ملخص
مسرحية وايلد حوّلها شتروس إلى أوبرا وتبدو شديدة الاختلاف والتحريض هنا لا يأتي من هيروديا بل من ابنتها "سالومي"
إذا كان قد بدا طبيعياً دائماً أن يكتب أوسكار وايلد يوماً مسرحية، ستصبح من أشهر أعماله، عن "سالومي"، فإن الغرابة تكمن في أن يكون الموسيقي الألماني ريتشارد شتراوس هو الذي حوّلها إلى تلك الأوبرا الشهيرة التي نعرفها اليوم، صحيح أن شتراوس نفسه كتب من ضمن أعماله الكبيرة، أوبرا أخرى لا تقل سواداً وكآبة عن "سالومي" هي "إليكترا"، لكن السؤال الذي ينطرح بصدد هذين العملين يمكن أن يكون هو نفسه: كيف دنا موسيقي كان حينها بالكاد يدنو من عامه الـ 40 ويعيش ذروة مجده وسعادته متزوجاً حديثاً من امرأة يحبها يشعر بهناءة العيش معها، من عملين يتسمان بكل تلك الكآبة، وتمكن من أن يترك المجال للإجرام والموت والعواطف الجامحة تخيم عليهما بلا حدود؟ في ذلك الحين، وتحديداً حين اختار شتراوس مسرحية وايلد عن "سالومي" بعد أن شهد عرضاً لها بالفرنسية من تمثيل سارا برنار، إذ نصحه سيّد المسرح الأوروبي ذلك الحين، ماكس رينهاردت بمشاهدتها، فتن بها إلى درجة أنه حين سأله واحد من معارفه لماذا تراه لا يحوّل تلك المسرحية إلى أوبرا، أجابه من فوره بأنه يعمل حقاً على ذلك التحويل مع أنه لم يكن قد فكر مجرد التفكير بالأمر حينها.
افتتان بإيزولت ولولو
الحقيقة أن ما دفع شتراوس حقاً إلى خوض "تلك المغامرة" بحسب تعبيره، كان افتتانه قبل سنوات بأوبرا فاغنر "تريستان وإيزولت" قبل أن يفتتن لاحقاً بأوبرا آلبن بيرغ "لولو"، وتساؤله الدائم بينه وبين نفسه متى يتاح له أن يلحن عملاً من هذا المستوى، ولا شك أن شتراوس، وهو يقبل الأمر، كان يستعرض المبدعين الكبار الذين كان قد سبق لهم، وكل على طريقته أن دنوا من "سالومي"، تلك الشخصية التاريخية الرهيبة ومن ذلك "الحب" الذي انتهى وسط بركة من الدماء، دماء الشهيد المعمدان الذي ذبحته "سالومي" كما تقول الحكاية التوراتية ثم دمائها هي نفسها. وكان شتراوس يعرف أن أوسكار وايلد لم يكن أول من فتنتهم تلك الحسناء القاتلة. فمن قبل وايلد كان هناك بالطبع غوستاف فلوبير وستيفان مالارميه في الأدب، وغوستاف مورو الذي كان معروفاً بلوحته الغامضة التي صوّر فيها تلك الشخصية، ولسوف يكون من بعده غوستاف كليمت أحد كبار رسامي "فيينا الكابوس السعيد" والذي رسم "سالومي" من خلال رسمه شخصية "جوديث"، ولا بدّ أن نشير، في هذا السياق، إلى أن شتراوس، وفي المجال الأوبرالي تحديداً، عرف كيف يجعل من "سالومي" الضلع الثالث في مثلث يتألف منها ومن "إيزولت" و"لولو" يجمع بينهنّ ذلك التقاطع بين الحب والجنس والموت في نقطة تعتبر محورية في الإبداع الغربي، ويمكننا أن نقول مع الباحث الفرنسي إيتيان باريلييه إن أوروبا كانت تعيش في تلك المرحلة، التي تتوسطها نهاية القرن الـ 19 وبداية القرن الذي تلاه، حقبة يتمازج فيها عنصرا "إيروس" و"ثاناتوس" هذان بطريقة تحمل كل التصرفات المتعلقة بالموت والجمال في آن معاً. ولا سيما في تراث فيينا الذي خلق فكرة "الكابوس السعيد".
المبدع المشاكس يفتتن
أما بالنسبة إلى أوسكار وايلد، فيروى أنه بعد أن شاهد، عام 1876، في معرض، لوحة غوستاف مورو افتتن بالشخصية من فوره، ولقد شاءت الصدفة أنه بعد سنوات قليلة، وفي ما كانت سارا برنار تلعب أحد أدوارها قيّض له أن يشاهد تمثيلها وما إن انتهى العرض حتى صرخ "وجدتها!" وجمع أفكاره ليعيد كتابة نص كان قد دوّنه باختصار انطلاقاً من لوحة مورو، وكانت كتابته له بالفرنسية، وقد بدا متأكداً من أن سارا العظيمة ستكون هي "سالومته"، وبالفعل، ستلعب سارا الدور بالفرنسية في لندن للمرة الأولى، عام 1892، في عرض سيجعل العاصمة البريطانية الفيكتورية كلها تشعر، منذ صباح اليوم التالي، بأنها عاشت، مساء أمس، فضيحة ما بعدها من فضيحة.
