوري لا يزال يمثل تغييراً. إن جوهر التكيف في السياق العسكري هو الحاجة إلى تبني أساليب ومعدات جديدة.

ولنتأمل هنا ما يلي: إن دبابة من عام 1916 ستكون غير كافية إلى حد كبير في سيناريو ساحة المعركة في عام 2023. ونشأت معدلات الاستنزاف المستقرة نسبياً التي لوحظت في الحرب منذ الحرب العالمية الأولى من التكيف المستمر والمتبادل بين الجانبين المعنيين. لقد سعى المقاتلون باستمرار إلى منع خصومهم من الحصول على ميزة كبيرة. ولذلك، يظل تطور القدرات العسكرية ضرورة مستمرة للحفاظ على الميزة التنافسية والتكيف مع التحديات الناشئة.

 

وتتوقف الحجة الأساسية وراء "أطروحة الثورة" على وتيرة وطبيعة التغييرات المطلوبة في الحرب. إذا ما كانت الحرب تمر بثورة بالفعل، فإن النهج التقليدي المتمثل في التحديث التدريجي للأفكار والمعدات لن يكون كافياً، مما يتطلب اتباع نهج أكثر تطرفاً. على سبيل المثال، قد يستلزم الأمر التخلص التدريجي من الدبابات التقليدية بدلاً من تحديثها، كما يجب أن تحل الأنظمة الآلية محل البشر بسرعة، وسيكون هناك تحول قوي نحو التأكيد على الدفاع مع تثبيط الأعمال الهجومية إلا في ظل ظروف استثنائية.

ومع ذلك، فإن الحرب المستمرة في أوكرانيا، على رغم أنها لا تزال تتطور وتخضع لأدلة غير كاملة، لا تقدم دعماً كبيراً لمثل هذه الأفكار المتطرفة. إن عديداً من النتائج التي يمكن ملاحظتها حتى الآن لا تتوافق مع توقعات التغييرات الثورية في النتائج أو مع ضرورة إعادة التسليح بشكل جذري أو التحول العقائدي. وهذه الملاحظة تتفق مع التجربة التاريخية.

على سبيل المثال، لقد مر ما يقرب من 110 سنوات على تقديم الدبابة في عام 1916، واستمر الجدل حول تقادمها بسبب التقدم في الأسلحة المضادة لها لأكثر من خمسة عقود، أو ما يقرب من نصف تاريخ الدبابة بأكمله، ومع ذلك لا يزال الجانبان في أوكرانيا في عام 2023 يعتمدان على الدبابات ويبذلان كل ما في وسعهما للحصول على مزيد منها.

وحدث موقف مماثل في المؤسسة العسكرية الأميركية، مع إعادة تصميم القوات الجوية في الخمسينيات من القرن الـ20 حول افتراض أن التطور النووي في الحروب حل محل الحروب التقليدية وأن الحاجة إلى الطائرات في المستقبل ستكون من أجل نقل الأسلحة النووية في المقام الأول. شنت حرب غير نووية لاحقاً في فيتنام باستخدام قوة جوية كانت مصممة في الأصل لتحقيق مستقبل ذو تغير جوهري لم يتحقق قط. لسوء الحظ، ثبت أن هذا التصميم غير مناسب لظروف الحرب الفعلية التي واجهتها في فيتنام.

وبالمثل، أعيد تشكيل عقيدة الجيش الأميركي في عام 1976 على أساس افتراض أن الأسلحة الدقيقة جعلت العمليات الهجومية مكلفة للغاية وفي أغلب الظروف. أدى هذا التحول إلى تركيز أكبر على الحفاظ في المقام الأول على وضع دفاعي ثابت من مواقع معدة جيداً، وهو ما أصبح يعرف باسم عقيدة "الدفاع النشط". على رغم أن هذا المبدأ يمثل نهجاً مبتكراً، إلا أنه اعتبر في النهاية غير عملي واستبدل لاحقاً بعقيدة الهواء والأرض "AirLand Battle" الأكثر تقليدية. وطبق الجيش الأميركي هذا المفهوم بشكل فعال خلال العمليات الهجومية في الكويت في عام 1991.

طوال أجيال ما بعد الحرب العالمية الثانية، كانت الدعوات إلى التغيير الثوري والتحول في استراتيجيات الدفاع شائعة ولكنها في كثير من الأحيان لم تصمد أمام الاختبار على الأرض. وبعد عام ونصف العام من الحرب في أوكرانيا، ليس هناك من الأسباب ما يجعلنا نعتقد أن هذه الدعوات للثورة ستتحقق هذه المرة.

* ستيفن بيدل هو أستاذ في كلية الشؤون الدولية والعامة بجامعة كولومبيا الأميركية وزميل أول مساعد لسياسة الدفاع في مجلس العلاقات الخارجية. وهو مؤلف كتاب "القوة العسكرية: شرح النصر والهزيمة في المعركة الحديثة".

* مترجم من "فورين أفيرز" 10 أغسطس 2023

المزيد من آراء