وكان أن وصلت المسرحية، كما أشرنا، بعد فترة يسيرة إلى حيث شاهدها ريتشارد شتراوس، والحقيقة أن هذا الموسيقي الذي كان يعيش أسعد أيامه حينها لم يتردد طويلاً بل انكبّ من فوره على موسقة مسرحية وايلد من دون أن يعبأ بما فيها من تناقض مع كل ما يعيشه ويفكر فيه، بل لسوف يقول لاحقاً إن "سالومي" قد علّمته كيف يفرّق تماماً بين ذاته وعمله، وهكذا تمكّن من إبداع عمل كان أول ما اهتم فيه هو أن يجرد نص وايلد من كل ما كان يبدو له زوائد يمكن للأوبرا الاستغناء عنها، "ولا سيما تلك التي ما كان من شأن وايلد أن يكتبها لو أنه لم يكن قد وضع حتمية أن تقوم سارا برنار بأداء الدور، فهي لحظات وزوائد كتبت في الأصل من وحي سارا برنار ولا علاقة لها بسالومي التاريخية بأية حال من الأحوال" سيقول، ومن هنا، كان أكثر ما يهم الموسيقي هو الاشتغال على نوع من التكثيف ولو بصرف النظر عن الفعل التاريخي الذي تقول الحكاية إن منطقة الجليل في فلسطين قد عرفته بين عامي 25 و30 بعد الميلاد.
بين الحقيقة والأسطورة
وتنطلق الحكاية التاريخية كما نعرف بشكل عام، من كون تلك المنطقة من العالم كلها كانت ومنذ العام السادس بعد الميلاد خاضعة لحكم هيرود الأكبر الذي، بعد موته تحولت فلسطين، لتخضع للحكم الروماني مباشرة ما عدا منطقة صغيرة نسبياً هي الجليل التي بات يحكمها هيرود أنتيباس، وإلى تلك المنطقة توجه بين عامي 25 و30 يوحنا المعمدان الذي راح يبشر هناك بالدين الجديد، فقبض عليه هيرود أنتيباس هذا وحاكمه بوصفه ثائراً متمرداً على الدولة ليعدمه بتحريض من هيروديا زوجة الحاكم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن المسرحية التي كتبها وايلد وحوّلها شتروس إلى أوبرا تبدو شديدة الاختلاف، فالتحريض هنا لا يأتي من هيروديا بل من ابنتها "سالومي"، التي هي في الأصل ربيبة هيرود، أما الدوافع السياسية المذكورة تاريخياً فإن وايلد أبدلها بدوافع تتعلق بالرغبة والشغف، إذ نجده وقد جعل "سالومي" عاشقة مولهة بالمعمدان، وهكذا، على رغم أن هيرود يمنعها بأمر صارم منه أن تدنو من المعمدان تحاول إغراء قائد الحرس الذي يطمع بالتقرب منها، كي يجمعها بالأسير، فيتمنع القائد نارابوث، فتتشدد في محاصرته مقدمة له كل الإغراءات، لكنه إذ يصرّ على تمنعه، تتجه هذه المرة ناحية عمها الحاكم هيرود (الذي يصوره أوسكار وايلد طامعاً فيها بدوره) وقد استجابت من ناحيتها للقيام من أجله، برقصة المناديل السبعة التي ستصبح من أشهر رقصات الإغراء في تاريخ الفن، وكان شرطها أن يمنحها الحاكم تحقيق أمنية واحدة من أمنياتها مقابل ذلك.
خدعة الراقصة المولهة
يوافق هيرود ولكن من دون أن يعرف مسبقاً ما هي تلك الأمنية التي أعطى كلمته بأن تحقق لـ "سالومي"، ولم يكن ما تتمناه هذه الأخيرة سوى رأس المعمدان المقطوعة، وبالفعل كان لا بدّ من حصولها على الرأس التي، في مشهد أخير من المسرحية، كما من الأوبرا، وهو المشهد الذي أثار في لندن تلك الفضيحة التي ذكرناها أول هذا الكلام، في ذلك المشهد تقف "سالومي" حاملة الرأس المقطوعة منحنية على شفتي الشهيد الباردتين تقبلهما بكل الشغف الذي تحمله لصاحب الرأس، أما هيرود، فإنه حين يعي رعب الحدث وخديعة "سالومي" وجنونها، يصرخ وقد استبد به الرعب والغضب والمذلة في آن معاً أن هذا المشهد الذي رآه سيجلب "النحس وأعلى درجات الشؤم إلينا" وذلك قبل أن يأمر بإعدام "سالومي".
ولعل ما يمكننا أن نختم به هذا الكلام هنا هو التحليل الذي قدمه عدد من الذين كتبوا عن التكامل بين الشخصيات النسائية الثلاث، "سالومي" و"إيزولت" و"لولو"، في مجال تعبيرهنّ "المشترك" عن الجنس والموت في بوتقة واحدة، من أنه إذا كانت "إيزولت" أنثى وجد الحب الجنسي طريقه إليها، وإذا كانت "لولو"، في المقابل، تمثل ذلك الحب الجنسي وقد انطبع بإنسانية بيّنة، فإن "سالومي" هي في نهاية أمرها، الحب الجنسي نفسه، و"إنما بوصفها مجرد أسطورة تعوم فوق الواقع من دون أن تحل مكانه"، وهو ما أضفى على عمل وايلد - شتراوس المشترك في رأي الباحث باريلييه، "سمة تنتمي إلى نزعة جمالية خالصة لا علاقة لها بالتاريخ على الإطلاق".